Alef Logo
يوميات
              

الكتابة في عصر الجنون

عاصف الخالدي

2018-07-07

أفكر في سفينة الحمقى التي تستمر في الإبحار ولا تتوقف، وأفكر في (ميشيل فوكو) وهو يقوم بتشريحها في حقبة القرنين الرابع عشر والخامس عشر. وسفينة الحمقى كناية عن مركب كانت المدن الفرنسية وغيرها تقوم بتحميله بالحمقى الهائمين أو المجانين وبالمجذومين لتجمعهم فيه بعد كنسهم من شوارعها لدواعي النظافة، ومن ثم يحملهم هذا المركب بعيداً في عرض البحر، فإما يظل هائماً بهم على وجه الماء حتى يفنى خشبه ويفنون، وإما يتم إلقاؤهم في جزر أو براري بعيدة، يتم إفلاتهم فيها، وتركهم للموت حتى يفترسهم بطريقة أو بأخرى. أما المشافي التي بنيت لأجل هؤلاء عموماً، فقد كانت فارغة منهم تقريباً، كان عزلهم وإفنائهم حلاً مرضياً أكثر، أما الفائدة الأخرى فكانت تكمن في جمع ثرواتهم كما فعل حاكما فرنسا لويس وشارل .

من هم حمقى هذا العصر؟. هل هم السياسيون، أم رجالات الطائفية والحرب، هل هم الناس خاملين كانوا أو ثائرين؟. أم هم الكتاب والمثقفون؟. لو تطلعنا إلى الإنسان العربي اليوم من فوق، من ارتفاع، لو نظرنا إلى مدنه النظيفة المرتبة أو تلك التي تم هدمها، فصارت بلا مبنى ولا معنى. لانتبهنا إلى التناقض الكبير بين جغرافيات متقاربة وصفت عبر التاريخ بوحدة الحال في اللغة والدين وإلخ. لا يمكن استعراض تاريخ طويل الآن، يكفي النظر إلى التفكك القائم، الذي يشكل حالة غريبة، تتمثل في هذا الانقطاع الكبير عن الماضي والقطيعة المرعبة مع حاضر يقود إلى المستقبل. ولا يمثل التاريخ الديني إن صح التعبير مادة كافية يمكن من خلالها توثيق ماضي المنطقة والاستناد إليه كوثيقة وحيدة أمنت المرور إلى الحاضر. لكن الذي يحصل اليوم يناقض هذه الفكرة، فقد تم تضمين تاريخ الشرق عموماً في محتوى الدين فقط، بل وتم اختزال أصله العتيق الضارب في جذور الأرض إلى ألفي سنة أخيرتين. أما ما سبق أو لحق هذه المدة، فإما تم ربطه بطريقة أو بأخرى ليجد له الدين مساحة يحتجزه فيها ويفسره من خلالها فقط، وإما تم نبذه واعتباره مجرد خرافات أو خزعبلات يجب التخلص منها. يحيلنا هذا إلى أنه تم استخدام الدين وبدءاً من منتصف القرن الماضي تحديداً، كأداة وحيدة ومطلقة لقياس تراكماتنا و حضارتنا تاريخياً. أدى هذا بطبيعة الحال إلى قراءات جانبية مضادة ومتعددة لكتب اللغة والأدب العربية والتاريخية التي كتبت في تلك الفترة، والتي أظهرت واقعاً ثقافيا وإنسانياً مغايراً لما نتج من توثيقات تاريخية في إطار ديني تصر على أن التاريخ العربي لم يبدأ من منظورها إلا بعد تعزيز مكانة الدين نصاً ووضعاً. تحيلنا النصوص الثقافية والأدبية والتراث اللغوي والاجتماعي (الذي كان يتمثل بكتب الحوادث والطرائف وغيرها) في ذلك الوقت إلى محتوى نصي غني يشير إلى جذور لغوية عميقة فيها من طاقات التعبير والمفاهيم الحياتية والثقافية ما يكفي ليدلل على وجود عقل عربي انساني ذا قيمة تراكمية تكفل له إمكانية الاستمرارية والتراكم والتطور. عدا عن أن اللغة العربية لوحدها تتمثل في النصوص كلغة حضارة قائمة منذ زمن بعيد، لغة تحمل الجمال والعمق والمرونة التي تمكنها من احتواء أي مفهوم أو فكرة، حتى إنها توضح حداثتها وتفوقها في ذلك الوقت وكأنها لا يمكن أن تتقدم أو تتطور لأكثر مما وصلت إليه من عظمة. ولعل الشعر العربي القديم خير دليل على تفوق اللغة، التي باتت اليوم أهم ربما من حامليها والقائلين فيها. غير أن هذا لم يمنع من اختفاء أساطير العرب القديمة، ولا من تقليل ما أمكن تقليله من نصوص الشعر العربي القديم، وترك الضوء مسلطاً على الألفين الأخيرتين، وتقسيمهما بشكل سياسي، يقرأ من خلال فترات الخلافة وتبدلاتها وأحوالها، حتى يبدو أن المحرك الأساسي للصعود وتشكيل البعد المدني والحضاري هو الدين فقط، فيما تناقض نصوص تلك الفترة في أغلبها هذا التوجه، كان للدين دور أساسي في تغيير الشكل القبلي، وتأسيس شكل جديد. تم ربط كل أمجاد الماضي به فيما بعد، وكأن التاريخ العربي بوقائعه ونصوصه كلها يقتصر على الألفين الأخيرتين.

إن الأخذ بقيمة الأدب كشاهد مواز على أحداث التاريخ، والأخذ به كأداة جمالية ونقدية تسجل التفاصيل ولو الصغيرة منها، إضافة لكونه يعطي تصوراً عن التراكم الحضاري في أي بقعة جغرافية يسكنها البشر، هو أخذ طبيعي وضروري يؤدي بنا إلى رؤية أوضح وأكثر بنائية في حال كنا ننظر إليه من مكاننا الحالي في الحاضر. لكن الذي يحصل الآن، أننا ننبذ غالبية كبيرة من نصوص الأدب والعلوم الإنسانية، بل ونخضعها لمقياس واحد لا يمت لمحتوياتها بصلة، فهي إما نصوص محللة أو محرمة، وهي بالمجمل نصوص تابعة غير ذات أهمية في حضور النص المقدس الأوحد!. سفينة الحمقى تعود من بحر التاريخ لترسو من جديد على شاطئ الحاضر، تم استدعائها أخيراً، لتحمل اولئك الخارجين عن حدود المجتمع وإطار النص إن صح التعبير، ولتحمل الحمقى الذين يحللون ويكتبون، إذ لا مكان في الحاضر لغير الإملاءات الجاهزة، لتحمل المجذومين، الذين يكتبون عن الإنسانية ولها دون تمييز.

هذا الزمن، زمن الماضوية التي تنزع الحاضر، وتقوس الزمن، وتصنف الناس إلى كائنات دينية وغير دينية، أو كما يقال كائنات ملتزمة وغير ملتزمة، بمقابل مسوخ مجذومة يتم نفيها لأنها مصابة بالثقافة وكل ما تحمله من مفاهيم تقود إلى المستقبل. أعود إلى المدن المتجاورة، مدينة مدمرة وأخرى قائمة، وفي المعنى العميق بعيداً عن الشكل، كلتا المدينتين مدمرتان، إن المباني الشامخة والشوارع النظيفة كلها فارغة وجاهزة، لاستقبال مستوردات العالم العابرة للقارات، إما دمار وإما معاني بديلة لا تمثل روح المكان ولا تاريخه، في قطيعة مميزة تحتمي بالماضي، الذي لن يرد النهاية المحتمة التي لا وضوح فيها لأي مستقبل. إن اللغة والدين من مكونات أي حضارة، وهما ذراعان يحملان البشر إلى أعلى، دون أي تزمت أو غلو يطغى فيما بينهما، هذا ولا ننسى أن كلاً منهما لا يمكن فهمه أو ضمان استمراريته دون الآخر. فما الذي نريده اليوم؟. باستدعائنا لسفينة ماضوية، نتخلص على متنها من حمولة اللغة والنص، لنحمي نصاً آخر هو فعليا لا يحتاج إلى حماية، ولا خطر حقيقياً يحيق بها سوى ذلك الذي نقوم به نحن، نقتل النصوص ومحتواها الانساني واللغوي والتاريخي، ننفي الكاتب الخارج عن منظور النص الوحيد، كأن صرخة تأتي من الماضي السحيق: توقفوا عن الكتابة. والتوقف عن الكتابة كناية فقط عن الموت.



*روائي أردني

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الكتابة في عصر الجنون

07-تموز-2018

الكتابة في عصر الجنون

19-أيلول-2015

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow