Alef Logo
الغرفة 13
              

هل كان نورمان الماغوط أشجع من الله ؟

حسان محمد محمود

خاص ألف

2018-05-12

ما كان سهلاً العثور على استهلالٍ لهذه المقالة، التي لن تبحث في المقارنة بين مقولة بشرية وأخرى إلهية، أو تجري مفاضلةً بين نصٍ نورماني وآخر انجيلي أو قرآني. ما سوف أتطرق إليه ينصرف إلى علاقة المؤلف بهذه النصوص، لجهة حضوره فيها، أو غيابه عنها؛ وكيف نظر نورمان الماغوط إلى هذه العلاِقة، ومارسها.

عليّ هنا أن أشكر الكاتب في صحيفة الشرق الأوسط "سمير عطا الله" الذي بدد حيرتي دون أن يقصد، فقد وفر لي المدخل الذي كنت أبحث عنه؛ إذ تشاء الصدف أن ينشر مقالة بتاريخ 29 نيسان 2018 أي بعد أسبوع من وفاة نورمان الماغوط المفاجئة، حملت عنوان "عالم أعقل" بدأها بخطأ مهم كما أعتقد، أتاح لي الاستناد إليه كي أستهل هنا ما أود التحدث عنه.

يقول "سمير عطا الله" في أول سطرٍ من مقالته (كان محمد الماغوط يقول إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في إيطاليا يجب أن تعرف ماذا يجري في البرازيل).

هذه المقولة المنسوبة لمحمد الماغوط ، أحسب أنه ليس قائلها، لكن طغيان اسمه، أودى بالكاتب إلى نسبتها له؛ فالقائل هو نهاد قلعي في عمله اللافت "صح النوم" الذي أخرجه خلدون المالح عام 1972 بينما باكورة أعمال الماغوط المسرحية كانت عام 1974 في مسرحية "ضيعة تشرين" وطبعاً، كما تعرفون، مع القاسم المشترك الأتـفه بينه و نهاد قلعي : دريد لحام، الذي، كما يبدو، سطوة اسمه بدورها دفعت سمير عطا الله للخلط بين اسمي الماغوط وقلعي، ما يعطي عبرةً لمثلبة أن يكون منجزك مستظلاً باسم لا يليق به كاسم لحام، وتلك كانت من هموم نورمان البارزة.

أحد أسباب حبوري بالعثور على هكذا مدخل لمقالتي هذه، هو أن هذا الخطأ يربط دون عمدٍ بين ماغوطين اثنين: محمد، ونورمان، الذي آثر النشر باسم وهمي هو "رجل الشمال" وأعلن أكثر من مرةٍ، قولاً، وكتابةً، تـبنيه مقولة الناقد الفرنسي "رولان بارت" في "موت المؤلف" للفصل بين حياتي وسيرورتي كل من النص وكاتبه.

على ضوء معرفتي به، يمكنني الجزم بأن نورمان كان يروم تحرير نصه من تبعات اقترانه بكنيته "الماغوط" كي لا يُـنظر له من خلال عدسات لا تنصف النص في سياقه ومبررات ظهوره ومناسبته وتأثيره، فيـُظلم إيجاباً تحت وطأة شهرة محمد الماغوط، أو سلباً كما ظلم "سمير عطا الله " نهاد قلعي.

ولكن نورمان كان يعيش داخل سوريا ويكتب من هناك؛ وهذا، وحده، سبب كافٍ كي يحجب اسمه، فأين الشجاعة في ذلك ؟

ثمة إجابتان على هذا السؤال: الأولى، هي إعلان نورمان عن نفسه، عن الاسم الحقيقي لصاحب الاسم المستعار "رجل الشمال" غير عابئ بالأثمان المحتملة، المترتبة على هكذا إعلان. لكن الأهم في هذا الإشهار - كما أرى - كان توقيته المنسجم مع مقولة "موت المؤلف" في المقال الأخير الذي أذاع فيه نورمان نبأ توقفه عن النشر في الفيسبوك والمعنون " نهاية رجل الشمال". أي: كشف عن شخصه بعد أن كف النص عن الحضور.

أما الإجابة الثانية، فيقولها نورمان نفسه، في مقالة باسم "المخـبر الحديث" وهذا نصها ( أحد مظاهر المخبر الحديث في العالم الافتراضي هو هجومه على الصفحات التي تحمل اسماً مستعاراً ابتزازاً واستفزازاً ! هو لا يكلِّفُ نفسَه عناءَ التساؤلِ عن الزوايا الجمالية أو الفنية التي تسهم في تعويم النص، وتحييد العوامل الشخصية، ولا يتذكر رولان بارت أو "موت المؤلِّف" اللذين لطالما تغنّى بهما، وكيف تَعْدُمُ هذه الرؤية شخصَ المؤلِّفِ لمصلحة النصِّ واللغةِ والقارئ. كذلك يتجاهل عشراتِ الكتَّابِ الكبار الذين قدَّموا أنفسهم لسنوات طوال بأسماء أخرى. إنه، وبسببٍ من خصاءٍ ذهنيٍّ، وانعدام القدرة على تجاوز قشرة القضايا وشكلياتها إلى اللبِّ، يحيلُ الأمرَ رأساً إلى الجرأةِ والشجاعةِ - وهذا أمرٌ مشروعٌ على كلِّ حالٍ بالنسبة لذوي الأسماء المستعارة في جغرافية تمتهن الفكر وتضعه في طليعةِ الأعداء، وهو يدين الواقع الذي يدافع عنه قبل أن يدين المتواري خلف اسمٍ مستعار- محاولاً تسفيه فكر الآخر عبر تسفيه صاحبه شخصياً ونعته بالجبن والفرار.).

هل نحن هنا في حضرة شجاعةٍ كشجاعة شاعرٍ قتله بيت شعرٍ قاله ؟ ربما نكون كذلك، فالنص قد يقتل مؤلفه، بينما المؤلف لا يمكنه قتل نصه، بعد أن يصبح في متناول المتلقي، وهنا كانت رهانات نورمان المعلنة، التي تقودنا إلى نمط ثانٍ من الشجاعة: شجاعة غياب المؤلف التي يزخر بها النص النورماني ويفتقر لها النص الديني.

فالله حاضرٌ في نصه، عقاباً أو ثواباً، مبشراً أو نذيراً، بينما نورمان ليس كذلك. وها هو المؤلف الذي لا يموت، الحي القيوم، لا يقتصر دوره وجوداً دائماً على رأس نصه، حسيباً، رقيباً، بل هو سابق لذلك؛ فالطفل قبل أن يقرأ الإنجيل أو القرآن تتم تهيئته في المنزل، وتربيته على الخوف من ذاك المؤلف الذي سوف يقرأ نصه مستقبلاً.

تخيل طفلاً نشأ في غابة، أو أسرة ما، حيث ليس ثمة من يرضعه الخوف من المؤلف " الله "! واعرض عليه عند بلوغه نصاً من نصوصه، من القرآن أو الإنجيل ! هل يكون تعاطيه مع النص، ومحاكمته له، كتعاطي ومحاكمة طفلٍ نشأ على أن المؤلف جبارٌ عظيم العقاب لكل من لا يحترم نصه؟

في ذات السياق، يمكنك أن تقوم بتجربةٍ ذات شروط أسهل في التحقق من تجربة تنشئة طفلٍ في غابة؛ أعط نصاً من تأليفك لأحدهم، مخبراً إياه أن كاتبه هو الشاعر أو القاص المشهور فلان ! هل تكون ردة فعله كمثيلتها إن عرف أنه نصك أنت؟ والعكس، اقرأ لصديقك نصاً لمؤلفٍ مكرسٍ، و قـلْ أنك كاتبه، ثم انظر كيف يبادرك !

يقول نورمان في " أدب المكاشفة في أوطان الفَخَّار" مختتماً مقالته تلك (ثمة نظريات في الأدب كـ "موت المؤلف" تهدر كل المسائل الشخصية لمصلحة النص، بل وتذهب إلى أنه مع اللغة والقارئ أهم من المؤلِّف، وأن الأخيرَ بعد كتابةِ الأثرِ لا يعدو أن يكون متلقياً كالآخرين! دعونا نذهب إلى النصِّ جمالياً، ونحكم عليه كبنية وأثر بدل أن ننشغل بمسائل لا تتوقف عندها الكتابةُ طويلاً ! ولا ضيرَ أن نوقظَ أدباءنا وكتَّابنا النائمين بالنقد والحوار والاختلاف.. بذلك وحده نبقيهم على قيد الحياة ! ).

نورمان، هنا، يدعوك حين تقرأ له أن تتجرد عن انطباعاتك تجاه شخصه، أن تنسى غيظك منه حين كان زميلك في المدرسة الابتدائية وتفوقه عليك في امتحان الرياضيات، أو الكيمياء. يريد لأرستقراطية النص أن تؤازر ملـيكها، وتمنحه الشرعية، لا العكس. يبغي حين تبحر في لجة الكلمات ألا يعنيك مطلقاً قرابة قائلها للماغوط الأشهر، أو مهنته، أو لون عينيه، أو تفضيلاته في اللباس. وهو حين يعلي من شأن القول على حساب القائل، يفعل ذلك متعظاً من ويلات تقديس الأشخاص، كي لا يضطر أحدهم ذات مجزرةٍ لمعاتبتك قائلاً: يداك صفـقـتا و فوك هتف !

الكاتب هنا، ليس نفسه الذي تشكلت صورته في ذهنك قبل عشرٍ أو عشرين من السنين، واستقرت، وترسخت قفصاً لكيانك، يمنعه من التحليق في فضاءات يقترحها النص.

موت المؤلف، سؤالٌ مجازي فحواه : ماذا لو امتلك الله – وهو القادر – بعض الشجاعة، وأجرى اختباراً بسيطاً معلناً علينا نتائجه، فـيبعث من جديد أحد أنبيائه اليوم، ويأمره أن ينشئ حساباً على الفيسبوك باسمٍ وهميٍّ كما فعل نورمان؛ كي نرى كيف يتفاعل أتباع هذا النبي مع منشوراته مقارنة بتفاعلهم مع فتاةٍ تظهر منها الأفخاذ، أو شيخ محسوب على الأفذاذ؟

ليس لدي أمل أن يحدث هذا الافتراض؛ أما نورمان فقد جسّــده وحصد نتائجه، وأرى أن سبب ذلك حيازته شجاعتان : شجاعة المتنبي في موته، وشجاعة الله المفقودة، على الأقل من القائمة الرسمية لأسمائه الحسنى، التي إحداها " الرقيب ".






















تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

المتة إن عزت

05-أيلول-2020

قصة مقالة عن أدونيس

23-أيار-2020

ضحكة فلسفية

04-نيسان-2020

هكذا تكلم أبو طشت ـ جزء 6 المرأة التي قتلتها مؤخرتها

21-أيلول-2019

هكذا تكلم أبو طشت ـ الجزء 5 كورنيش الشمس لدعم النقد الأجنبي.

14-أيلول-2019

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow