Alef Logo
دراسات
              

الدَّازِن بينَ الوَحدة والتَّمزُّق في كتاب "مورا في مدريد" لنوال السِّباعيّ

مازن أكثم سليمان

2018-08-11

تُمثِّلُ الكاتبة السُّوريّة نوال السباعي صوتاً خرج من عباءة الحركة الإسلاميّة، وتحديداً (الإخوان المُسلمين)، ويُشكِّلُ كتابُها “مورا في مدريد” (الصّادر عن دار الورّاق في الرِّياض عام 2016) شهادة تعكس موقفها الذّاتيّ والسِّياسيّ منذ مرحلة الثَّمانينات الدَّمويّة في سوريا، وتبدو لي قراءة أدبيّات هذا التَّيّار ضروريّة وطنيّاً لأسباب عدَّة؛ منها أنَّهُ تيّار يشعرُ بالمظلوميّة التّاريخيّة، وبالاستبعاد العنفيّ عن المَشهد السِّياسيّ، ولأنَّنا بوصفِنا وطنيِّين سوريّين ينبغي أنْ نُعيد قراءة المرحلة الماضية، وأنْ نطَّلِع على جميع الآراء ونفكِّكُها _ حتّى إنْ كانت نسبة اتفاقنا معها مُختلِفة تبعاً لكُلّ شخص ولاتّجاهاتِهِ وآرائِهِ_ حيث ما زلتُ أعتقد أنَّ كثيراً من مُعضلات الثَّورة السّوريّة التي اندلَعَتْ عام 2011 تعودُ إلى عدم مُراجَعة ملفّ الثَّمانينات وإغلاقِهِ على نحْوٍ وطنيّ جامِع لا يستبعد أي تيّار أو اتّجاه عن المُشارَكة في تشييد دولة وطنيّة مُؤسَّساتيّة ديمقراطيّة تعدُّديّة.

يتناولُ هذا الكتاب قراءة مُتعدِّدة الاتِّجاهات لتجربة الكاتبة الشَّخصيّة والسِّياسيّة منذ ثمانينات القرن الماضي حتّى حدود عام 2000، وتتأسَّسُ عليه جُملة قضايا إشكاليّة فنِّيّاً ومضمونيّاً، وقد اخترْتُ أنْ أقارِبَهُ وفقَ أدوات ترتبط بالمَنهج (التَّخارُجيّ النِّسْيَاقيّ)، وبمَفهوم (الدَّازِن) الذي هو الموجود البشريّ _في_ العالَم، والذي (ينفصِمُ) أثناء عمليّة التَّخليق الكتابيّ في تلكَ المنطقة الإبداعيّة الكثيفة عبر صراع جدَليّ داخِلَهُ بين الذّات اللُّغويّة المُؤلِّفَة (بكسر اللّام) الموجودة في العالَم الوقائعيّ والذّات اللُّغويَّة المُؤلَّفة (بفتح اللّام) الموجودة في العالَم الافتراضيّ، حيثُ ينهَضُ (الدَّازِن) بمهمَّة بسط أساليب الوجود اللُّغويّة النَّصِّيّة بوصفِها مُحصِّلة (نِسْيَاقيّة) تتجاوَز ثنائيّة (السِّياق الخارجيّ _ النَّسَق الدَّاخليّ)، لتكون مَرجعيّة النَّصّ هيَ لحركيّة الجدَل داخل (الذّات/ الدَّازِن) الذي يحيا تجرِبة مُضاعَفة بينَ المُستوى الوقائعيّ والمُستوى الافتراضيّ، تنتِجُ عالَماً تراكُبيّاً يُؤسِّسُ كيفيّات وجودِها هذا الفَصْم التَّراكُبيّ المُتوتِّر والمُعقَّد.

أوَّلاً: الدَّازِن زمكانيّاً: (الدَّازِن بين الماضي/ المكان السُّوريّ والحاضر/ المكان الإسبانيّ):

اضطّرَتْ نوال السباعي إلى مُغادرة سوريا حرصاً من أهلِها ومُحيطِها على سلامتِها، والتحقَتْ بزوجِها في غرناطة، ومن هذِهِ النُّقطة بدأ جدَل (الدَّازِن) يظهَر في أطُر مُتعدِّدة، محمولةً على المحور (الزَّمكانيّ)، حيثُ نلمَحُ في نصّ الكتاب أربعة أمكنة أساسيّة هي: (دمشق/ حمص _ غرناطة/ مدريد)، تنهَض عليها زمانيّة الصِّراع بينَ (التَّمزُّق) الوقائعيّ الكيانيّ، وحُلْم (وَحدة الانتماء الوجوديّ) الذي أمِلَتْ الذّات المُؤلَّفة الافتراضيّة ببسط أساليب وجودِها (أي هذِهِ الوَحدة) لرتق التَّشظِّيّ الزمكانيّ الهائِل عند الكاتبة.

قالت نوال السباعيّ:

“كانت غرناطة كأنها دمشق، حويراتها القديمة الضيقة المنسية، رائحة هوائها، نسيمات سحرِها، عبق التاريخ الذي تحمله أطراف غيماتها، قطرات مطرها، حفيف أشجارها، قرقعة الأقدام في أزقتها العتيقة، وهدير حركة المرور الصاخب في شوارعها الحديثة.. المنثور الأصفر الذي ينتشر على جنبات هاتيك الطرق أينما ذهبت، وحيثما تلفت، والورد الغرناطي ابن عم الورد الدمشقي الذي يكبره حجماً ويمتاز عليه بتعدد ألوانه اللافتة، ولكن لا عبق ولا عبير.”

وقالت أيضاً في مَوضِعٍ آخَر:

“لم أكن في غرناطة أشعر بمرارة الغربة وحنظلها، على الرغم من وحدتي الرنانة، ولم تكن )الكراهية (ورفض (الآخر (قد استحوذ ا على الناس في إسبانيا، حد إيلام الغرباء وإيذائهم وتذكيرهم كل ثانية من وجودهم فيها بأنهم دخلاء غير مرغوب فيهم.. كان الناس يتعاملون معي على أنني (المورا) زوجة الطبيب، كانوا في حينا وفي غرناطة في تلك السنوات، فقراء متوسطي الحال، يشعرون بالنقص أمامنا، لأننا عرب البترول ! ولأننا أسرة طبيب، مع أننا نسكن بينهم ونعيش مثلهم.“

من الواضِح أنَّ التَّوتُّر الوجوديّ النَّصِّيّ يبدأ من جدَليّة الكينونة المُمزَّقة، فالذات الافتراضيّة تُحاوِل أنْ تُعيِّنَ أساليبَ وجود استقرارِها وطُمأنينتِها بوصفِها مُعادِلاً زمكانيّاً انطلاقاً من طيّ المكان الغرناطيّ الحاضِر على المكان الدِّمشقيّ الغائِب، وهُنا ينهَضُ توتُّر الدَّازِن المُنفصِم العميق، ذلكَ أنَّ الوَحدة التي أنيطَ بغرناطة تقديمَها افتراضيّاً، تعرَّضَت لسلسلة خلخلات تفتيتيّة من داخِلِها، أوَّلُها أنَّ الزَّمكان السُّوريّ لن يكونَ قابلاً للاستبدال وقائعيّاً، ولأنَّ الزَّمكان الغرناطيّ سيكون عُرضة لمرحلة ثانية من التَّمزُّق العنيف بالانتقال إلى العاصِمة مدريد.

قالت الكاتبة:

“ما عاد لدي رقعة من جغرافيا أرسم فيها حكاياتي عن الزمان.. وعني، عن جذوري وأحلامي . هنا.. كنا نلعب، نتسلق الخزانة على أكتاف بعضنا حتى نصل إلى علبة الشوكولاته التي تحاول أمي إخفاءها لتكرم بها ضيوفها، هنا .. كسرت ذلك التمثال القبيح الذي كان أول شيء اشترته أمي من) معاشها (الأول بعد أن عينت معلمة في حوران وهي في الثامنة عشرة من عمرها، وهنا .. أحرقت ذات مساء كل أوراقي ودفاتر مذكراتي، في أول حريق (أشعلته (في حياتي، في حديقة بيت جدي بعد أن حملني الجميع على أن أفعله خوف الاعتقال والتعذيب، وفي المرة الثانية كان الحريق الكبير الذي شب في القلب والأوراق والكلمات ، في غرناطة، وكان ثمرة الغربة والخيبة ، ومنذ ذلك الحين تكررت الحرائق، وتكررت الولادات من رماد تلك الكلمات وهاتيك الأوراق.“

وقالت أيضاً في مَوضِعٍ آخَر:

“بدأت أقْبل الدور الذي أرغمتني مدريد على أن أعيش في بوتقته. _ (مورا..) دور أسندته مدريد إلي، وأجد نفسي مرغمة على القبول به، لم أستطع وبعد مرور السنين في مدريد أن أتخلص منه أو أنفك عنه.“

لم تنتهِ صفعة التَّمزُّق الأولى التي نالَها (دَازِنُ الكاتِبة) عندَ حُدود الغِياب القسريّ عن الوطن الأمّ، لكنَّهُ تعمَّقَ بتشتيت ما ظنَّتْهُ أساليبُ وجود الذّات الافتراضيّة تعييناً للوَحدة المُعوِّضة عبرَ الحُضور في غرناطة.

لقد جاء الانتقال إلى مدريد بمنزلة نقل الصِّراع إلى مُستوىً أشدّ إيلاماً، فالتَّشظِّي الدِّمشقيّ تمدَّدَ امامَ زوال المُسكِّنات الغرناطيّة، وبدأَتْ المُواجَهة تأخذ بعداً إضافيّاً يتشابَك مع المُواجَهة الأولى المُتعلِّقة بمُحاوَلة الدَّازِن تصفية الحساب مع الماضي السُّوريّ، ليتعقَّد الموقف زمكانيّاً عبرَ مُواجَهة جديدة مع (اغتراب العنصريّة) التي ستدفَعُ أساليبَ الوجود في كامل كتاب “مورا في مدريد” لمُمارَسة المعارك على محوريْن زمكانيين: الوطن الغائب، والحُضور القاسي في الغربة، فصفة الـ “مورا” هيَ صفة عنصريّة إسبانيّة تهدُف إلى الانتقاص من المُهاجرين العرب والمُسلمين.

قالت نوال السباعي:

“جاءتني رسالة من دمشق بذلك الخبر الذي كان مفجعاً، بالضبط كما كان خبر موت جدي قبل ذلك بعام، في تلك الرسالة كان الإعلان النهائي للقطيعة بيني وبين ذلك (الوطن)، لم يعد لي في دمشق –ما عدا أمي وأبي – أي شيء يستحق أن أفكر في زيارة دمشق من أجله ! لم يكن الأمر، أنني لا “أستطيع“، ولا يمكنني مجرد التفكير في زيارة دمشق، زينت الأمر بيني وبين نفسي وكأنني لا (أريد(!كأنه.. كأنه قرارٌ انتقامي شخصي اتخذته من عند نفسي ! كأنني أنا صاحبة القرارات فيما يتعلق بكل تفاصيل حياتي ! وكأن امرأة دمشقية يمكنها أن تقرر وتعزم، في زمن بدا فيه كل شعبها عاجزاً عن اتخاذ أي خيار يدفع نحو الاتجاه الصحيح للأمور !.. كأن أمي لم تكتب لي ألفي رسالة تصر فيها على عدم عودتي إلى دمشق، وعشرة آلاف أخرى تطلب إلي فيها مستعطفة أن أتوقف عن الكتابة إكراماً لخاطرها المكسور، ولأنها لا هي ولا أبي –كما قالا– يحتملان لا الاعتقال ولا التعذيب ولا البهدلة!“

تُمثِّل البُؤرة الزمكانيّة لهذا المقطع ذُروة اغترابيّة بالِغة العمق، فشخصيّة الجدّ تكاد أنْ تكون أهمّ شخصيّات الكتاب المُؤثِّرة على (دَازِن الكاتبة)، ورحيلُهُ لا يعني فقط أنَّ نِسْيَاق النَّصّ يُتوِّجُ انتصارَ أساليبِ وجودِ الذّات المُؤلِّفة الوقائعيّة على أساليب وجود الذّات المُؤلَّفة الافتراضيّة التي مزَّقَها الاغتراب الزَّمكانيّ، حيثُ بلَغَ هذا الاغتراب قمَّة تفتيت (الوَحدة المُشتهاة) بوفاة الجد الذي يُشبِهُ حبل السُّرَّة الرّابط بالوطن، لكنَّ هذِهِ الوفاة تُشكِّلُ (عُقدة دراميّة) أو (نواة انشطاريّة) يلتقي فيها الصِّراع الشَّخصيّ والسِّياسيّ للكاتبة ضدَّ التَّيّار المُعادي لتيّارِها في سوريا، معَ الصِّراع الشَّخصيّ والسِّياسيّ لها ضدَّ التَّيّار المُعادي لكينونتِها في مدريد، وهُنا يبلُغ توتُّر الدَّازِن المُنفصِم على امتداد صفحات عالَم “مورا في مدريد” حُدودَهُ القصوى، ولا سيما أنَّ تداخُل الأمكنة وطبقات الأزمنة تُكثِّف حالة (الاغتراب) على حامل (زمكانيّ) يدفَعُ الكاتبة للاستنفار في حربِها المَفروضة عليها على أكثر من جبهة فرديّة وجمعيّة.

قالت نوال السباعي:

“دفاعنا عن الإسلام الحق في وجه مسلم أهوج جاهل في إسبانيا، جعلنا عرضة للقدر نفسه من الأذى، الذي كنا نتعرض له في عقر دورنا في دمشق، حين كنا نمارس حقنا الطبيعي في أداء بعض شعائر ديننا التي تزعج رجال الأمن، وتضطرهم للسهر مخافة انفلات الأمن!“

وقالت أيضاً في مَوضِعٍ آخَر:

“أوروبا.. التي تملأ الدنيا صراخاً، ومظلومية، وشكوى من تدفق موجات الهجرة إليها، وتوالد حركات (الإرهاب) ضدها، ولا تريد أن تعرف أو تعترف بأنها هي .. أوروبا نفسها، هي التي أسست لهذه الحركات الإرهابية، ورسخت لقيامها، ودعمت قوتها، واخترقت قياداتها، وقواعدها، بأجهزة مخابراتها، لكي تحركها كما تشاء، وكيف تشاء، كما لا تريد أن تعرف، أو تعترف، أنها هي الغازية، المعتدية، المستعمِرة، الإرهابية، التي دمرت مستقبل مختلف شعوب الأرض، وسرقت ثرواتها، ورسخت عبوديتها في قلوب الجميع، عن طريق الثقافة والإعلام والتعليم .. فجاءها المهاجرون من كل شرخ عميق، خلفته وراءها في أثناء سياحة جيوشها التدميرية، خلال القرنين الأخيرين في الأرض. لم يعد أمام أُوروبا، فيما يتعلق بتعاملها مع مستعمراتها السابقة، لضبط حركة الهجرة التي تقلقها، إلا طريقين، فإما التفاهم على الحدود الإنسانية الدنيا المشتركة، التعايش والاحترام المتبادل، وإما الحوار المرّ بالطائرات الحربية ، والصواريخ العابرة للقارات، والبوارج الغازِية للاستقلال، والحرية، وإرادة الشعوب. أما من جهة الجنوب، فيتصدر المشهد، الغاضبون – تحركهم وتتحكم بتشكيلاتهم مراكز ومؤسسات الاستخبارات الدولية – من عابري موجات الألم الإنساني ، والتغييب القسري، والتهميش العنصري، والجهل المركب، وعذابات البشر. ليس أمامنا، (نحن) و(أوروبا) سوى سبيل واحد للنجاة“.

من المُؤكَّد أنَّ التَّشابُك الزمكانيّ بين المكان والزمان الغائبين، والمكان والزمان الحاضرين، كانَ يقلب المُعادَلة في كثير من الأحيان، إذ يُسْقِطُ (دَازِنُ الكاتبة) عبرَ جدَليّاتِهِ المُتراكِبة في كثير من الأحيان الصِّراع الوقائعيّ في الحاضِر الإسبانيّ على الصِّراع الوقائعيّ في الماضي السُّوريّ، ليعودَ هذا الغائِب (زماناً ومكاناً) ليحضُرَ في الزَّمان والمكان الإسبانيّ، كأنَّ الكاتبة لم تُغادر بلَدَها، فها هيَ ذي تستحضِرُ من ناحية أُولى ما تعرَّضَتْ لهُ من اضطهاد (سياسيّ/ دينيّ) في سوريا، وتستحضِرُ من ناحية ثانية الخطاب (العربيّ/ الإسلاميّ) في ردِّهِ على الاستعمار فعلاً وفكراً استشراقيّاً، وفي المقطع الأخير تُحاوِلُ الذّات الافتراضيّة أنْ تضَعَ حدَّاً لتمدُّد الذّات الوقائعيّة ببسط أساليب وجود تنطوي على (موقف حاسِم) يرنو إلى نوعٍ من الوَحدة داخل جدَليّة الدَّازِن في مُواجَهة التَّمزُّق والتَّشظِّي العنيف الذي فرضتْهُ عوامل الصِّراع الزَّمكانيّة في هذا الكتاب، غيرَ أنَّ النِّسْيَاق العام للكتاب يجعلُني حذراً في القول إنَّ (دَازِن الكاتبة) قد نجحَ في بلوغ ذلكَ.

ثانياً: الدَّازِن بين السِّيرة والشَّهادة والمُراجَعة: (الدَّازِن بينَ المُستوى الذّاتيّ والمُستويين التّاريخيّ والاجتماعيّ):

مثَّلَت (الزَّمكانيّة) الحاملَ الجدَليَّ الذي بسَطَ أساليب الوجود في كتاب “مورا في مدريد”، حيثُ استطاع (دَازِن الكاتبة) أنْ يُولِّد عبرَ هذا الحامل مُختلَف الإحالات والدَّلالات التي جعلَت من هذا العمَل نمطاً مزدوجاً من (السِّيرة الذّاتيّة الجمعيّة) و(الوثيقة التَّأريخيّة الاجتماعيّة)، مُتملِّصاً من حُدود التَّجنيس التقليديّ بوصفِهِ ينطوي على بِنية تراكبيّة مُعقَّدة تبدو القيمة المُهيمِنة فيها ناهِضةً على توظيف جدَليّات الدَّازِن بين المُستوى الوقائعيّ المَعيش والمُستوى النَّصِّيّ الافتراضيّ لصالِح ما أصطلِحُ عليه بِـ (الشَّهادة/ الموقف).

لا يُمكِنُ للمُتلقِّي أن يصِفَ هذا العمَل بأنَّهُ سيرة بحتة، ولا أنْ يُجنِّسَهُ تحت نوع الرِّواية، فالنِّسْياق المُسيطِر في هذا الكِتاب هو (السِّيرة الشَّهادة/ الوثيقة الموقف) اللَّذان يبسُطان السِّياقات المُتنوِّعة والأنساق اللّاواعية عبرَ جدَل مُعقَّد للدَّازِن المُنفصِم، والمُتَّكئ على تجربتي العالَميْن الوقائعيّ والافتراضيّ في توتُّر مرتفع بينَ التَّمزُّق الكيانيّ، ومُحاوَلة رأب الصُّدوع الشَّخصيّة والجمعيّة بوَحدة (الوثيقة الموقف) الذي يردُّ على الشُّروخ الوجوديّة للكاتبة بتقنيّات مُتنوِّعة تُقدِّمُ السِّيرة والشَّهادة والمُراجَعات الخاصّة بهذا (الموقف الشَّخصيّ/ السِّياسيّ) عبرَ آليّات تُشبِه (الشَّذرات) التي توظِّفُ تقنيّات السَّرد والقصّ والخاطرة على نحْوٍ مُباشَر يكادُ يخلو من التَّخييل، وهذِا يُوائِمُ طبيعةَ الكتاب وغاياتِهِ.

قالت نوال السباعي:

“دفعني أهلي للسفر دفعاً، كما فعلت الآلاف من الأسر السورية، وأرغموني على مغادرة البلاد خوفًا ورهباً .. سافرت والتحقت بزوجي في إسبانيا، وبقينا فيها نترقب لحظة العودة عاماً وراء عام، وساعة بعد ساعة.“

وقالت أيضاً في مَوضِعٍ آخَر:

“قالت (وتقصد الكاتبة أمَّها) إن (الوحوش) قد زاروهم في البيت يسألون عني، وأنهم أكدوا لهم ، أنهم سيفرمون يدي بفرامة اللحم ، بسبب كتاب كنت قد كتبته حين كنت في سنتي الجامعية الأولى في كلية العلوم.“

كما قالت في مَوضِعٍ ثالث:

“حدثته عن الجامعة (تقصد الكاتبة أنَّها حدَّثَت جدَّها جدَّها)، وعما فعلته بنا الغيلان، وكيف تم اغتيال أحد الأساتذة في الحرم الجامعي، ثم غلبني الدمع ، لكنني لم أكن أريد البكاء: فوجئنا بعشرات من رجال الأمن يقتحمون علينا كلية الشريعة، كنت هناك أحضر بعض الدروس كما اعتدت أن أفعل بين الحين والحين، أهرب من كلية العلوم ملتجئة إلى هذه الكلية القريبة لأجد نفسي فيها.“

تُقدِّمُ هذِهِ المقبوسات جانباً من (السِّيرة/ الشَّهادة)، فهيَ تنتمي زمكانيّاً إلى التَّجربة (الشَّخصيّة/ السِّياسيّة) لـِ (دَازِن الكاتبة)، وتنهَضُ عليها (الوثيقة/ الموقف) في أبعادِهِ التّاريخيّة والاجتماعيّة، ذلكَ أنَّ سردَ (الشَّذرات) المَعيشة في سورية تُنطوي ضمناً على تعيين الموقف المُركَّب جدَليّاً بوصفِهِ مُحاوَلة الذّات المُؤلَّفة الافتراضيّة أنْ تُعوِّض عبرَهُ التَّمزُّق الكيانيّ للذّات المُؤلِّفة الوقائعيّة التي كانت في سورية (الماضي/ الغائب)، فالشَّهادة هُنا هيَ أُسّ الطُّموح بتعيين أساليب الوجود لتكون عامل الردّ الذي يُفترَض أنْ يُحقِّقَ للدَّازِن المُنفصِم توازُنَهُ المفقود عبرَ (وَحدة الموقف والانتماء والشَّهادة) على مرحلة أفضَتْ إلى التَّشظِّي الزَّمكانيّ الذي تعيشُهُ الكاتبة، وهذا يظهَرُ أكثَر في الشَّواهد الآتية.

قالت نوال السباعي:

“سألت الدكتور البوطي، وكان يقف معه الدكتور عجاج الخطيب، أحد أحب أساتذة كلية الشريعة إلى قلوب الطلبة، وأكثرهم قرباً منهم : هل يجوز لفتاة أن تفسخ خطبتها وعقد زواجها لتبقى في سورية ولا تغادرها إلى حيث يقيم زوجها للدراسة خارجاً؟ نظر إلي الشيخ البوطي، وقال : وهل هذه الفتاة مكلفة شرعاً وعقلاً بإنقاذ البلد وقيادة الجيش مثلاً؟ قلت: لا طبعاً، لكنها لا تستطيع أن تتم زواجها وتلحق بزوجها والبلد غارقة في الدم. فتدخل الدكتور عجاج قائلاً : هذه فتاة شجاعة ، لكنها تكون أشجع إن هي أتمت زواجها والتحقت بزوجها وأسست أسرة كريمة يفهم أفرادها معنى الحق ويلتزمونه، ثم يعودون إلى بلادهم لخدمتها. قلت: لمن سنترك البلد يا أساتذتنا الكرام؟ لمن يترك هؤلاء المغادرون من المشايخ والعلماء والأساتذة والشباب البلد والناس في هذه المحنة؟”

وقالت أيضاً في مَوضِعٍ آخَر:

“لم نتمكن كشباب من التفاهم مع مشايخنا وأساتذتنا، كانوا في غالبيتهم قد أغلقوا عقولهم على محاربة حمل السلاح والخروج على الحاكم ومبادأته بالثورة، وكان الكبار من القيادات الشيوعية والقومية في البلد أعجز من أن يحركوا الشارع الذي يغلي، وأبعد ما يكونون عن التحقق بإرادة الجماهير، وتصور خطة للتغيير الشامل.“

وقالت أيضاً في مَوضِعٍ ثالث:

“قضيت السنوات العشر اللاحقات أفكر فيما كان يقوله )تقصد الكاتبة جدَّها الذي كان يُعارض حمل السِّلاح من قبل الإخوان المسلمين في الثَّمانينات) في تلك الأيام العصيبة، وأتساءل: هل كان أولئك الشباب حقاً من المتهورين المجانين؟ ألم يكن من حقهم حمل سلاح يدافعون به عن أنفسهم، وهم المُعرضون للاعتقال بسبب و من دون سبب؟، هل أخطأوا في حمل السلاح لمواجهة كل هذا الحجم من الاستبداد الطائفي المتوحش الذي كان يزحف على سورية غولاً أسود شبحياً، يلتحف البعث، ويشتمل التقدمية، وينادي بالاشتراكية والقومية العربية؟”

تُمارِسُ (السِّيرة/ الشَّهادة) وهيَ ترسم مَلامِحَ (الوثيقة/ الموقف)، ليسَ فقط عرضاً سرديّاً يقومُ باستدعاء تجارب الماضي السُّوريّ إلى الحيِّز الزَّمكانيّ الإسبانيّ؛ إنَّما ينطلِقُ (دَازِن الكاتبة) في صراعِهِ الجدَليّ التَّراكُبيّ لبسط أساليب وجود مُتوتِّرة إلى الحدّ الذي يُظهِرُ حجمَ التَّشظِّيّ المَعيش، إذ لم تكُن التَّجربة السُّوريّة التي عاشتْها الكاتبة، وتمثَّلَتْ أبعادَها السِّياسيّة والتّاريخيّة والاجتماعيّة، بمنأىً عن شُعورِها بحجم التَّفتُّت الكيانيّ حتّى ضمن تيّارِها الإسلاميّ إنْ بصورتِهِ الجمعيّة العامّة، أو بمَرجعياتِهِ الدِّينيّة، أو حتّى بمَرجعياتِهِ السِّياسيّة كما نقرأ في مَواضِع مُختلِفة من الكتاب، وهُنا يبدو الصِّراع قد بسَطَ مُستوىً أعلى بينَ التَّمزُّق الوقائعيّ لـِ (السِّيرة/ الشَّهادة) والطُّموح بتعيين الوَحدة والطُّمأنينة والاستقرار المُعوِّض عبرَ (الوثيقة/ الموقف)، وهوَ (أي هذا المُستوى الأعلى)؛ هو مُستوى (مُراجَعة التَّجرِبة الشَّخصيّة/ الجمعيّة السِّياسيّة) بعناصرِها وأبعادِها التّاريخيّة والاجتماعيّة، حيثُ تبدو هذِهِ (المُراجَعة) حركيّة عنيفة لأساليب وجود (دَازِن الكاتبة) المُنفصِم بين الذّات المُؤلِّفة _في_ عالَمِها (الوجوديّ/ اللُّغويّ) الوقائعيّ (سُوريّاً)، والذّات المُؤلَّفة _في_ عالَمِها (الوجوديّ/ اللُّغويّ) الافتراضيّ (سوريّاً وإسبانيّاً)، ليبقى حُلْم الوَحدة مُعلَّقاً وموضوعاً بين أقواس، في ضوء التَّمزُّق الكيانيّ الذي لا يلبَثُ أنْ يفتَحَ على (دَازِن الكاتبة) أبعاداً مُتعدِّدة وتراكُبيّة للصِّراع.

قالت نوال السباعي:

“غريبةٌ بين أهلها وناسها وفي بيت زوجها ، هكذا كانت جدتي، غريبةٌ أنا في هذه الأسرة الحمصية –الدمشقية، التي جمعت الحسب والنسب المُغرِقين في ادعاء شرف ضائع، يوم ضاعت كل مكاسب الإقطاع في سو رية، إلى شرف حقيقي تعلَّقَ ب (دار علوم الحديث) القائمة إلى جانب المسجد الأموي، وقبري نور الدين وصلاح الدين، كان جدي أحد أعمدة) دار الحديث( ورجالاتها في زمن لم يعد فيه للعلم ولمثل) دار الحديث( هذه في دمشق أي قيمة، بين شعب يعبد المال والصوت وسفاهات وسخافات وقشور الحياة، في مرحلة ما بعد الاستقلال، والتي وقفت فيها البلاد والعباد عن التطور والنمو والقدرة على صنع التاريخ، وبقينا هناك في مربع التفاخر بالأنساب، وأسماء العائلات الكبيرة المعروفة، عاجزين عن أن نتقدم قيد أنملة نحو المستقبل والحياة والعالم من حولنا، محصورين في أنسابنا التي نُعظِّمُها، وشهادات أبنائنا الجامعية التي اقتصرت بشكل رئيسي على الطب والصيدلة والهندسة، وكأن لا علم ولا علوم في الدنيا إلا هذه، نتخبط في عفنٍ اجتماعي خانق، لا يكاد يفلت منه إلا القوي الشديد! حتى جاءنا (حزب البعث) بانقلاباته ودباباته ووحوشه الطائفية المتمنطقة بمظلومياتها التاريخية المدّعاة، فسلب من الناس شرف أنسابهم، وشرف انتماءاتهم، وشرف وجودهم أحراراً كراماً! وبقيت القشور يتعلق بها الناس، يُقنِعون أنفسهم من خلالها أنهم) بخير..) وسيطر(البعث) على كل ما عدا ذلك في حياتنا.“

وقالت أيضاً في مَوضِعٍ آخَر:

“لم يستوعب الناس – إلا القلة منهم – في حينه هذا الوضع المؤلم الذي فُرِض عليهم، في غيبة منهم بينما كانوا منهمكين بخوض معاركهم الفكرية والثقافية والاجتماعية .. بين اليمين واليسار، بين الحداثة والأصولية، بين دعوات الإصلاح التدريجي ودعوات القتال المسلح، لم يقم السوريون بواجبهم في التجمع والتكتل ونسيان خلافاتهم لإيقاف إحداث المزيد من التفتيت في وجودهم الوطني والجغرافي، ولا بذلوا الجهود اللا زمة الجا دة للخلاص من تلك الوحوش التي كانت تتربص بهم الدوائر ، لم يتمكنوا من النمو وتجاوز أنفسهم وأمراضها. لم يصنعوا طبقة سياسية قادرة على قيادة البلاد، لم يسمحوا هم أنفسهم لأنفسهم بولادة هذه القيادة .. كانوا كلهم قيادات وزعماء، وكانوا يستكبرون على الحق، و يسحبون البساط من تحت أقدام كل من تُسوِّل له نفسه أن يبدأ المسير.“

وقالت أيضاً في مَوضِعٍ ثالث:

“استبدلنا في غربتنا .. باستبداد الأسرة وتعسفها استبداد (الجالية (وتعسفها، وتنطع (الشيخ) وتطفيفه، بتنطع (مجموعة العمل الإسلامي) وتطفيفها. تلك واحدة من أكبر المحن التي عشتها في غرناطة ثم في مدريد، ولم أكن أعلم أنها ستمتد معي إلى ما يشبه اللانهاية“!.

وهكذا، لم تقفْ الكاتبة في تقديمِها لِـ (السِّيرة/ الشَّهادة) النّاهِضة بِـ (الوثيقة/ الموقف) عند السَّرد والاسترجاع والقصّ والوصف؛ إنَّما حملَتْ عبئاً (تاريخيّاً اجتماعيّاً) أكبَر، بفتح بوّابة (الاغتراب) على (المَسكوت عنه) أو (غير المُفكَّر به)، حيثُ أخذَ (دَازِنُ الكاتبة) يُفكِّكُ في حركيَّتِهِ الزَّمكانيّة المُعقَّدة عناصِرَ هذِهِ (السِّيرة/ الشَّهادة)، ليُعيِّنَ (الوثيقة/ الموقف) على حامِل (المُراجَعات الشّامِلة) للتَّجربة السِّياسيّة (الشَّخصيّة والجمعيّة) تاريخيّاً واجتماعيّاً؛ إذ لم تكتفِ الكاتبة بمُحاكمة السُّلطة القائِمة في الوطن، لكنَّها حاوَلَتِ التَّعمُّقَ في البِنيات الاجتماعيّة المُتفسِّخة والمُتعفِّنة التي أفضَتْ إلى هزيمة التَّجربة الإسلاميّة بدءاً من المجتمع الدِّمشقيّ، مُروراً بسَبر المَساحة السِّياسيّة المُتصحِّرة بجميع تيّاراتِها المُتنوِّعة في الوطن، وانتهاءً بنقد نخب العمَل السِّياسيّ الإسلاميّ بين سورية وإسبانيا، وهذا الأمر المُتراكِب هوَ ما أفضى إلى تحوُّل (المُراجَعات) إلى عامل إضافيّ جديد لم يُساعد (الوثيقة/ الموقف) المُنبثقة عن (السِّيرة/ الشَّهادة) في بسط أساليب وجود (وَحدة الانتماء الذّاتيّة والجمعيّة) المُستقرّة؛ إنَّما أمعَنَ المُستوى الوقائعيّ في تفتيت المُستوى النَّصِّيّ الافتراضيّ وتشتيتِهِ، ذلكَ أنَّ تلكَ (المُراجَعات الثَّمينة والشُّجاعة) للمَسكوت عنه لم تُولِّد في عالَم النَّصّ إلّا مزيداً من تفتيت المشهد الإسلاميّ الخاصّ والعام، وتمزيقِ (دَازِن الكاتبة) تمزيقاً زادَ من ناحية إيلامَ (دَازِنِها)، وزادَ من ناحية ثانية جَماليات النَّصّ المكتوب بحبر الرّوح.

ثالثاً: الدَّازِن بين الهُوِيّة الإيديولوجيّة والهُويّة اليوتوبيّة (الهُوِيّة الفرديّة والجمعيّة بينَ الإسلام والعروبة):

يُمثِّلُ سُؤالُ الهُوِيّة في كتاب “مورا في مدريد” الباطِنَ المَضمونيَّ للحامل الزَّمكانيّ الذي تنبسِطُ عبرَهُ تقنيّات (السِّيرة/ الشَّهادة) في مُحاولة تعيينها لِـ (الوثيقة/ الموقف)، حيث تتجلّى جدَليّات (دَازِن الكاتبة) في توتُّرِها الفاصِم في ذبذباتِهِ الوجوديّة الأعلى بواسطة شذرات النَّصّ المُنتشرة بينَ قوَّة التَّمزُّق الكيانيّ، وقُوّة الدِّفاع المُضادّة بما هيَ شهوة بسط أساليب الوَحدة والاستقرار والطُّمأنينة الهُوِيّاتيّة.

قالت نوال السباعي:

“الواقع، أنه لم يكن في حياتنا شيء واحد فقط يسير في الاتجاه الخطأ، كانت هناك مجموعات من الأمور تنبئ بالعارض المستقبل.. زور، بهتانٌ، تعسف، جور، تنابذٌ، تخلف، تكبر، ارتكاس، إنكار، انسلاخ تدر يجي مخيف عن (الهوية..) (هويتنا(.”

وهكذا، شكَّلَ سُؤال الهُوِيّة بؤرةً جدَليّة شديدة الحُضور في مُواجَهة غياب قسريّ ضاغِط على نحْوٍ اغترابيّ مزدوج:

1_ الغِياب الاغترابيّ عن (الوطن/ مُخلخِلُ الهُوِيّة الإيديولوجيّة واليوتوبيّة) للكاتبة.

2_ الغِياب الاغترابيّ في (إسبانيا/ مُخلخِلَةُ الهُوِيّة الإيديولوجيّة واليوتوبيّة) للكاتبة.

ومن هذا المُنطلَق، تنهَض رحلة الجدَل الفاصِم العنيفة نِسْيَاقيّاً بين الذّات المُؤلِّفة الوقائعيّة والذّات المُؤلَّفة الافتراضيّة، ويُواجِهُ (دَازِنُ الكاتبة) قدَرَهُ في مُمارَسة الصِّراع والمُواجَهة (الدِّفاعيّة) عن الهُوِيّة (الفرديّة والجمعيّة) عبرَ أكثر من مُستوىً تراكُبيّ يستحضِر المَسكوت عنهُ مُتناثراً بين زمكانيّة الوطن وزمكانيّة المُغترَب الإسبانيّ.

قالت الكاتبة:

“خمسة أعوام من المعاناة الصامتة، والوحدة المريرة، حملتها جميعها في قلبي عندما قررنا الهجرة إلى مدريد، بحثًا عن مدارس عربية يمكننا أن نلحِق بها أولادنا .. الشيء الذي لم يحدث إلا بعد عشرة أعوام من تاريخ وصولنا إليها!“

لقد وقعَتِ الكاتبة في براثن معركة كيانيّة وجوديّة مُتعدِّدة الأبعاد، ولهذا كانَ جدَل الدَّازِن بين التَّمزُّق والوَحدة، يمرُّ بشظايا (المُراجَعات) ليسَ فقط للتَّجربة السُّوريّة؛ إنَّما يمتدُّ لتفكيك مَعالِم التَّجربة الإسبانيّة (العلاقة مع الآخَر الغربيّ)، وهوَ الأمر الذي يبدو وفيّاً في أساليب وجود الكتاب لِـ (السِّيرة/ الشَّهادة) الحامِلة مَضمونيّاً لِـ (الوثيقة/ الموقف) المُتشابكة أفُقيّاً وعموديّاً في زمكانيّة صراع شامل.

قالت نوال السباعي:

“كان ذلك وساماً يرفع المرء به رأسه .. أو على وجه الدقة، كان ذلك وساماً ترفع به المرأة رأسها! أن يقول الإسبان عن أولادك، إنَّهُم يشبهون الألمان ، تربية وسلوكًا واهتماماً، فهذا يعني استثنائية قلّ من ينالها ! فالإسبان يشبهوننا جداً، في موضوع إعجابهم بالألمان، والأوروبيين الشماليين البيض الشقر الزرق العيون، كانوا يشعرون تجاههم بالنقص، الذي رممته إسبانيا سريعاً بقدرة شعبها الهائلة على النمو والعناية بنفسه، كما التعلم والانضباط، ومحاولات اللحاق بالأوروبيين قلباً وقالباً، قبيل سنوات الأزمة اللاحقات العجاف.“

وقالت أيضاً في مَوضِعٍ آخَر:

“قاطعتني (لوردس: التي تُحضِّر رسالة في العلوم السِّياسيّة عن تقسيم السّودان) قائلة: في السودان المذابح ضد المسيحيين يومية، وفي بلادكم، المسيحين ليسوا مهاجرين، ولكنهم أصحاب البلاد الأصليين!فوجئت بهذا الهجوم غير اللائق البتة، قلت لها في هدوء المستنكر: الأقليات” الدينية، لا تقتصر في بلادنا على المسيحيين يا سيدة، بل إن هنالك الكثير من الطوائف والفرق والانتماءات الدينية، ثم .. ماذا تقصدين بمصطلح (سكان البلاد الأصليين(.. ما هذا الكلام العجيب الغريب؟ _ أقصد مع كل الاحترام، أنكم أنتم الدخلاء عليهم! _دخلاء؟ ماذا؟ هل تعدّين مسلمي سورية مثلاً أو مسلمي فلسطين دخلاء على هذه البلاد ؟؟ يا سيدتي اسمحي لي، يبدو أن التحضير للدكتوراه الذي تقومين به يسير في اتجاه مغاير لكثير من الحقائق.. أهل تلك البلاد دخلوا في الإسلام، فالمسلمون والمسيحيون في تلك البلاد هم أهل البلاد، ثم إن الحاضر لا يمكن محاكمته للتاريخ بهذا الشكل التدميري المريع..“

إنَّ مُحاوَلة (الدَّازِن المُنفصِم نِسْيَاقيّاً) مُواجَهة المُستوى الوقائعيّ المُعادي لما تُعدُّهُ الكاتبة (هُوِيَّتَها الأصليّة)، قادَ أساليبَ الوجود المُنبسِطة في الكتاب إلى توحيد المعركة الهُوِيّاتيّة، فَـ (الهُوِيّة الإسلاميّة) كانت عُرضةً للاستباحة والمظلوميّة في الوطن الأمّ، وهيَ هُنا (في إسبانيا) عُرضة لصور نمطيّة مُعاديّة شعبيّاً، ولمفاهيم نخبويّة استشراقيّة استعماريّة خطيرة، لذلكَ سعَتْ الكاتبة في صراعها المُعقَّد تراكُبيّاً إلى مُحاوَلة الانتصار لوَحدة الهُوِيّة في مُواجَهة معركة مُتعدِّدة الجبهات لم تتوقَّف لحظة واحدة عن تفتيت (يوتوبيا الوَحدة الهُويّاتيّة) المُتكئة أصلاً على (موروث إيديولوجيّ إسلاميّ) يستحقّ الكثير من المُساءَلة والمُراجَعة عندَ القارئ المُدقِّق والنّاقد الباحث عن مُواكَبة حركيّة الدَّلالات.

قالت نوال السباعي:

“اصطفاف هذه الشعوب ، إلى جانب مسلمي البوسنة ، المظلومين والمذبوحين، بهذا الزخم الإنساني العالي ، لم يرقْ، لأولئك الذين يديرون السياسات الأوروبية من وراء الكواليس ! إذن كيف سيجيشون شعوبهم ضد الشعوب التي يريدون غزوها ، وتدمير بلادها، ونهب ثرواتها، والتمكن من إرادتها؟”

وقالت أيضاً في مَوضِعٍ آخَر:

“ما بين هذا وذاك، تمت إعادة صياغة الرأي العام الإسباني الأوروبي، عامة، ليغلَّف بالكراهية والرفض ، لكل ما هو عربي أو مسلم، والكلمتان عند القوم سواء، من حيث المعنى والمغزى.“

وقالت في مَوضِعٍ ثالث:

“يعدنا الإسبان من المتخلفين بسبب تلك التصرفات الذكورية البادية للعيان، والتي كانت لا تختلف كثيراً في هاتيك الأيام عن تصرفات بعضهم، لكنهم كانوا يجاهدون جهاد المستميت، على كل المستويات للخلاص منها وتغييرها، في ضمائر وسلوكيات الأجيال الجديدة، المولودة في زمن اللحاق بأوروبة المتمدنة والتحول الديمقراطي الحثيث .. يعدوننا دخلاء على حياتهم ووجودهم، وأرضهم ، ووطنهم، وربما كان أحد أسباب كراهيتهم لوجودنا بينهم، أننا نذكرهم ببعض ماضيهم القريب الموجع، وبعض تاريخهم البعيد المجيد، الذي لا يريدون استذكاره ولا الانتماء إليه.“

وقالت أيضاً في مَوضِعٍ رابع:

“كثيرون كانوا يعيشون في الشام هلوسات الاستيقاظ بتبعية مرَضية للمستعمر، يوهمون أنفسهم بأنهم مثله، استأبوه وهو لهم منكر، مِنهُم نافر، يحاكونه في غلافه الخارجي المادي، كلما ازدادوا عبودية له ازدادوا انفصالاً عن واقعهم الذي يعيشونه، كان تحضُّرُهُم وتمدُّنهُم ينحصر في مظاهر يتشبهون فيها بالأسياد، ولاشيء غير هذا.“

لعلَّ السُّؤال الهُوِيّاتي الذي يُؤرِّق (دَازِن الكاتبة) لا يتعلَّقُ بمدى واقعيّة دفاعِها اليوتوبيّ المُؤسَّس على بُعد إيديولوجيّ عن (هُوِيَّتَها الإسلاميّة) فحسب، لكنَّهُ يذهَبُ أبعد من ذلكَ، مُحرِّضاً المُتلقِّي كي يتساءلَ عن الشَّكل السِّياسيّ المُؤسَّساتي الذي يُمكِن أنْ يكونَ أوَّلاً وأخيراً ناظِماً لعلاقة (الفرد/ المُواطِن) مع الآخَر في بلد الاغتراب؛ أي هل تستطيع الكاتبة أنْ تقول فقط بانتمائِها لهُوِيّة إسلاميّة بحتة وخالِصة في بلد مُختلِف أقامَت فيه عقوداً طويلة، ولهُ ثقافتُهُ وتقاليدُهُ وقوانينُهُ، وهل يكفي رفض الاستعمار كي تُبنَى الحُدود بينَ ما هوَ هُوِيّة إسلاميّة، وما هو هُوِيّة علمانيّة ذات خلفيّة مسيحيّة في إسبانيا.

يبدو لي أنَّ هذا السُّؤال مشروع إلى حدّ بعيد، وهو ليسَ مأخذاً على الكاتبة؛ إنَّما هو سُؤال هُوِيّاتيّ كيانيّ بالمَعنى (الوجوديّ/ السِّياسيّ) الشّامل، ولا سيما بما يتعلَّق بصلة (الشَّرق والغرب)، وكذلكَ أيضاً بعدَ قيام الثَّورة السّوريّة عام 2011، وموجات المُهجَّرين الهائلة في أوربا والعالَم من السّوريّين على نحْوٍ خاصّ، ومن العرب والمُسلمين على نحْوٍ عام.

فضلاً عن ذلك، يمتدُّ السُّؤال الهُويّاتيّ إلى البلد الأمّ، وعلاقة أهلِهِ بالمُستعمِر، وهذا يُؤكِّد مدى إلحاح وضع (سُؤال الهُوِيّة) في إطار سُؤال (شكل الدَّول) التي تُفكِّرُ فيها الكاتبة، والتي نسعى إليها في أوطاننا المشرقيّة، فما عانى منهُ العرب منذ ما عُرِفَ بِـ (عصر النَّهضة) هو (الاغتراب المُزدوج) بين هُوِيَّتيْن يوتوبيتين هيمنتا هيمنةً واسِعةً في اعتقادي على العقل العربيّ، وتحوَّلتا فيما بعد إلى إيديولوجيّات سائِدة، وهُما:

1_ التَّيّار الاستلابيّ (السَّلفيّ) الدّاعي إلى القطيعة مع الغرب، والعودة إلى التُّراث الإسلاميّ فقط.

2_ التَّيّار الاستلابيّ (الحداثيّ) الدّاعي إلى الاندماج في الحضارة الغربيّة، والقطيعة مع الماضي.

وعلى الرَّغم من أنَّ (دَازِن الكاتبة) يستمرّ في الدَّوران حول مُحوريّة (الهُوِيّة الإسلاميّة) يوتوبيّاً وإيديولوجيّاً، لكنَّ هذا الدَّوران يتَّسِمُ بالمُرونة الفكريّة في بعض المَواضِع، وببسطُ أساليبَ وجودٍ تردُّ على حجم التَّمزُّق الكيانيّ، والتَّهديدات الهُوِيّاتيّة مُتعدِّدة الطَّبقات، ليسَ فقط بتعيين ما تظنُّ أنَّهُ (وَحدة الهُوِيّة الإسلاميّة)؛ بل تلجأ أحياناً إلى بثِّ (شَّذراتٍ/ مُراجَعات) جريئة، ذلكَ أنَّها لا تتهرَّب على نحْوٍ مُباشَرٍ من نقد الفكر السِّياسيّ الإسلاميّ نفسِهِ ومُمارساتِهِ، في الوقت ذاتِهِ الذي تنتقد فيه إيديولوجيا السُّلطة السُّوريّة الحاكِمة.

قالت نوال السباعي:

“شريحة أخرى من الشعب السوري كانت تعيش وهي تحلم بعودة الخلافة وحكم صلاح الدين الأيوبي، واستعادة الأمجاد بأعمال مضطربة خطيرة هوجاء، لا تعيد خلافة ولا تصنع صلاحاً للدين ولا تبني أمجاداً، في منطقة تمور بالصراعات السياسية والظلم والاستبداد، بينما كانت الفئة التي استولت على البلاد عن طريق آخر الانقلابات العسكرية فيها، تمضي في خططها في صمت ودهاء وخبث، مختطفة البلد بما فيها ومن فيها، لإرغامها على الدخول في عبودية طائفية رهيبة مموهة بادّعاءات القومية والوحدة العربية وركوب موجات الدفاع عن القضية الفلسطينية.“

ما من شكّ، أنَّ الهُوِيّة عند (دَازِن الكاتبة) هيَ (الهُوِيّة الإسلاميّة)، وما من شكّ أنَّ التَّوتُّر الفاصِم يُحاوِل أنْ يُثبِّتَ أساليبَ وجودٍ تبسطُ وَحدة (الوثيقة/ الموقف) المُواجِهة لتشتُّت المُستوى الوقائعيّ الذّاتيّ والجمعيّ، وتمزُّقِهِ كيانيّاً، وما من شكّ أنَّ العروبة لدى الكاتبة هيَ لسان الهُوِيّة الإسلاميّة (بمَعنى أنَّها مُلحَقة بها خارج الدَّلالة الإيديولوجيّة للقوميّة العربيّة)، وأنَّ الإيديولوجيا القوميّة مُدانة عندها لما هيَ عليه فكريّاً، ولما جلبتْهُ من كوارث سياسيّاً.

قالت نوال السباعي:

“بالضبط وكما فعل (عرب ما بعد الحرب العالمية الأولى (، في معظم بلادهم بسلخ هوية (الإسلام) بطريقة أو بأخرى عن كل جزئيات وجودهم السياسي والثقافي الحديث، ملتحفين عباءة القومية العربية التي أحيوها جاعلين منها هوية شاملة إجبارية حتى لأولئك الذين لا ينتمون إليها، وبطريقة تشبه في (شيءٍ) من تفاصيل توحشها (شيئاً) مما فعله القشتاليون بالأندلسيين في سياق دأبهم لاستئصال وجودهم من التاريخ .. استلّوا (الإسلام) من) الإسلام( ومنعوه من أن يستمر في كونه بصمة وهوية أمة، تضاءل وتقلص تاريخها فأصبح كمشاً من هوشات عربية لا تهتم بتاريخ ولا بحضارة ولا بمدنية ولا بالأخلاق ولا بالإنسانية.. ولا بصناعة أمل يمتد بعيداً في آفاق المستقبل!“

وقالت في مَوضِعٍ آخَر:

“(نحن(؟ من )نحن(؟ وما (هويتنا)؟ (الهوية)؟ أيّ هوية؟ من نحن؟ سوريون؟ فلسطينيون؟ مغاربة؟ عرب؟ أكراد؟ أمازيغ؟ مسلمون؟ مسيحيون؟ من نحن؟ تهترئ) القومية العربية (، التي قامت على أساسها أنظمةٌ ودول في منطقتنا، تهترئ وتتآكل يوماً بعد يوم، بفعل أعاصير حركات إحياء النزعات القومية و الطائفية، في معامل الاستعمار العالمي، الذي يُخطط، ويُفَصل، ويُهندس، ويُصمِّم، ونحن .. بكل غباء وتغييب، نتبع خططه، ونحشر أنفسنا في الأوكار ، التي يرسل إليها (دليله)، يدخلها، فندخلها من ورائه شبراً فشبراً، وخطوة فخطوة“!

وقالت في مَوضِعٍ ثالث:

“لم يأتنا من (حزب البعث)، وحكمه في العراق وسورية ، إلا البلاء المبين، ركب الحزب في البلدين مركب الطائفية، في اتجاهين متعاكسين رأسياً فيما بينهما ، وفيما يتعلق بأهداف هذا الحزب القومي الوحدوي، جملة وتفصيلاً ! ذُبح الشيعة في العراق باسم البعث، وأُحرِق الأكراد هناك بالكيماوي باسم البعث، وباسم البعث كذلك، تم استلاب سورية، وتركيع شعبها، وقتل وتغييب كل من سولت له نفسه أن يرفع رأسه من أبنائها الأحرار كائناً ما كان انتماؤه ، لكن الغالبية السنِية فيها كانت قد حازت نصيب) الأسد) من القمع والإذلال والاستلاب والتهميش والتغييب. يا إله الأكوان – كنت أتمتم فيما بيني وبين نفسي –، أي شيطان اشتمل على كتفيه عباءة البعث القومي هذه .. ليُحدث في بلادنا من الدمار والخراب ، ما لا يمكننا رؤيته على حقيقته ، إلا بعد عقدين من الزمان. انتهى تيار(البعث)، إلى واقع رهيب، جاء على العكس، من كل ما أعلنه مؤسسوه، ليصب في خانة المُضي قُدماً، في تحقيق كل ما كان يريده الاستعمار الغربي والشرقي، لهذه المنطقة، من ترسيخ للتقسيم، وتركيع، وتشرذم للشعوب، ورفع للحدود الوطنية، المصنوعة في مخابره الاستعمارية، وتأجيج جميع أنواع الصراعات، القومية، والدينية، والفكرية، وقطع الطريق تماماً على (الأمة)، لتستعيد هويتها، ووحدتها، وصحتها، وتحافظ على وجودها.“

وقالت في مَوضِعٍ رابع:

“كان الوطن بالنسبة إلينا نحن (جيل النكسة)، محل اعتزاز وفخر، فأصبح بالنسبة إلى أولادنا (جيل الغربة)، موضع ألم ومعاناة، وخريطة من إشكاليات التاريخ، والجغرافيا، وملابسات العولمة، والهيمنة الاستعمارية، بشقيها الغربي والشرقي. رحمة الأمومة، كثيراً ما تتفتق عن شِدّة، بسبب الشعور المُضني بالمسؤولية. ومن حيث لا ندري، ولا نريد، أتعبنا وجود أطفالنا، أرهقناهم، ونزعنا السلام من أنفسهم، وذلك أغلى ثمن يمكن أن ندفعه لترسيخ القناعات، وتثبيت التحقق بالهوية لدى أولادنا“.

لعلَّ هذِهِ المقبوسات تفتح شهيَّتي لتقديم (إشارات/ أسئلة) غاية في الأهمِّيّة كما أعتقد، وهيَ أسئلة لا تخصّ هذا الكتاب وحده، ولا تُحمِّلُهُ فوقَ ما يحتمِل، لكنْ قد تكون مدخلاً يُحرِّض
تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

سؤال وجواب

15-أيار-2021

بايدن المُدجَّج بالاحتمالات السورية

30-كانون الثاني-2021

نُدامى الحنين الورديّ

31-تشرين الأول-2020

العُري اللاّزم لفعل القتل

19-أيلول-2020

صناعة ولَد

29-آب-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow