Alef Logo
ابداعات
              

الغروب لا يأتي سرّا

د . سناء الشعلان

خاص ألف

2018-01-27

يقول له صديقه معزّياً ومواسياً له:" لا تجزع يا صديقي،فعند كلّ إنسان أمر يخشاه.أتصدّق أنّ قائدنا في الجّيش يخاف من الدّم،ويفزع منه أشدّ الفزع على الرّغم من أنّه ترأس أكثر من عمليّة إبادة جماعيّة للفلسطينيين؟!"
يردّ عليه بخجلٍ من حالته:" ولكنّني لا أخشى الدّم،بل أستمتع به جداً،وقمّة فخري أن أسفحه من رقاب الفلسطينيين المخرّبين الذين يعيثون فساداً في دولتنا،ولكن يا للعار،أنا أخشى غروب الشّمس،أصاب بهلع عظيم عندما تغيب الشّمس،وتتركني وحيداً في ظلمة هذا الكون،فأتخيّل أنّ كلّ الفضاء حولي يعجّ بالأرواح الشّريرة التي تطاردني بمصائدها النّاريّة،وتحاول أن تنهش جسدي بمعاولها المسنّنة،وتسعى لخطف أرواح أبنائي،لتجرّها إلى الجحيم،هذا أمر رهيب،أكره اللّيل،وأخشى لحظاته التي أقضيها في صراع مع شياطين وهميّة لا يراها أحد سواي، ولذلك تمعن في تعذيبي".
- "حالة غريبة بحق.عليك زيارة طبيب نفسيّ لاستشارته في هذا الشّأن" يقول صديقه معلّقاً على حالته.
- "عرضتُ نفسي على أكثر من طبيب نفسيّ،ولكن دون فائدة،فلا أحد منهم يستطيع أن يساعدني،ولا الشّمس تتشبّث بمكانها في السّماء،ولا الغروب يأتي سرّاً،فلا يوقظ الأرواح الشّيطانيّة التي تتفلّت من عوالمها تقصد أن تطاردني بعذابها المسوم".يجيب الجنديّ الصّهيونيّ بهلع ووجع.
- " ولكن لماذا؟ ما سبب هذه الحالة المرضيّة النّادرة" .يسأل صديقه من جديد؟
- " لا أعرف،بحقّ أنا لا أعرف لها سبباً،ولكّنني أتمنى أن يأتي الغروب سرّاً". يهتف الجنديّ بنبرة رجاءٍ وتمنٍّ.
يصمت الصّديق،وتزوغ عيناه بعيداً نحو الأفق،ونحو ذلك اليوم الذي يحاول أن يبتلع ذكراه لحظة بعد لحظة،فيخفق في ذلك،ويأتي الغروب ليخزه بذكراه التي تقضّ مضجعه،وتحوّله إلى ملعون سيزيفيّ لا يعرف عذابه نهاية أو عقابه توقّفاً،يومها كانت الشّمس تكاد تنزلق خلف الجدار العازل لتردي المكان في المزيد من الظّلمة والوحشة،وكان هو الحارس الليليّ المسؤول عن حراسة البّوابة في المساء بعد عناء يوم طويل من المراقبة،وتفتيش العابرين،والتّفنّن في تعذيبهم وتعطيلهم وتوقيفهم وتأخيرهم وإذلالهم،فهو متورط معهم في هذه اللّعبة الظّالمة بقدر تعذيبه لهم؛إذ لا يمكن أن تكون مُعِّذِباً دون أن تكون مُعَّذَباَ!
وجاءت تلك المرأة الفلسطينيّة لتعبر البوّابة دخولاً إلى منطقة سُكناها في المدينة المعزولة التي طوّقها الجدار من كلّ مكان كشريط سحريّ شرير خانق،كانت تجرّ ستّة أطفال،وتحمل في بطنها تلاً لحميّاً يمور بجنين قد أزف موعد خروجه إلى الحياة،كانت مرهقة وبادية التّعب،وجد لذّة خاصة مستفزّة في مشاكستها،وتعطيلها وتلويعها وأبناءها الصّغار قبل أن يسمح لها ولهم بالعبور من البوّابة،وعندما ردّته بشموخ لا يُتوقّع من قسماتها الكسيفة،ومن شحوبها البادي،ومن لهاثها الموصول،قرّر أن يبالغ في تمتّعه بتعذيبها بأن يمنعها من العبور من البوّابة إلى أن يخيّم ظلام اللّيل،ليتشفّى ببؤسها وهي تفترش الأرض،وتتلحّف بالسّماء وبنوها على باب الجدار حتى الصّباح.
كان يتوقّع أن ترضخ لذلّه،أو أن تتضرّع له من أجل العبور،ولكنّها لم تفعل ذلك،بل تفلت في وجهه غير آبهة بجبروته،وجمعت أبناءها على عجل،وأدارت ظهرها لتعود بهم من حيث أتت.اشتعلت نيران الغضب في صدره الصّدئ،وأطلق حشداً من رصاصات نزقة باتّجاهها،فخرّق جسدها وأجساد بنيها في لحظات،تكوّموا جميعاً على الأرض غارقين في بركة دم حار من جداول أجسادهم،وغربت الشّمس تماماً هروباً من هذا المشهد المروّع،وبقيت عينا تلك المرأة تشخصان نحو السّماء،وترفضان أن تُغلقا،وتتوعدان بانتقام،هكذا فهم نظراتها،وصمّم على أنّها تحدّثه وتتوعدّه بالثأر،وعندما عجز الجنود ع� � إغلاق عينيها انهال عليها بوابل جديد من الرّصاصات حتى بدا بطنها كمصفاة معدنيّة قديمة،ولكّنها على الرّغم من ذلك ظلّت شاخصة العينين تتوعدّه بانتقام قريب.
من يومها بات غروب الشّمس يروّعه؛إذ يكشف له عن عينيها الشّاخصتين،ويتوعّده بالعذاب،وزاد الطّين بلّة حمل زوجته بطفلهما الثّالث،هو يعرف أنّ الموت قريب،وأنّ الانتقام قد أزف،لابدّ أنّ الانتقام سيكون من جنس العمل،ولذلك لا بدّ أنّ الأرواح الشّريرة ستفتك ببنيه وبزوجته الحامل لتحرق قلبه كما أحرق قلب ذلك الأب الفلسطينيّ على زوجته وأولاده.
"ولكن ما ذنب زوجتي وأطفالي الصّغار بما اقترفت يداي؟!"يسأل الأرواح الشّريرة التي تطارده،فترّد عليه بسؤال تنفخه في وجهه بلسان لهيب:"وما ذنب تلك المرأة الفلسطينيّة وأولادها الصّغار لتقتلهم دون رحمة؟!"
- " لا ...لا ... لن يقتل أحد أيّاً كان زوجتي وأولاديّ الصّغار،دعوهم يعيشون،دعوهم يأكلون ويشربون ويكبرون،هم سيموتون في يوم ما،ولكن ليس الآن؟" يرجو الجنديّ الأرواح متضرّعاً.
تجلجل الأرواح بضحكات خشنة ،وتقول بحزم:" بل عليهم أن يموتوا الآن".
- " ةلا ...لن يكون ذلك أبداً،ابنتي الصّغيرة راحيل تخاف من الموت والقبور،أحبّها أكثر من كلّ البشر،هي أشدّ رقّة من نسمة صيف،لن يقتلها أيّ أحد،ويجب أن تعيش مديداً وأن تسعد كثيراً".يزمجر الجندّي،ثم يغادر غرفته كالمجنون حاملاً مدفعه الرّشاش،ويهبط سلّم البيت سريعاً متوجّهاً إلى المطبخ حيث يجد زوجته الحامل وطفليه متحلّقين حول مائدة العشاء،يشيّع دهشتهم بلا مبالاة،ويشرع يخرّقهم برصاصات مدفعه مبتدئ بابنته راحيل التي تخاف الموت والقبور،ويحبّها أكثر من البشر أجمعين،وعينا المرأة الفلسطينيّة القتيلة الشّاخصة العينين تقدحان شرراً،وهو يصرخ بهس� �يريّة:"هؤلاء زوجتي وطفلي،أنا أحبّهم،لن يقتلهم أحد سواي،هيّا اغربي عن وجهي أيّتها المرأة الملعونة

______________


د.سناء الشعلان/ الأردن
أديبة أردنية من أصول فلسطينية
[email protected]


د.سناء الشعلان/ الأردن
أديبة أردنية من أصول فلسطينية
[email protected]

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الغروب لا يأتي سرّا

27-كانون الثاني-2018

نجيب محفوظ يكتب ألف ليلة وليلة من جديد

29-كانون الأول-2017

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow