Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

عن الفضاءات الأخرى: اليوتوبيا واليوتوبيا المغايرة ميشيل فوكو ترجمة:

صالح الرزوق

خاص ألف

2018-11-17

كان الهوس الأكبر في القرن التاسع عشر، كما نعلم، هو التاريخ: بتطور موضوعاته وعناصر التشريق التي فيه وأزماته ودوراته. إنها موضوعات عن الماضي الذي لا يكف عن التراكم، بما يتضمنه من تكهنات حول الأموات، ومصادر الخطر التي تجتاح العالم. لقد وجد القرن التاسع عشر مصدر أساطيره الأساسية في مبدأ الترموديناميك الثاني*. فالحالة الراهنة هي على الأرجح فوق كل أشكال الفضاء. فنحن في عصر التزامنات. عصر الأشياء المتداخلة، وعصر البعيد والقريب، أو الأشياء المتجاورة، أو عصر التشتت. وكما أعتقد، نحن في لحظة فيها خبرتنا عن العالم، والتي تطورت في أوقات طويلة، هي أقل من الخبرات الناجمة عن شبكة تربط نقاطا متقابلة وتتقاطع مع محورها.

ويمكن للمرء القول إن المشاكل الإيديولوجية المحددة التي تمثل منطق الوقت الحاضر تعارض طاعة الأجيال للماضي وصرامة غزاة الفضاء. فالبنيوية، أو على الأقل مايصنف تحت هذا الاسم القريب جدا من التعميم، هي الجهد المبذول من أجل تأسيس مجموعة علاقات بين عناصر يمكن ربطها بمحور الأزمنة، بحيث تبدو متمفصلة، وتتفرع من بعضها بعضا، وتتبادل التأثير فيما بينها - وهذا باختصار: يجعلها تبدو وكأنها نوع من التعرجات والتضاريس.

وفي الحقيقة لا تتضمن البنيوية إنكارا للزمن، وتنطوي على طريقة معينة للتعامل مع ما نسميه الزمن وما نسميه التاريخ. أضف لذلك، من الضروري أن نلاحظ أن الفضاء الذي يظهر اليوم أنه يشكل أفقا لاهتماماتنا، ونظريتنا، وأنظمتنا، ليس ابتكارا. إنه فضاء بنفسه له تاريخ في الخبرات الغربية، وليس من الممكن أن لا نحترم التقاطع المهلك بين الزمن والمكان.

ويمكن للمرء أن يقول: من خلال تتبع أثر تاريخ المكان تقريبيا، يمكن العثور في العصور الوسطى على مجموعة مرتبة هرميا من الفضاءات: فضاءات مقدسة وأمكنة طبيعية، فضاءات محمية ومفتوحة، وفضاءات مكشوفة: فضاءات ريفية وفضاءات مدينية (وكلها تهتم بالحياة الواقعية للإنسان). وفي النظرية الكونية، هناك فضاءات فوق كوكببة، وتتعارض مع الفضاءات الكوكبية. والفضاء الكوكبي بدوره يعارض المكان الأرضي. وهناك أمكنة تكون فيها الأشياء موجودة لانها تعرضت للإزاحة بشيء من التعسف، وبالعكس هناك أمكنة تجد فبها الأشياء أرضها الطبيعية واستقرارها.

وهذا الترتيب الهرمي المتكامل، وهذه التقابلات، وهذا التداخل بين الأمكنة يكوّن ما نسميه بوجه تقريبي الفضاء القروسطي: أو فضاء التوضع.

وفضاء التوضع فتحه غاليلو. والفضيحة الحقيقية التي تراها في عمل غاليلو ليست في اكتشافه، أو إعادة اكتشاف أن الأرض تدور حول الشمس، ولكن في قانون اللامتناهي الذي وضعه، وفكرة الفضاء المفتوح غير المتناهي. في مثل هذا الفضاء إن مكان العصور الوسطى يبدو منتهيا، كما كان، مكان الشيء ليس شيئا ولكن نقطة في خط مساره، كما كان ثبات الشيء هو حركته المتباطئة حتى اللانهاية**. وبعبارة أخرى، بدءا من غاليلو والقرن السابع عشر، كان التمدد هو البديل عن الموضعة.

في الأيام الراهنة تم استبدال الموقع بالامتداد والذي بدوره استبدل بالموضعة. والموقع هو بالتعريف علاقات التقارب بين نقاط أو عناصر، ورسميا، يمكننا وصف هذه العلاقات بشكل سلسلة، أشجار، أو شبكة. أضف لذلك، إن أهمية الموقع في العمل الفني المعاصر معروفة جيدا:

تخزين المعطيات أو النتائج الوسيطة لذاكرة الآلة، وتداول العناصر المحددة من خلال نتائج عشوائية (زحام المركبات حالة مبسطة، أو الأصوات في أسلاك الهاتف)؛ والتعرف على العناصر المشفرة أو ذات العلامة داخل مجموعة يمكن توزيعها عشوائيا، أو يمكن ترتيبها طبقا لتصنيف مفرد أو متضاعف.

وبطريقة ملموسة، إن مشكلة الترتيبات أو الموضعة تبرز بالنسبة للجنس البشري كمسألة سكانية. فمشكلة

الموقع البشري أو فضاء المعيشة هي ليست بكل بساطة عن معرفة ما إذا كان هناك فضاء كاف للإنسان في العالم – وهي مشكلة هامة جدا بالتأكيد- ولكن أيضا هي عن معرفة علاقات التناسب، وأي نمط تخزين وتداول وتقييم وتصنيف تتعرض له العناصر البشرية، وعلينا تبنيه بحالة معينة وذلك للوصول لنهاية معينة. إن عصرنا هو عصر يأخذ فيه الفضاء من أجل مصلحتنا شكل علاقات بين المواقع.

في حالتي أنا أومن أن قلق هذه الحقبة لها علاقة جوهرية بالفضاء، ولا شك قدر أكبر من العلاقة مع الزمن. وربما يبدو الزمن لنا واحدا من آليات توزيع مختلفة ممكنة للعمل على العناصر المنتشرة في الفضاء. والآن، على الرغم من التقنيات المستعملة لاستيعاب الفضاء، ورغم كل شبكة المعرفة التي تمكننا من تخليصه من التناهي أو تشكله، إن الفضاء المعاصر ربما ليس هو ما لا يمكن مقاطعته كله (وهذا من الواضح بعكس الزمن، كما يبدو، فهو مفصول عن مجالات المقدس منذ القرن التاسع عشر).

وبالتأكيد إن عدم المقاطعة النظرية للفضاء (الذي بدأ منذ اكتشافات غاليلو) قد انتشر وشاع، ولكن ربما لم نصل بعد إلى نقطة لا- مقاطعة عملية للفضاء. ولعل حياتنا لا تزال محكومة بعدد محدد من التعارضات التي لا تزال منيعة، فمؤسساتتا وخبراتنا ليست عرضة للسقوط حتى الآن. وهذه تعارضات ننظر لها كمعطيات بسيطة: على سبيل المثال بين الفضاء الخاص والفضاء العام، بين فضاء العائلة والفضاء الاجتماعي، بين الفضاء الثقافي والفضاء المفيد، بين فضاء الاستجمام وذلك الخاص بالعمل والإنتاج. كل هذه لا تزال تتغذى بالحضور الخفي للمقدسات. وقد علمتنا بحوث باشلار المذهلة والدراسات التي قام بها الفينومينولوجيون أننا لا نحيا في فضاء متجانس وفارغ، وعلى العكس من ذلك نحن في فضاء يبالغ بالكم وربما يبالغ في التصورات أيضا. إن فضاء حدسنا الأولي، وفضاء أحلامنا وذلك الخاص بعواطفنا يحتوي بذاته على خصال تبدو نوعية: هناك فضاء شفاف وأثيري ومضيء، أو انه داكن وخشن ومتكتل، فضاء ننظر به من قمة عالية، أو فضاء معاكس ننظر به من أوحال في الأسفل. أو أنه فضاء يمكن أن يتدفق مثل مياه فوارة، أو فضاء جامد ومتكتل مثل حجر أو كريستال. هذه النظرة مع أنها جوهرية لنتأمل عصورنا الراهنة، هي أصلا تهتم بالفضاء الداخلي. ولكن يتوجب عليّ الآن الكلام عن الفضاء الخارجي. الفضاء الذي نحيا فيه، والذي يسحبنا من أنفسنا، والذي يتم فيه تعرية حياتنا وعصرنا وتاريخنا، والفضاء الذي ينشب مخالبه بنا ويقضمنا، هو أيضا، بذاته، فضاء غير متجانس. بكلمات أخرى، نحن لا نعيش في فجوة، وداخله نضع الأفراد والأشياء.

نحن لا نعيش داخل الفجوة التي يمكن تلوينها بأطياف ضوئية مختلفة، ولكننا نعيش بشكل مجموعة من العلاقات التي توسع المواقع بحيث لا يختزل الواحد منها الآخر ولا يفرض الواحد منها نفسه على الآخر إطلاقا.

وطبعا يمكن للمرء أن يحاول وصف هذه المواقع المختلفة بالبحث عن مجموعة العلاقات والتي بها يمكن لاحد المواقع أن يكون محددا. على سبيل المثال، إن وصف مجموعة الارتباطات التي تعرف مواقع المواصلات والشوارع والقطارات (القطار حزمة مذهلة من العلاقات لأنها شيء يسمح للمرء بالحركة، وهو أيضا شيء بواسطته يمكن للمرء أن يتحرك من نقطة لغيرها، وعليه هو أيضا شيء يتحرك). وبواسطة عنقود من العلاقات التي تسمح بالتعريف يمكن للإنسان أن يصف مواقع الاستراحة الموقتة - المقاهي، والسينما، والشواطئ. وبالمثل يمكن للإنسان أن يصف من خلال شبكة العلاقات المواقع المغلقة وشبه المغلقة المخصصة للاسترخاء- البيت، غرفة النوم، السرير، إلخ. ولكن من بين كل هذه المواقع، أنا مهتم بمواقع معينة وتمتلك الصفة الغريبة، أنها على علاقة بكل المواقع الأخرى، ولكن بطريقة تقودك للاشتباه أو لتحييد أو لابتكار مجموعة العلاقات التي يحدث أن تحدد وتحاكي صورة أو تعكسها. هذه الفضاءات، كما هي عليه، والمرتبطة بكل ما عداها، وأيضا تتعارض مع المواقع الأخرى، تتكوّن من نمطين.

الأماكن الشريرة: اليوتوبيا المغايرة

أولا هناك يوتوبيات. واليوتوبيا موقع بلا مكان حقيقي. هي مواقع لديها علاقات عامة تتشابه مباشرة أو بشكل

معكوس مع فضاء المجتمع الواقعي. وهي تمثل المجتمع نفسه بشكل مثالي، أو المجتمع المقلوب، ولكن في كل الحالات هذه اليوتوبيات هي أساسا فضاءات غير واقعية.

وهناك أيضا، وربما في كل ثقافة، وفي كل حضارة، فضاءات واقعية - أماكن موجودة ومتكونة في كل مجتمع مؤسس - وهي نوع من المواقع - المعكوسة، نوع من اليوتوبيا العاملة والنشيطة وفيها تكون المواقع الحقيقية، كل المواقع الحقيقية التي يمكن تواجدها في الثقافة، بنفس الوقت ممثلة، وتنافسية، ومعكرسة. إن أماكن من هذا النوع هي خارج كل الأمكنة، وحتى لو أنه من الممكن تحديد موضعها في الواقع.

ولأن هذه الأماكن مختلفة إطلاقا من كل المواقع التي تعكسها وتتكلم عنها، سأدعوها، للمقارنة مع اليوتوبيا، هيتيروتوبيا (يوتوبيا مغايرة).

وأعتقد أنه بين اليوتوبيا وهذه المواقع المختلفة تماما، هذه اليوتوبيا المغايرة، هي ربما نوع من الخبرات المختلطة والمتمفصلة، والتي ستلعب دور مرآة، فالمرآة هي، في النهاية، يوتوبيا، لأنها مكان ليس له مكان خاص به*** .

في المرآة، أنا أشاهد نفسي هناك مع أنني لست هناك، وأحتل موضعا في فضاء نهائي وغير حقيقي، ومفتوح خلف السطح العاكس، فأنا هناك، حيث ليس لي وجود، مجرد خيال يمنحني قدرة لأبصر ذاتي، ويمكنني لأرى نفسي في مكان أنا غائب عنه: وهذه هي يوتوبيا المرآة.

ولكن اليوتوبيا المغايرة أيضا حتى الآن موجودة في الواقع كما هي في المرآة. فهي تصنع نوعا من الفعل المعاكس للموضع الذي أحتله. ومن زاوية نظر المرآة أكتشف غيابي من المكان الذي أرى نفسي مطبوعا عليه هناك.

وبالبدء من هذه النظرة العميقة، والتي هي، موجهة نحوي، من أرضية هذا الفضاء النهائي والموجود على الطرف الآخر من الزجاج، أنا أقترب من نفسي؛ وأبدأ مجددا بتوجيه عيني نحوي وإعادة ترتيب نفسي هناك حيث أنا. فالمرآة تعمل من هذه الناحية مثل يوتوبيا مغايرة. وتجعل هذا المكان الذي أحتله في هذه اللحظة حينما أنظر لنفسي في الزجاج ومباشرة حقيقة مطلقة، ومتصلا بكل الفضاء المحيط به، وغير حقيقي إطلاقا لأنه لكي أكون مفهوما ومحسوسا به يجب أن أمر من هذه النقطة الأخيرة الموجودة هناك.

وبالنسبة لليوتوبيا المغايرة، كيف يمكننا وصفها؟. ما هو معناها؟. يمكننا تخيل وصف لنظام العمل - ولا أقول وصفا علميا لأن المصطلح شديد التحديد الآن - ولكن في مجتمع ما، إن موضوعه هو دراسة وتحليل ووصف وقراءة (كما يحب أن يقول في هذه الأيام بعض المهتمين) هذه الفضاءات المتنوعة، هذه الفضاءات الأخرى. ومن زاوية التنافس الأسطوري والواقعي لفضاء نحن نعيش فيه يمكن أن نقول عن هذا الوصف إنه الطوبولوجيا المغايرة.

وأول مبدأ فيه أنه من المحتمل أن لا توجد في العالم ثقافة واحدة تفشل في تكوين يوتوبيا مغايرة. وهي ثابتة في كل جماعة بشرية. ولكن من الواضح أن اليوتوبيا المغايرة تأخذ عدة أشكال مختلفة، وربما ليس هناك من شكل كوني مطلق لليوتوبيا المغايرة. ولكن عموما يمكننا تصنيفها في فئتين رئيسيتين.

فيما يسمى المجتمعات البدائية، هناك شكل محدد لليوتوبيا المغايرة وهو ما سأسميه اليوتوبيا المغايرة الكارثية، يعني هناك أماكن مفضلة أو مقدسة أو محرمة، وهي محجوزة للأفراد الذين يكونون بحالة كارثية، من وجهة نظر العلاقة مع المجتمع والبيئة البشرية التي يعيشون فيها: البالغون، نساء الحيض، نساء حوامل، كبار السن، إلخ. خارج المجتمع هذه اليوتوبيا المغايرة الكارثية تتلاشى باستمرار لكن توجد بقايا يمكن العثور عليها. على سبيل المثال، المدارس الداخلية، بشكلها العائد للقرن التاسع عشر، أو الخدمة العسكرية للشباب، فقد كانت تلعب بالتأكيد دورا محددا، مثل الإعلان المبكر عن النشاط الجنسي والمفترض أن يظهر في "أماكن أخرى".

ذلك أنه في البيت بالنسبة للبنات، كان هناك، حتى منتصف القرن التاسع عشر، تقاليد تسمى "رحلة شهر العسل" وهذا موضوع خاص بالأسلاف. فسقوط براعم المرأة الشابة وقطف زهورها يمكن أن يحصل في "أي مكان"، وحاليا يجري في قطار أو فندق شهر العسل، وهذا هو حقا "أي مكان". وهذه اليوتوبيا المغايرة

ليس لها علامة جغرافية.

عموما هذه اليوتوبيا المغايرة الكارثية تختفي اليوم وتستبدل، كما أعتقد، بما يمكن أن نسميه يوتوبيا مغايرة الانحراف. وفيها تجد موضع الأفراد الذين انحرف سلوكهم عن متوسط أو معدل ما هو مطلوب. وأمثلة من هذا النوع هي بيوت الاستجمام والمشافي النفسية، وطبعا السجون، ويمكن للمرء أن يضيف بيوت المتقاعدين، وهي على ما هي عليه، الحد الفاصل بين اليوتوبيا المغايرة الكارثية ويوتوبيا مغايرة الانحرافات، ففي النهاية، إن السن الكبير كارثة، ولكن أيضا انحراف لأن مجتمعنا ينظر للنشاط على أنه قاعدة، والعطالة على أنها نوع من الانحراف.

المبدأ الثاني لوصف هذه اليوتوبيا المغايرة، هو كما يبين لنا تاريخ المجتمعات، أن المجتمع يمكنه أن يجعل اليوتوبيا المغايرة تنشط بطراز مختلف تماما، وكل يوتوبيا مغايرة لها وظيفة محددة ودقيقة ضمن المجتمع واليوتوبيا المغايرة نفسها يمكنها، أن تلعب دورا واحدا أو أن تلعب دورا مغايرا إذا وضعت بحسبانك عامل تزامن الثقافة.

وكمثال سأذكر اليوتوبيا المغايرة الغريبة التي تمثلها المقبرة. المقبرة هي بالتأكيد مكان لا يشبه الأمكنة الثقافية العادية. إنه مكان يرتبط بمواقع المدينة كلها، دولة أو مجتمع أو قرية، إلخ، لأن لكل فرد وكل عائلة أقارب في المقبرة.

المقبرة في الثقافة الغربية كانت عمليا موجودة دائما. ولكن طرأت عليها تبدلات هامة. حتى نهاية القرن الثامن عشر، كانت المقبرة في قلب المدينة، بجوار الكنيسة. وفيها يوجد ترتيب هرمي للراحة المحتملة. كان هناك بيت الجثامين حيث تفقد الأجساد آخر بقايا تكاملها، وهناك عدة أضرحة مفردة، ثم هناك أضرحة داخل الكنيسة. وهذه الأضرحة الأخيرة ذاتها من نمطين، إما أنها شواهد بسيطة عليها كتابة، أو حجيرة بتماثيل. ولكن اختفت بالكامل من الحضارة الحديثة هذه المقبرة داخل الفضاء المقدس للكنيسة، وما يدعو للدهشة، في الوقت الذي أصبحت فيه الحضارة "ملحدة" إذا تكلمنا بشكل فظ، أسست الثقافة الغربية ما يسمى طقوس الميت.

في زمن القناعات الحقيقية بإحياء الأجساد وخلود الروح يكون من الطبيعي جدا وعلى نحو أساسي أن لا يتم تجاوز مكانة بقايا الجسد. وعلى العكس، منذ اللحظة التي فقد الناس قناعتهم بالروح أو بعودة الحياة للجسد، كان من الضروري إعطاء مزيد من الاهتمام للجسم الميت، وهو في النهاية الأثر الوحيد الباقي من وجودنا في العالم وفي اللغة.

في كل الأحوال، منذ بداية القرن التاسع عشر أصبح لكل شخص الحق بصندوق من أجل تحلله الشخصي البطيء. ولكن من ناحية أخرى، ابتداء من تلك البداية للقرن التاسع عشر بدأت المقابر باحتلال مكانها خارج حدود المدينة. وبالعلاقة مع شخصانية الموت والاهتمام البورجوازي بالقبرة، برز هوس بالموت باعتبار أنه "مرض".

من المفترض أن الموتى يجلبون المرض للحي، وأن يكون الميت موجودا وقريبا من البيوت، وبمحاذاة الكنيسة، وتقريبا في وسط الحي، كان الموت يطور نفسه ويرعاها. وتواصل الموضوع الأساسي للمرض الذي ينتشر بالعدوى في المقابر حتى نهاية القرن الثامن عشر، وحتى في القرن التاسع عشر بدأ انتقال المقابر إلى الضواحي. وبعد ذلك لم تعد المقابر قلبا مقدسا أو خالدا للمدينة. ولكن أصبحت المدينة الأخرى التي تمتلك فيها كل عائلة مكانا مظلما مخصصا لراحتها.

المبدأ الثالث. أن اليوتوبيا المغايرة قادرة على وصل مكان حقيقي واحد مع عدة فضاءات، وعدة مواقع هي بذاتها غير متوائمة.

وعليه إن المسرح يحمل إلى مستطيل خشبة المسرح، وبالتسلسل، سلسلة كاملة من الأماكن التي هي غريبة عن بعضها بعضا؛ ولذلك إن السينما غرفة مستطيلة عجيبة جدا، وفي النهاية، وعلى شاشة لها بعدان، يرى المرء إسقاطات فضاء ثلاثي الأبعاد، ولكن ربما الحديقة هي أقدم مثال على هذه اليوتوبيات التي لها شكل مواقع متناقضة.

وعلينا أن لا ننسى أنه في الحديقة الشرقية، وهي ابتكار مدهش يبلغ من العمر الآن ألف سنة، له معان عميقة جدا وكما يبدو مفروضة فرضا. كانت الحديقة التقليدية عند الفرس فضاء مقدسا من المفترض أن توائم داخل مستطيلها أربعة أجزاء تمثل أجزاء العالم الأربع، مع فضاء أكثر قداسة من سواه وهو أشبه بسرة، سرة العالم في المركز (حوض ونافورة المياه كانت هناك)، وكل نباتات الحديقة تجتمع كما هو مفروض معا في هذا الفضاء، في هذا الكون الصغير جدا.

بالنسبة للسجادات، كانت بالأساس تصويرا للحديقة (فالحديقة بساط وعليه يتمم العالم مثاليته الرمزية، والبساط هو شكل من أشكال الحديقة التي يمكن أن تتحرك عبر الفضاء). فالحديقة هي أصغر حزمة للعالم وبالتالي هي شمولية العالم. كانت الحديقة لونا يوتوبيا مغايرا سعيدا وكونيا، منذ بدايات أشياء التاريخ (وحدائقنا الحديثة التي نعرض فيها الحيوانات تنبع من ذلك المصدر).

المبدأ الرابع. اليوتوبيا المغايرة غالبا ترتبط بشريحة من الزمن- ويمكنك القول إنها تنفتح على ما يمكن الاصطلاح عليه، بهدف الاتساق، باسم الزمن المخالف. اليوتوبيا المغايرة تعمل بكل استطاعتها حينما يصل الإنسان لنوع من القطيعة المطلقة مع زمنه التقليدي. هذا الحال يبين لنا أن المقبرة هي حقا مكان يوتوبي مغاير، لأنها بالنسبة للفرد، تكون بداية الزمن المخالف الغريب، وفقدان الحياة، ومع هذه الأبدية المغايرة يكون موضوعها الدائم هو الوهم والاختفاء. ومن زاوية عامة، في مجتمع مثل مجتمعنا إن اليوتوبيا المغايرة والزمن المخالف يحتلان مكانا ويتوزعان بطراز معقد نسبيا.

أولا، هناك يوتوبيات للزمن المتراكم إلى ما لا نهاية، مثلا المتاحف والمكتبات، فالمتاحف والمكتبات أصبحت يوتوبيا مغايرة وفيها لا يتوقف الزمن عن التراكم وتطوير قمته، وفي القرن السابع عشر، حتى في نهاية القرن، كانت المتاحف والمكتبات هي التعبير عن اختيار الأفراد.

بالمقارنة إن فكرة تراكم كل شيء، وتأسيس نوع من الأرشيف العام، الرغبة بتضمين كل الأزمنة في مكان واحد، وكل الأحقاب، وكل الأشكال، وكل الأذواق، فكرة تكوين مكان لكل الأزمنة مع أن هذا المكان بذاته خارج الزمن وغير مفتوح على أجزائه، مشروع كان يرتب بهذه الطريقة نوعا من التراكم الأبدي وغير المحدد للزمن في مكان غير متحرك، هذه الفكرة كلها تنتمي لحداثتنا. إن المتحف والمكتبة هما يوتوبيا مغايرة تناسب ثقافة الغرب في القرن التاسع عشر.

بعكس هذه اليوتوبيا المغايرة المرتبطة بتراكم الزمن، هناك تلك المرتبطة، بشكل معاكس، بالزمن في لحظة ذروة تدفقه، وانتقاله، وتهيئه، أو بالزمن وهو في حالة استعداد للاحتفال. هذه اليوتوبيا المغايرة ليست متوضعة في الأبدي، وهي زمنية على وجه الاطلاق [وقائع]. على سبيل المثال، ساحات المهرجان، هذه المواقع الفارغة والفاتنة التي تقام على مشارف المدن والتي تنطلق لمرة أو مرتين في العام وتحشد المنصات والعروض والأشياء الغريبة والمصارعين ومدربات الأفاعي وقارئي الحظ وهكذا.

ومؤخرا، ابتكرت أنواع جديدة من اليوتوبيا الزمنية: قرى الاستجمام، القرى البولينيزية التي توفر ثلاثة أسابيع مضغوطة من العري الأبدي والبدائي الذي يمكن أن يستمتع به سكان المدن. وفوق ذلك، أنت تشاهد شكلين من اليوتوبيا المغايرة وتكون مترافقة معا، يوتوبيا مغايرة المهرجانات وتلك الخاصة بأبدية تراكم الزمن، وأكواخ جربا**** هي بمعنى من المعاني من فصيلة المكتبات والمتاحف، وهي جاهزة لاستعادة أيام الحياة البولينيزية المنافية للزمن.

ومع ذلك إن هذه الحالة هي اكتشاف متجدد للزمن، كما لو أن كل تاريخ البشرية يعود للخلف ولبداياته بحيث يكون متاحا وكأنه نوع من المعرفة الفورية.

المبدأ الخامس. تفترض اليوتوبيا المغايرة دائما نظاما للفتح والاغلاق يقوم بعزل موضوعه مع الاحتفاظ بصفة النفوذية. وعموما، الموقع اليوتوبي المغاير ليس متاحا بشكل حر مثل مكان عام. إما أن الدخول إجباري، كما في حالة دخول ثكنة أو سجن، أو أنه على الفرد أن يستسلم للطقوس والتطهير. لتدخل من إحداها أنت بحاجة لإذن وإنجاز إشارات معينة. وأضف لذلك، هناك تكون اليوتوبيات موقوفة على هذه النشاطات التطهيرية - تطهير هو جزئيا ديني وجزئيا صحي، كما في وضوء المسلمين، وإلا كان التطهير لأغراض

صحية، كما في ساونا الإسكندنافيين.

وبالضد من ذلك، توجد أساليب أخرى تبدو فتحا تطهريا وبسيطا ، ولكن عموما هي تستبعد أشياء غريبة. يمكن لأي شخص الدخول في المواقع اليوتوبية المغايرة، ولكن في الحقيقة هذا مجرد وهم - نحن نعتقد أننا ندخل إلى المكان الذي يستبعدنا، وهذه هي حقيقة معنى أن تدخل. على سبيل المثال أنا أفكر بغرف النوم الشهيرة الموجودة في المزارع البرازيلية الكبيرة وفي أماكن أخرى من جنوب أمريكا. إن باب الدخول لا يقود إلى غرفة في الوسط حيث يعيش أفراد العائلة، أو أي فرد أو مسافر لديه الحق بفتح هذا الباب، وبالدخول إلى غرفة النوم لينام هناك لليلة. لنفترض أن غرف النوم هذه دخل إليها إنسان بمفرده وليس له الحق بالدخول لبيت العائلة، فالضيف كان عابرا فقط، وهو ليس الضيف المدعو. هذا النوع من اليوتوبيا المغايرة، الذي اختفى عمليا من حضارتنا، يمكن أن تجده في غرف البنسيونات الأمريكية المعروفة حيث يمكن للإنسان أن يأتي مع سيارته وخليلته وحيث الجنس العابر يجد مأوى ويحصل على مخبأ، فإنه يبقى معزولا دون أن يسمح له بالحدوث في الهواء الطلق المفتوح.

المبدأ السادس. آخر خصلة من خصال اليوتوبيا المغايرة أنها تعمل بالعلاقة مع كل الفضاء المتبقي. وهذا النشاط يتطور بين قطبين متقابلين. وإما أن يكون دورهما هو خلق فضاء وهمي يكشف كل فضاء حقيقي، كل المواقع والتي تتجزأ فيها حياة البشر، وتكون أكثر وهمية (وربما هذا هو الدور الذي لعبته المواخير المعروفة ولكن المحرومين منها حاليا). أو بالعكس، كان دورها هو خلق فضاء نعتبره 'آخر'. فضاء حقيقي آخر، مثالي وواضح ومع أنه منظم مثلنا لكنه يعاني من الفوضى، وسوء البناء، والتراكم. والنوع الأخير سيكون هو اليوتوبيا المغايرة، ولكن ليس قوامه الوهم، وإنما التعويض، وأستغرب إذا كانت بعض المستعمرات لم تنشط بشكل من الأشكال بهذا الاتجاه. وفي بعض الحالات، وعلى مستوى الترتيبات العامة للفضاء الحدودي، لعبت دورا مثل دور اليوتوبيا المغايرة. وعلى سبيل المثال أفكر بأول موجة استعمارية في القرن السابع عشر، بالمجتمعات المتزمتة التي أسسها الإنكليز في أمريكا وكانت أمكنة أخرى مثالية جدا. وأفكر أيضا بتلك المستعمرات الجزويتية المدهشة التي تأسست في جنوب أمريكا: مستعمرات رائعة ومنظمة جدا وتحقق فيها الكمال الإنساني على نحو فعال. ومستعمرات الجزويت في الباراغواي كانت منضبطة في كل نقطة منها. وقد كان تصميم القرية حسب خطة متقنة لتكون حول مكان مستطيل عند قاعدة ما كان كنيسة. من جهة، هناك المدرسة؛ من جهة مقابلة المقبرة، ثم أمام الكنيسة زقاق يقطعه بزاوية قائمة زقاق آخر ليكون لهما شكل صليب. وكل عائلة لديها كوخ صغير على طول هذين المحورين. وهكذا كان يعاد إنتاج إشارة المسيح. فالمسيحية تركت أثرها على فضاء وجغرافيا العالم الأمريكي ووضعت علامتها الأساسية.

لقد تم ضبط الحياة اليومية للأفراد، ليس بالصافرة، ولكن بالجرس.

الجميع يستيقظون في نفس الوقت، والجميع يبدأون العمل في نفس الوقت، والوجبات عند الظهيرة والخامسة مساء، ثم يحين وقت النوم. وفي منتصف الليل توقيت الاستيقاظ القتالي، وكل ذلك مع دقة جرس الكنيسة، حيث يباشر كل إنسان (ذكر أو أنثى) واجباته.

المواخير والمستعمرات نمطان متضادان من اليوتوبيا المغايرة، وفي النهاية إذا اعتقدنا أن القارب هو جزء من فضاء يطفو، مكان بلا مكان، وهو موجود بذاته، ومغلق على نفسه وفي نفس الوقت ممنوح للانهائبة البحر. إنه من مرفأ لمرفأ، من محطة لمحطة، ومن ماخور لماخور، يتابع مشواره البعيد مثل المستعمرات للبحث عن الكنوز الثمينة المخبأة في الحدائق، وهكذا تفهم لماذا لا يخدم القارب حضارتنا فقط، فهو منذ القرن السادس عشر وحتى الوقت الراهن، الأداة العظيمة لتطوير الاقتصاد (وهو ما لم أتطرق له اليوم)، ولكنه كذلك في نفس الوقت كان أهم احتياطي يوسع الخيال. السفينة هي اليوتوبيا المغايرة بامتياز. وحضارة دون قوارب، عرضة لجفاف الأحلام، فالتجسس يحتل مكان المغامرة، والشرطة تأخذ مكان القراصنة.

*المبدأ الثاني للترموديناميك هو خاصية النظام والفوضى في المواد التي تكون بحالة استقلال وتوازن.

**هذه الفكرة مكررة عند باشلار في جماليات المكان. فهو يرفض فكرة تبعية التاريخ للجغرافيا. ويعتقد أن المشاهد الثابتة هي تاريخ لا يتحرك. و يمكن التذكير بمثال العداء الإغريقي الذي سيواصل الجري بالمكان إذا اعتبرنا أن الخط المستقيم مجموعة نقاط متتالية.

*** يريد أن يقول إنها خيال عن مكان موجود. وبالتالي لا قيمة ذاتية لها دون المكان الأصلي. ويمكن أن تجد ما يشبه هذا المعنى عند دولوز في كلامه عن فلسفة الصورة المتحركة كالسينما أو الثابتة كما في الفوتوغراف.

**** جربا منتجع تونسي.

النص الفرنسي منشور في مجلة (العمارة) بعنوان الفضاء الآخر، عدد تشرين الأول 1984. وترجمه إلى الإنكليزية جاي ميسكوفيتش Jay Miskowiec.
تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow