Alef Logo
دراسات
              

الجدَل النِّسْيَاقيّ المُضاعَف _ الانتصاليّة/البينشِعريّة (بَيان شِعريّ/نقديّ) 2

مازن أكثم سليمان

خاص ألف

2018-06-23

سادساً: ما بعدَ الحداثتيْن الشِّعريتيْن:

إذا كانَ مشروع (النِّسْيَاقيّة) يتأسَّسُ على (الالتباس الجدَليّ المُضاعَف) بما هوَ (براديغم) يقترحُ ولادة )نظَريّة شِعر جديدة( أحد أهمّ أركانِها يتحدَّدُ بِـ (الاستجابة/الردّ) الانزياحيّ لِـ (الكوجيتو الانتصاليّ/البينشِعريّ) على نداء (ليبيدو الحُضور/الغِياب) _في_ فَجوة (مُنفتَح/مُنفصَم) عالَم القصيدة المُغايِر (عالَم مَجاز المَجاز)، فإنَّ هذا المَنحى (التَّنظيريّ/الإجرائيّ: شِعريّاً ونقديّاً) يقودُ إلى إعادة توضُّع جديدة لِـ (نظَريّة الشِّعر) عبرَ مُفارَقة (الفَصْم الجدَليّ المُضاعَف) نِسْيَاقيّاً للحداثة وما بعدَ الحداثة (الحداثتان التَّقليديتان)، بما هيَ (أي هذِهِ المُفارَقة) مُجاوَزة الحركيّة القصديّة للعُلُوّ المُحايِث _في_ (وَحدة/ فَجوة) (الدَّازِن الشِّعريّ النِّسْيَاقيّ _ الزَّمانيّة _ اللُّغة) لآليّات التَّجريد الميتافيزيقيّة التي كانَتْ غالباً تتجاهَلُ (وَحدة الذّات واللُّغة والوجود) _في_ عالَم القصيدة المُنفتِح بينَ عالَميْن.

إنَّ أصل الإشكاليّة في نظَريّات الشِّعر الحديث تعودُ إلى الفَهْم الإبستمولوجيّ (المَعرفيّ( للشِّعر؛ ذلكَ أنَّهُ فَهْمٌ يتأسَّسُ على مُسَبَّقاتٍ نظَرِيّة ومَبادِئَ عامّة تتَّسِم بالتَّعالي السُّلطويّ والإخضاع الميتافيزيقيّ والتَّحكُّم الاستبداديّ القائِم على (مَبدأ المُطابَقة المَعرفيّة الزّائِف)، فالشّاعِر الحديث لطالما ظنَّ _أو ادّعى_ أنَّهُ وحده من يمتلك (الحقيقة الكاشِفة) في لُغته الشِّعريّة، لهذا بدا كأنَّ أساليب انفتاح قصيدَتِهِ، بما تنطوي عليه من قيَم ذات أبعادٍ (ثَّقافيّة _ َ جَماليّة)، قيَمٌ خارجيّة يُضيفُها قسراً هذا الشّاعر إلى شعرِهِ شبه المُنفصل بلُغتِهِ عن الوجود، حيثُ إنَّهُ تبعاً للتَّوجُّه الاحتكاريّ الذي روَّجَ لهُ كانَ بالمَعنى التَّطبيقيّ يُجرِّدُ لُغتَهُ ويعزلُ قصائدَهُ عن الخارِج، بينما هيَ ناجِمة في صلب كينونتها الأصليّة عن حركيّة الوجود في العالَم، وهيَ المُعضلة التي خلَّفَتْها الحداثة الشِّعريّة بالادّعاء أنَّ العالَم الوقائعيّ (المُتحوِّلَ) ينفتِحُ أو يقودُ إلى (ثابتٍ) يقبضُ على المَجهول في عالَم القصيدة.

ولهذا فإنَّ أوَّل خُطوة لِمُجاوَزة هذه الإشكاليّة تكونُ بإعادة الاعتبار لِـ (وَحدة اللُّغة والوجود) بوصفِها مَنْبَعَ الأحداث والثَّقافة والجَمال في عَوالِم الشِّعر. وهوَ الأمرُ الذي يسمَحُ باستعادة الشِّعر أسئلةَ الذّات والوجود الأصيلة، واستئناف الحداثة بما هيَ خيانةٌ لكُلّ استقرارٍ وجُمودٍ ومَألوف، واحتفاءٌ بكُلِّ تجاوُزٍ وتحوُّلٍ واختلاف، وبما ينهَضُ على فكرة (تحريك الماهيّة)، والقول إنَّ (المُتحوِّل) في العالَم الوقائعيّ يقودُ إلى (أساليب وجود مُتحوِّلة) _في_ عالَم القصيدة الذي لا ينبسط على وَهْمِ الفصل الحدِّيّ بين (الذّات واللُّغة والوجود)، وهو الأمر الذي نجَمَ عنهُ بقاء مُعظَم تجارب شُعراء الحداثة عندَ الحُدود القَبْليّة لِـ (الفَصْم الجدَليّ الأُفُقيّ: جدَل المُطابَقتيْن).

كانت دعوتي إلى مُجاوَزة ثُنائيّة) الشِّعر الرُّؤيويّ _ الشِّعر اليوميّ( الزّائِفة في بَياني الشِّعريّ الأوَّل: (الإعلان التَّخارُجيّ) المَنشور في صِيغتِهِ الأُولى العام 2015، تنهَضُ في عُمقها على الدَّعوة إلى (مُجاوَزة نسيان الوجود الشِّعريّ الأصيل)، انطلاقاً من) مُجاوَزة نسيان الوجود في العالَم)، وهو الأمرُ الذي يُمثِّلُ إشكاليّةً حداثيّةً جوهريّة تمَّ بمُقتضاها توظيف اللُّغة لصالح مُطابَقة المُسَبَّقات الإيديولوجيّة والرُّؤى الاستبداديّة، وطيّ القصائد على مَركزيتها المُغلَقة، وكانَ هذا يُشيرُ في لُبِّهِ إلى (المُعضلة التَّجريديّة) التي تفصل اللُّغة عن الوجود بالتَّعامُل معها بوصفها أداةً ميتافيزيقيّة مُتعاِليّة تستعمِلُها (الذَّات) تقنيّاً للتَّحَكُّم بعالَمها الخارِجيّ والسَّيطرة عليه عبرَ مُطابَقات مَركزيّة قَبْليّة تُحوِّلُ التَّحدّي الشِّعريّ الوجوديّ (الثَّقافيّ/الجَماليّ) إلى آليّة عاجِزة عن العُبور والمُجاوَزة واقتحام المُحتمَل والمَجهول.

لقد تاهَ الشِّعر الحديث في ثُنائيّة ميتافيزيقيّة مُصطنَعة تتوزَّعُ بينَ وَهْمِ إحضار المَعيش ومُطابَقتِهِ في القصيدة اليوميّة، ووَهْمِ إحضار الغائِب ومُطابقتِهِ في القصيدة الكُلِّيّة. ففي ما عُرِفَ بتيّار الشِّعر اليوميّ عمدَ الشُّعراء إلى طيِّ قصائدهِم على مَركزيّة العالَم اليوميّ المُسَبَّق، مُتوهِّمينَ أنَّهُم ينجونَ بهذا من الإيديولوجيا بالقَبْضِ على حركة الشُّعور في الكلام بوصفها قَبْضاً على سِياقات العالَم الخارِجيّ التي ينبعُ منها الكشف. أمّا شُعراء ما عُرِفَ بتيّار الشِّعر الرُّؤيويّ، فقد عمدَوا إلى إلحاق قصائدِهِم بمَركزيّة ذواتِهِم المُتكوِّرة على رُؤىً شُموليّة، ظنَّاً منهُم أنَّهُم يقبضونَ _وتبعاً لحركة اللّاشُعور في اللُّغة _على أنساق كُلِّيّة ينبعُ منها الكشف، غيرَ أنَّ هذا الفعل لم يكُن في مُعظم الأحيان سوى استجابة قَبْليّة تطوي القصيدة الحديثة على مركزيّات إيديولوجيّة تُصادِرُ مُسَبَّقاً الرُّؤى والمَجهول، وهيَ الآليّات التي كَبَحَتْ مُعظَم تجارب التَّيّاريْن عندَ حُدود جدَل المُطابَقتيْن وتجميد الانزياح.

لعلَّ البدء بتحقيق مُجاوَزة إشكاليّات التَّجريد والمُطابَقة في الشِّعر الحديث (وما بعدَ الحديث كما سأوضح في السُّطور الآتية)، تنطلق من فَهْم وصول شُعراء الحداثة إلى طريقٍ مَسدود في تخليق العالَم الشِّعريّ الجديد، وهوَ ما أرجعوا سببَهُ إلى ما دعوهُ (الاصطدام بجدار اللُّغة)، مُسوِّغينَ عبرَهُ أيضاً إخفاقهُم في تحقيق مَشروع (تشظِّي النَّصّ الحداثيّ)، وهذا أمرٌ يُظهِرُ بجَلاء الأصل (النَّظَريّ/العمَليّ) التَّجريديّ الخاطئ والقائِم على فكرة عزل الذّات عن وجودها اللُّغويّ _في_ العالَم.

وقد حاوَلتْ تجاربُ (شُعراء ما بعدَ الحداثة) حلّ هذِهِ الإشكاليّة بالانتقال من مَشروع (تشظِّي النَّصّ) إلى مَشروع (نصّ التَّشظِّي) لمُجاوَزة مأزق الحداثة القائِم على ما وصفَتْهُ بمُعضِلَة (الاصطدام بحاجز اللُّغة)، فعملوا على استئناف فكرة (تفجير اللُّغة)، لكنَّ مُعظَم تلكَ التَّجارب أيضاً ارتدَّتْ إلى نقطة التَّجريد والفَصْل الحداثيّة نفسِها عبرَ إعادة إنتاج (المُطابَقات المُسَبَّقة) من بوّابة السُّقوط في وهم تحقيق (الاختلاف).

إنَّ الفخّ المحوريّ الذي عاد ليصطادَ عدداً كبيراً من شُعراء ما بعد الحداثة، هو فخٌّ شكلانيّ يكمنُ في الاعتقاد أنَّ (تفجير اللُّغة) يُمكنُ أنْ يتمَّ بمعزل عن (تفجير الذّات المَوجودة في العالَم) بما هيَ (وَحدة/فَجوة) زمانيّة مَفتوحة _نحْوَ_ المُحتمَل والمَجهول، لتترسَّخَ المُحاكاة المُسَبَّقة من جديد عبرَ بقاء مُعظم تجارب ما بعد الحداثة أسيرة رؤية نظريّة وإجرائيّة ترى أنَّ العالَم الوقائعيّ مُتشظٍّ ومُمزَّق ومُتباعِد وفوضويّ، وأنَّهُ يكفي (نصّ التَّشظِّي) ليبلُغَ الاختلافَ النّاهِضَ على (تفجير اللُّغة) أنْ يُؤسَّسَ على آليّات (لُغويّة/تقنيّة) فوضويّة ومُتبعثِرة، فاللَّعب الحُرّ للعلامات _في زعمِهِم_ يُمكِنُ أنْ يبسطَ التَّشتُّتَ والانتشارَ الاختلافيّ في النَّصّ ما بعد الحداثيّ بمجرَّد تحقيق مُحاكاة لُغويّة مُتعالية للاعقلانيّة العالَم، لكنَّ هذا التَّوجُّه لم يكُن في أساسِهِ سوى إعادة إنتاج باهِتة لخِطاب الحداثة القائِم على فصل اللُّغة عن الوجود، وإخراج عالَم الشِّعر من طبيعتِهِ الأصليّة التي لا يُمكنُ أنْ تقومُ على بلوغ المُحتمَل والمَجهول الاختلافيّ عبرَ خلخلة اللُّغة بقرار تقنيّ مُسَبَّق، يُرسِّخ تجريد هذِهِ الخَلخلة اللُّغويّة المَزعومة عن آليّات خَلخلة الوجود اللُّغويّ _في_ العالَم، فالمُغايَرة التَّفجيريّة للُّغة لا تأتي من تجريد فَجوتِها الطَّبيعيّة عن فضائِها الوجوديّ الأصيل، ولا تتحقَّقُ عبرَ إعادة إنتاج سُلطة الذّات القائِمة على التَّحكُّم القَبْليّ بالنَّصّ الشِّعريّ بإحضارِهِ وإخضاعِهِ وتمثُّلِهِ ميتافيزيقيّاً.

لقد تحوَّلَتْ مُعظَم تجارب شُعراء ما بعد الحداثة إلى تجارب مَنزوعة الرّوح (الشِّعريّ/الوجوديّ) بفعل الإذعان إلى جُملة (تقنيّات) مُفرَّغة من أصالتِها التَّخليقيّة والتَّخييليّة، لم يُقدِّم عبرَها عدد كبير من هؤلاء الشُّعراء سوى نصوص مُؤسَّسة على مُطابَقات قَبْليّة تجريديّة ومَعزولة عن العالَم، وواقِعة في هوّة تمطيط دلاليّ يُعلِّقُ الوجود لصالِحِ وهم (الفوضى اللُّغويّة) التي لم يُفضِ ما ظنّوهُ تفجيراً لها إلى فَتْح عوالِم المُجاوَزة والاختلاف الشِّعريّ، ذلكَ لأنَّهُم تناسوا أنَّ دالّ الاختلاف الشِّعريّ غير مَعزول بِـ (المَعنى النِّسْيَاقيّ: القطيعة الانتصاليّة والأنطولوجيا البينشِعريّة) عن أساليب الوجود (المَجازيّة/اللُّغويّة) التي هيَ أصل انفتاح صدع الذّات في العالَم، وانتقال حركيَّة هذا الصِّدع غير المَحدودة إلى عالَم القصيدة بما هو عالَم (مَجاز المَجاز).

وهكذا، تقترحُ (الحداثة النِّسْيَاقيّة الحُرّة الجديدة) مُجاوَزة الحداثتيْن التَّقليديتيْن عبرَ (براديغم النِّسْيَاقيّة) النّاهِض على (الفَصْم الجدَليّ المُضاعَف) بوصفِهِ ناتِجاً عن فرق الجهد الحيويّ للحركيّات القصديّة للعُلُوّ المُحايِث الذي يبسطُ _في_ فَجوة (المُنفتَح/المُنفصَم) (المُهيمنات المَجازيّة الوجوديّة التَّفاعُليّة) لِـ (الدَّازِن الشِّعريّ النِّسْيَاقيّ)، بما هيَ مُحصِّلات تراكبيّة شديدة التَّعقيد والالتباس الجدَليّ في أساليب الوجود التي يبسطُها (التَّأويل الاستريابيّ) القائِم على الجدَل بينَ تأويلَي (الاسترداد والارتياب)، واللَّذين يُحدِّدان طبيعةَ (الاستجابة/الرَّدّ) لِـ (الكوجيتو الانتصاليّ/البينشِعريّ) على نداء (الليبيدو النِّسْيَاقيّ) بينَ (الحُضور والغِياب)، وذلكَ بوصفِ هذِهِ الاستجابة تأويلاً أُنطولوجيّاً (نسبيّاً) لحركيّة الانزياح الجدَليّ المُضاعَف المُجاوِز للإشكاليّة الميتافيزيقيّة التَّمركزيّة النّاهِضة على آليّات تجريديّة تفصل اللُّغة عن الذّات والوجود في الحداثتيْن التَّقليديتيْن، حيثُ إنَّ تخارُج (الدَّازِن الاستريابيّ) يُحرِّك (الماهيّة) التي لا تكاد تتعيَّن في كُلّ مرَّة حتّى تصيرَ (عرَضاً) جديداً يفتحُهُ اللَّعب الحُرّ (اختلافيّاً) على التَّشظِّي والتَّباعُد والمَجهول إلى ما لا نهاية _في_ (وَحدة/فَجوة) (الدَّازِن الشِّعريّ النِّسْيَاقيّ _ الزَّمانيّة _ اللُّغة).


دمشق في كانون الأوَّل/ديسمبر 2017.


_ تعريف بالكاتب:

مازن أكثم سليمان _ شاعر وناقد سوري:

(مُتحصِّل على درجة الدُّكتوراه في الدِّراسات الأدبيّة من جامعة دمشق _ له ديوان شعر صادر في دمشق عام 2006 بعنوان: "قبلَ غزالة النَّوم" _ أطلَقَ بَياناً شعريّاً عام 2015 بعنوان : "الإعلان التَّخارُجيّ" _ له عشرات القصائد والنُّصوص والمَقالات والدِّراسات النَّقديّة والفكريّة المَنشورة في الجرائد والمجلّات والمَواقِع العربيّة _ لديه أكثر من مَخطوط شعريّ ونقديّ وفكريّ قيد النشر.).





















تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

سؤال وجواب

15-أيار-2021

بايدن المُدجَّج بالاحتمالات السورية

30-كانون الثاني-2021

نُدامى الحنين الورديّ

31-تشرين الأول-2020

العُري اللاّزم لفعل القتل

19-أيلول-2020

صناعة ولَد

29-آب-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow