Alef Logo
ابداعات
              

قصة: الاحتواء !!!

د. طلال الشريف

2006-11-30

خاص ألف

كانت زوجته "سميحة" تحمله في ملاية السرير كل صباح،بمساعدة ابنتهما الوحيدة، "وصال" ، التي بلغت الثانية عشرة، وتهبطان به درجات السلم القليلة، من شقتهم في الدور الأول، ومن ثمة تضعانه في السيارة، ليذهب قدوحة إلي دكانه الصغير، بعد أن فقد أطرافه السفلية، أثر إصابته بشظايا قذيفة، من قذائف الاحتلال قبل ثلاث سنوات.
كان "قدوحة"، قبل هذا الحادث، شاباً، مفعماً بالنشاط، وهو رياضي سابق، حيث كان، يمارس رياضة رفع الأثقال، وقد بني جسماً قوياً، مفتول العضلات.
و اليوم عندما ينظر إلي جسمه، فلا يري نصفه السفلي، يحزن كثيراً، ويدخل في هلوسات ، ونوبات حزن، بدت أقل حدة، مما كانت عليه بعد الإصابة مباشرة، بعد أن أصبح نصف رجل، وهو الذي كانت عدسات المصورين تلاحقه، لتصوير هذا الجسم الجميل، وتلك الفخذين المنتفختين، التي سقاهما بماء التدريب، سنوات، وسنوات.
مرات كثيرة، ينتاب قدوحة شرود لحظي، وهو يتذكر حادثة الإصابة من القذيفة، التي صحا بعد انفجارها، بالمستشفي، ليكتشف، أنه عاجز عن المشي، وقد فقد اتصاله بالأرض، وانضم لقائمة المعاقين.
كان يلعن هذه اللحظة، كلما، اقتربت زوجته لحمله، وإنزاله درجات السلم، للذهاب إلي دكانه، الذي تحول إلي سجن صغير، والذي بدأ يشكل في أفقه، زنزانة ضيقة، لا تتناسب كلية مع فضائه الرحب، حيث كان يجول الدنيا بقدميه، قبل فقدانهما، ليصبح الآن جالساً علي كرسي دكان البقالة من الصباح، إلي أن، يأتي المساء حيث تنقله زوجته بمساعدة أحد المارة لوضعه في سيارة، للعودة إلى البيت، حيث تكون ابنتهما قد عادت من المدرسة إلى البيت.
وما زال قدوحة يعطي الأوامر، ويصرخ في زوجته،المتشبث ببقايا الرجل الشرقي، حتى، وهو محمول،إلى أن، يضعوه علي كرسي الدكان كل يوم صباحاً، أو في صالة بيته بعد الرجوع في المساء، وكانت زوجته سميحة تحضنه، وتقبله، لامتصاص نقمته، وعيناها تغرورقان بالدمع، وتسرع "وصال" لتقبيل يده، قبل أن تغادر إلي مدرستها.
هذا القدوحة، الذي كان قبل إصابته، يقسو علي زوجته سميحة، إذا ما اعترضت علي شيء، أو تصرفت في شيء دون معرفته، هذه الزوجة الضئيلة الحجم، الكبيرة الصبر، مقارنة، بقوته، وهامته، وعضلاته، وجبروته، والتي كان كلما قذفها بيده، أو ركلها بقدمه، تطير في الفضاء، ثم تسقط مصابةً برضوض في أغلب الأحيان، لأنه كان الآمر الناهي، الذي كان لا يطيق، أن يعارضه أحد، فما بالك، إذا كانت المعترضة، هي الزوجة، التي هي في عرف الحارة، والمجتمع، شخصية ثانوية، رغم ما تقوم به النساء من خدمات أسرية جليلة، وأعمال أصبحت لا تقل عن الرجال، و اللاتي يصبحن، في غرف النوم، مستودعات لاحتياجاتهم العاطفية، فيسبحون كالأطفال في أحضانهن، ناسين عن طيب قلب، وبحكم ثقافة المجتمع، ما فعلوه من شتم، أو سب، أو ضرب، أو تهميش.
وسميحة هذه، كانت من النساء الطيبات، اللواتي يحتوين أزواجهن، و يعملن علي جلب الراحة، والسرور لهم. وكانت دائماً، تحاول كل ما تستطيع لإسعاد قدوحة، بعد أن يتحول إلي طفل في نظرها، في غياب الرقابة المجتمعية، مدركة في عقلها، وكيانها، وعاطفتها، أنها الأم، والأخت، و المطيعة لزوجها، الذي تحلم بأن ترزق منه بولد ذكر ليعيد دورة السيطرة علي أنثي مثلها دون أن تشعر، لكن ما تشعر به هو،أنها الحامي، والمدبر، والقائم علي إسعاد جميع أفراد أسرتها، حتى بالتنازل عن حقوقها في سبيل الحفاظ علي أسرتها.
كان قدوحة، لا يتصور، بأن تنهار قوته، وصحته، ويتقلص إلي النصف، ولم يخطر بباله، أن يتضاءل حجمه وكيانه، وسيطرته إلي هذا الحد، الذي بدت فيه سميحة كلما وقفت بجانبه أطول منه، وإذا ما نامت بجانبه، ليلاً علي سريرهما، أن تراه يساوي نصفها، وهي في داخلها، مملوءة بالحزن الكبير علي ساقي زوجها المقطوعتين، تحاول أن تكتم غيرتها من الأخريات، اللواتي يتمتعن بأزواج كاملين.
كانت سميحة، كلما انزويا بغرفتهما للعشرة، حريصة كل الحرص علي مشاعر قدوحة، تحاول إسعاده بكل ما تستطيع، لكي لا يشعر بانتقاص رجولته، حيث كان سابقا يحتويها جسدياً، ولا تكاد تظهر ما بين ضلوعه، وجسمه حين يحتضنها، وكم كانت، في غاية السعادة سابقاً، وهو يظللها من كل ناحية،رغم قسوته، فتشعر بالارتياح، والسعادة، والأمان، ما ينسيها، كل ما كان يفعله قدوحة من استقواء عليها في نهاره.
لم يكن سابقاً يفهم قدوحة، أن سميحة شريكته، إلا عندما كان يحتاجها كأنثى، ودعواته المستمرة لممارسة الحب معها، كما هو يريد، وكما يراه مناسباً له، دون أن يكون لها رأي في ذلك، أو إظهار أي اعتراض.
وينخ الجمل بعد الحادثة الأليمة، ليتعلم المفاهيم الصحيحة، ومعني الشراكة الزوجية، وكما يقال دائما، بأن الزمن كفيل بتغيير المفاهيم، والمعاني، والأحاسيس.
نعم بدأ قدوحة يتغير، فقدوحة القوي أصبح الآن نصف قدوحة في القوة و الشأن، وبدأ يعرف كيف كانت سميحة تصبر عليه وتحتويه، تحتوي غضبه، وتمتص نقمته، وتخفف عنه أعباءه، وتلبي مطالبه بغريزة الأنثى، الأم، والأخت، والابنة، التي في كل بقاع الدنيا تظل، هي الأنثى التي تنبع بالحنان والعطاء وإنكار الذات.
بدأت سميحة،أيضاً، تدرك أن الظروف تغيرت، وبدأت تشعر أكثر بالمسئولية الصعبة، الملقاة علي عاتقها في الوضع الجديد، ولم يخطر ببالها، ولو للحظة، أن تنتقم من الرجل الذي أحبته، أو تتركه يعاني، رغم ما كان فيه من قسوة سابقاً، لا، لم يخطر ببالها بتاتاً، مثلها، مثل باقي إناث الأرض، اللواتي يحملن عاطفة ثاقبة، تكاد هذه العاطفة تفوق كل عقول الرجال المهيمنين عليها منذ الخليقة، لم يتبادر إلي ذهنها، إلا شيئاً واحداً فقط،، وهي في حاجة ماسة إليه، فعلاً، وهو أن يصبح لها طفل ذكر من زوجها المعاق، لعله يعوضها عما جري من تغيير دراماتيكي في حياتها، ولكون ابنتها أيضاً وحيدة، وهي بالسليقة، تحتاج لرجل، أخ في المستقبل يدعمها ويحميها.
وأخذت سميحة، تحاول من جديد، القيام بواجباتها السابقة، وواجباتها الجديدة، تجاه رجلها المقطوع الساقين، لتخفف عنه أولاً محنته، وتنسيه ما جري له.
فكانت تحمله إلي الدكان صباحاً، وتعود به في المساء، وتفعل كل ما يطلبه منها بصبر الصابرين، وأحاسيس الأمومة تستصرخها، لكنها، كانت تخشي من استمرار الحالة السابقة، التي مرت عليها، لمدة تقاس بعمر ابنتهما، وعدم حدوث الحمل لديها، والذي كان يشخصه الأطباء دائماً، بعدم وجود موانع للحمل، لديها، أو لزوجها.
وكان قدوحة، يحسب أنه، مثل الأمس في جولات ممارسة الحب مع زوجته، ولكنه رويداً، رويدا، بدأ يقتنع، أنه، لا يستطيع ممارسة الحب مع زوجته كما يهوي، وكما كان في السابق، لرجل مازال يتمتع بصحة جيدة فيما تبقي من نصفه العلوي،فيحس بالانكسار، لكن الواقع يفرض نفسه، وعليه التأقلم بالوضع الجديد، لتتحمل زوجته مهام جديدة كان هو مسيطراً عليها سابقاًً، ومتغطرساً بفحولته، لتحتويه مرة أخري .
وتحاول سميحة، أن تهيئ كل الظروف، والأوضاع المناسبة، لإشباع قدوحة بالحب، وتمر الأيام دون أن تفصح سميحة ما يدور في خلدها من أمنيات، لكن عاطفتها كانت تخطط في اللاوعي، وتدعو الله أن يحقق أمنيتها، دون علم زوجها بذلك، وكما يقال دائماً، أن الرجل بشكل عام، يقضي حاجته مع زوجته دون تخطيط للإنجاب، وكثيراً ما تفاجأ الزوجة زوجها بأنها حامل، وأن تخطيط المرأة لذلك ليس بالآلية، والفعل الجنسي فقط، بل بعاطفة الأمومة، والأمنية، لأنها في الأصل، هي أم الرجل، فالرجل لا يحمل في رحمه مخلوقاً كاملاً، بل يحمل نطفة تحتوي علي نصف مخلوق، وتحمل الأنثى النصف الثاني، ويحتضن جسم المرأة بعد ذلك مخلوقاً كاملاً، يتفاعل مع كل مكوناتها، ليستريح في رحمها تسعة أشهر، يعانيان معاً، ويتداخلان، ملتحمين بكل الظروف، في الوحدة، والشعور، والتغيير، أما الرجل فيقذف بحممه ويمشي، لتشتعل المرأة حملاً، و يحدث الحريق، بعد ذلك علي أرض المرأة، أما الرجل، فيقف بعد ذلك متفرجاً، مزهواً، دون معاناة.
ولذلك كانت المرأة من الأصل، هي التي تحتوي الجميع، بما فيهم الذكر، والأنثى، وهي القادرة علي امتصاصهم لاحقاً، بغريزتها، وخبرتها، ومشاعرها، وهي التي تستطيع إسعادهم، والحنو عليهم، وإدخال البهجة والسرور لحياتهم، بما فيهم الرجل، لأنه من الأصل، قد نما هذا الرجل بداخلها، وهي التي تقوم بتربيته، وإطعامه وحتى تنظيفه، وهذه طبيعتها، ولو لم يطلب منها الرجل ذلك.
وتمر الأيام، والليالي، بطيئةً علي سميحة، وفي ذهنها الأمل، وفي ذهن قدوحة غصة مما جري له، بعد أن، أحس أن زوجته، أصبحت تتقرب إليه، وتحاول مغازلته، أكثر من ذي قبل، وهي التي تجلسه الآن علي ركبتيها، كالطفل تداعبه، بعد أن، فقد هو ركبتيه، اللتان، كان يجلسها عليهما، ليداعبها، ويدللها، وهي التي تقوم بأوضاع الحب، التي تدخل السرور عليه، لتعينه علي التمتع بها كالسابق، دون نقصان، فهي التي تحاول الآن الحركة، وضبط الأوضاع علي سريرهما، بعد أن فقد هو هذه الخاصية وللأبد، فتحاول إعطائه ظهرها وهو مستلقي علي ظهره لممارسة الحب معها، ولعدم لزوم الساقين في هكذا حال، ليتناسب مع وضعه الجديد.
ويتأخر حيض سماح، وتجري اختباراً للحمل، لتطير من الفرح، عندما علمت، أنها حامل، وتمر الأسابيع الأولي للحمل ليتأكد لها، و لقدوحة أن الجنين ذكر، فتحمد الله علي ذلك، وعند المخاض، ذهبت إلي المستشفي، لتلد طفلاً ذكراً ،فتحس أنها الملكة، وتدمع عيناها فرحاً، وتستعجل العودة لمنزلها، ليري قدوحة ابنه، وما إن تدخل الباب، حتى بدا قدوحة، متلهفاً لرؤية ابنه، وتسرع في وضعه في حجر أبيه، الذي أسرع بفك الكافولة عنه، قبل أن ينظر في وجهه، وعينيه، باحثاً عن ساقيه، ليتأكد أن له ساقين، في نظرة دامعة، تقول للحاضرين، إن ساقيي مازالتا موجودتين، وستسيران علي الأرض من جديد. وأقبلت ابنتهما وصال، لتحضن أخاها، وهي تتأمل وجهه الجميل، وتقبله، وتهزه في فرح شديد، والطفل القادم إلي هذه الدنيا لا يعرف ما يدور في خلد كل واحد منهم، وفجأة يبول علي أخته في منظر جعل الجميع يقهقهون فرحاً، وتبدأ وصال الرحلة للاحتواء من جديد، امتداداً لوالدتها، لتنظيف أخيها، وملابسها من البول في رحلة جديدة من العطاء، والعناية بالطفل الجديد، ولدورة جديدة وقصة جديدة من حياة المرأة علي هذه البسيطة، بكل فخر، وسعادة، واستعداد لتحمل المشقة، والدعم الكامل للرجل الجديد، ومن جديد.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

زمان السهو أبطئ !!

01-نيسان-2007

قصة: الاحتواء !!!

30-تشرين الثاني-2006

أبطالك يا بيت حانون.. جنون !!!

15-تشرين الثاني-2006

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow