Alef Logo
يوميات
              

الباص رقم 11

حسان محمد محمود

خاص ألف

2018-07-21

حدث هذا البارحة، في السابع عشر من حزيران، يوم العرض الأول لمسرحية تشارك فيها ابنتي بدور رئيس. عندما نظرت في الساعة كانت تشير إلى السابعة مساءً، باشرت بحلاقة ذقني، هم، في ألمانيا يحلقون كل يوم، أستطيع تجاهل الأمر، لكن عليّ أن أكون في أبهى صورةٍ ممكنةٍ، لأن الأصدقاء الذين سوف ألاقيهم هناك لن ينظروا إليّ نظرتهم لحسان محمود، المشاهد العادي، مثلهم؛ إنه حسان والد سماء، التي دعتهم لحضور مسرحيتها.
في ألمانيا عليك أن تحسب حركاتك، وشهقاتك، و إغماضات عينيك بالثانية، كل شيءٍ بوقتٍ، ودقيقة تأخيرٍ قد ترتب عليك لمعالجة آثارها جهداً كبيراً.
غادرت شقتي في السابعة والنصف إلا خمس دقائق، قطعت الشارع نحو موقف الباص، الذي ما أن وصلت إليه حتى كززت على أسناني حنقاً، مطلقاً شتيمةً معتبرةً على حظي التعس. "اللعنة !"
وفق حساباتي، كانت نصف ساعةٍ كافيةً، لا للوصول إلى المسرح والدخول في الموعد المحدد لبدء المسرحية في الثامنة مساءً فقط، بل أيضاً للوقوف مع الأصدقاء المحتمل تواجدهم هناك مدة عشر دقائق، والتحدث إليهم، وكي يتاح لي أن أتشاوف قليلاً، وأفخر بابنتي، إزاء السوريين الموجودين هناك و الألمان، الذين لا بد سيقول لهم أحد السوريين أنني والد سماء، فينظر في وجهي سائلاً بالألمانية "فيركليش ؟!" فأجيبه:
ـ يا ، إيش بين دير فاتر فون زاما !! " نعم أنا والد سماء "
خابت كل حساباتي الزمنية، لأنني نسيت أن اليوم هو الأحد، وحركة الباصات تصبح فيه أقل تواتراً من باقي أيام الأسبوع، واللوحة الإلكترونية التي تعلن هذه الحركة تشير أن أول باصٍ سوف يأتي بعد ثلث ساعةٍ، والتالي بعد نصف ساعةٍ، ومع حساب المدة التي سوف يستغرقها للوصول إلى المسرح سأكون هناك في الثامنة والربع. الباص الحبيب، صاحب خط السير الأقصر الذي يحمل الرقم (11) لا وجود له في اللوحة الإلكترونية، وهو الذي عولت على ركوبه في مخططي الزمني الذهني، الذي غفل عن أن اليوم هو يوم أحد، وأنه في هذا الوقت بالذات، ألمانيا تلعب أمام المكسيك في كأس العالم.
كان عليّ اتخاذ قرارٍ سريعٍ، من شقين: الأول، إشعال سيجارةٍ، والثاني، هو الذهاب سيراً على الأقدام.
المسافة بين منزلي والمسرح ثلاثة كيلومترات، ومعدل سرعتي في المشي هو ستة كيلومترات في الساعة، قـستها مرتين، مرةً أيام الشباب حين كنت أنطلق من منزلنا في سلمية باتجاه البراري الخضراء، ومرة قستها هنا، إذ كنت قبل لم شمل عائلتي مـشــاءً مميزاً بين أقراني اللاجئين، الذين كانوا يستقلون الباصات أو الدراجات؛ أما أنا، حرصت على قطع هذه الكيلومترات الثلاثة مرتين في الأسبوع على الأقل كي تتآلف أعضائي مع المكان، أقدامي مع الأرض، وأنفي مع الهواء، وعيوني مع المشهد العام للأبنية والطرقات، كان المشي ضرباً من محاولات الاندماج النفسية بالمحيط الجديد.
ولكن، هل أستطيع المحافظة على معدل الستة كيلومترات في الساعة ؟ كان ذلك أيام الـيفاعة، في براري سلمية، وقبل ثلاث سنواتٍ، هنا، كنت بعد كل جولة مشي أحس بإنهاكٍ في مفاصلي، خاصةً مفصل ركبتي اليسرى، الذي يتحول كتلة جمرٍ ما أن أستلقي أو أجلس.
حدثت نفسي" سوف أركض" وهذا عاديّ هنا، لا أحد يستغرب خمسينياً راكضاً في الشارع؛ قليلٌ من الركض يؤازر سيري الحثيث فيعوض انخفاض معدل سرعتي بسبب السن. لو كان عندي دراجة ! كم ندمت على إهمالي حيازة دراجة مثل بناتي. ركبت الدراجة هنا في ألمانيا مرةً واحدةً، وعلمت بناتي قيادتها في الغابة المجاورة لمنزلي، ليلى تعلمت بسرعة، عملاً بقاعدة قالتها لنا وهي تبكي بعد سقوطها على الأرض في إحدى جولات تعليمها تنص " بدي سوق يعني بدي سوق ليلى لا تستسلم " وطبعاً، هذه القاعدة ذهبت في منزلنا مثلاً، نقوله عند كل موقفٍ من مواقفها العنيدة، وما أكثرها ! سماء تعلمت بسرعة أيضاً، ثم التحقت بدورةٍ تدريبية لتعليم قيادة الدراجات مدتها خمسة عشر يوماً، كانت متفوقة فيها وأعطوها في نهايتها هدية التفوق خوذةً وشهادة. عهداً يا ليلى، أنا مثلك، لن أستسلم، وسوف أصل إلى المسرح في الثامنة تماماً !
رميت السيجارة فور إشعالي لها، لأنني بحاجة إلى أكبر كميةٍ من الأوكسجين في سباقي مع الوقت، وانطلقت.
الشارع كان خالياً، يوم أحد، ومباراة ألمانيا الأولى، كيف ستكون حركة المارة و السيارات ؟! هذا أعطاني ميزة عدم الالتزام بإشارات المرور في التقاطعات التي فيها ممرات للمشاة. مرت سيارة تكسي، تمنيت لو كنا في سوريا، وقتها، هناك، بإشارةٍ من يدك تقف، وتقلك، حتى لو كان فيها زبون. في الأفق بدت سيارتا شرطة بلون ضوئهما الأزرق، كانتا قادمتين بسرعةٍ خرافيةٍ، مطلقتين صوت زمورهما المميز، قلت لنفسي حاسداً سرعتهما "اللعنة عليكم، ربما ذاهبتان لإنقاذ قطةٍ من الغرق". سمعت صوت طائرةٍ حوامة، نظرت إلى الأعلى، فرأيتها صفراء تتجه نحو ذات المنطقة التي ذهبت باتجاهها سيارات الشرطة، ولأنها لا يمكن أن تهبط وتطير بي إلى المسرح، شتمتها، وقلت بصوتٍ خفيضٍ لا يسمعه أحد " يبدو أن الحادث كبير، الموضوع أكبر من مجرد قطةٍ غارقةٍ، تحليق الطائرة يدل على إصابات تستلزم الإسعاف السريع، ربما يكون الغارق كلباً لا قطة".
المسرحية التي تفصلني عنها مسافة ألف وخمسمئة مترٍ وربع ساعةٍ فقط، اقتبس المخرج نصها من "هاملت" لشيكسبير، و (أكون أو لا أكون) لم يعد بالنسبة لي هو السؤال الجوهري الآن، إنما (أصل أو لا أصل) في الوقت المحدد، درءاً لانكسار يصيب ابنتي إن لم أحضر، وتفادياً لنقاشٍ عقيم النتائج مع القائمين على المسرح إن حاولت الدخول متأخراً. لن يشفع لي عندهم أي اعتبارٍ، فحتى لو أتت "أنجيلا ميركل" في الثامنة وخمس دقائق، سوف تقول لها الموظفة مبتسمةً "سيدة ميركل أعتذر، لن أسمح لك بالدخول بعد بدء العرض، لأن هذا ممنوعٌ ويفسد متعة النظارة بالمتابعة" . يمكنك أن تثق بأن المسيح بشحمه ولحمه، لو أتى وهو يلهث، يتصبب العرق منه جراء قدومه مشياً ثلاثة كيلومترات، وكانت تمسك بيده أمه، لن تتورع الموظفة عن القول له "أبانا الذي في السماوات والأرض تقدس اسمك، لكن دخولك ممنوع".
لو أنني في سوريا، وأصغر قليلاً، كنت فعلت ما كنا نفعله صغاراً، وتعلقت بمؤخرة سيارةٍ ما؛ خطر لي أن أقف في منتصف الطريق كي أرغم إحدى السيارات القليلة على الوقوف، ما الذي سيحصل لو فعلتها؟ ذخيرتي الألمانية تسمح لي بشرح ملخصٍ للسائق عن قصتي، وأسبابي، فـيقـلني معه.
لم يبق إلا حوالي خمسمئة مترٍ، ولأنني لا أضع في يدي ساعة، مذ حل مكانها في أداء مهمتها الهاتف المحمول، أخرجت هاتفي من جيبي ونظرت إلى ساعته، كانت الثامنة إلا ثلاث دقائق، قلت بصوتٍ عالٍ " اللعنة، اللعنة، اللعنة " ليس لأن الوقت المتبقي لم يكن كافياً، بل لأن الباض العظيم، ذو الرقم (11) مر قربي، مثل صاروخٍ، و حلمٍ، وتهادى أمامي على بعد مئتي مترٍ، ثم توقف راضخاً لأمر الإشارة الحمراء. في داخلي كانت تتفجر آلاف اللعنات على تلك اللوحة الإلكترونية التي لم تظهر أن الباص (11) آتٍ لخللٍ فيها.
كانت مباراة ألمانيا مع المكسيك قد انتهت، وعرفت نتيجتها من سحنة شابين ألمانيين، مرا وهما يتحدثان بحماسٍ عن المباراة، كانا يرتديان قمصان المنتخب الألماني، ويمسك كل منهما عبوة بيرة، سررت لخسارة ألمانيا، وأحسست أن هذا انتقامي المناسب من تلك اللوحة الإلكترونية. خاطبت نفسي ساخراً (ماكينة ألمانية ... مثل لوحاتكم الإلكترونية ...طز).
كان هذان الشابان خارجين من مقهىً في الهواء الطلق، بالقرب من المسرح الذي أحلم بالوصول إليه، كنت كلما أقترب أكثر من المكان يرتفع صوت المتجمهرين فيه أكثر. صراخٌ، ضحكاتٌ، وقرعات على طبلٍ أحضروه معهم، غناءٌ بلغةٍ ليست ألمانيةً، اكتشفت أن مصدرها مجموعةٌ من مشجعي البرازيل التي كانت مباراتها على وشك البدء.
لم يعد يفصلني عن المسرح سوى مئة مترٍ وإشارة مرورٍ خضراء، لحسن حظي ! إنها الثامنة ودقيقة حسب ما أعلنت ساعة هاتفي المحمول؛ وفجأة أتـتـني هدية لا يمكن أن يكون مصدرها إلا السماء: تذكرت أن الدخول يبدأ في الثامنة تماماً، لكنه قد يستغرق عشر دقائق، ولماذا لا أكون آخر الداخلين ؟ ما الضير في ذلك ؟ لدي، إذن، سبع دقائق، فيها أستطيع التقاط أنفاسي، وتهدئة لهاثي، ومسح العرق النازف من جسدي، وربما تدخين سيجارتي التي حرمت منها بسبب خطأ تلك اللوحة الإلكترونية في الإعلان عن وجود الباص رقم (11).
دخلت إلى المسرح، وفعلاًً، كان النظارة بدؤوا بالدخول، هناك التقيت بأصدقائي، سوريين وألمان، حكيت لهم باقتضابٍ ما حصل، وبينما كنت أنقل نظراتي بين الحضور، رأيت صديقتين ألمانيتين، الأولى مُـدرّسة متقاعدةٌ، والثانية طبيبة أسنان، متقاعدةٌ أيضاً، ألقيت عليهما السلام، فبادرتني الأولى "للأسف لم يعد هناك بطاقات لا يمكنني الدخول" قالت الثانية ذات الجملة. حدقت فيهما مبتسماً وقلت "لدي بطاقتي وسوف أعطيها لواحدة منكما".
أخذت الطبيبة بطاقتي، ثم حضنتني مع فيضٍ من كلمات الشكر، وقبلتني، واستلت محفظتها تريد أن تعطيني ثمن البطاقة 12 يورو. رفضت طبعاً ( ناين..ناين..بتي). سألتني "سوف تذهب إلى المنزل ؟" قلت " ناتورليش، ناخ هاوزه".
حاولت إعادة البطاقة لي، فرفضت، مؤكداً لها أنني أستطيع الحضور غداً، في العرض اللاحق، فاقتنعت، وانطلقت فرحةً نحو صالة العرض، أما أنا قفلت راجعاً نحو موقف باص العودة، الذي أعلنت لوحته الإلكترونية أن الباص رقم (11) سوف يأتي بعد عشر دقائق. هممت بإشعال سيجارتي لكنني تراجعت، قلت أدخنها مع زوجتي ... وكاسة متة.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

المتة إن عزت

05-أيلول-2020

قصة مقالة عن أدونيس

23-أيار-2020

ضحكة فلسفية

04-نيسان-2020

هكذا تكلم أبو طشت ـ جزء 6 المرأة التي قتلتها مؤخرتها

21-أيلول-2019

هكذا تكلم أبو طشت ـ الجزء 5 كورنيش الشمس لدعم النقد الأجنبي.

14-أيلول-2019

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow