Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

ملف الكاتبة الأمريكية آن وولترز / 1ـ ترجمة

صالح الرزوق

2007-01-13

ترتدي الجدة سروالا حزينا و صدارا نظيفا حينما تعبر النهر. لها من العمر ثمانية و ثلاثون عاما، و هي بالعادة تتجنب أن تبلل تنورتها.
على امتداد الحافة تتدرج الرمال من حصى خشن و حتى حبيبات سوداء رقيقة بينها الذهب ، و هو ما تسعى إليه الجدة.
إنها تغرف من أسفل النهر بوعائها ، و تسمح للماء أن يجرف معه الأشياء الخفيفة ، ثم ترفعها و تبدأ بغربلتها مع إيقاع منتظم ، و لهذا تأثير يشبه التنويم المغناطيسي ، كما في خلط أوراق اللعب و توزيعها على المنضدة المستديرة في آخر الليل.
تحب الجدة الرهان العسير على الحظ ، و هي ذات مهارات فائقة بهذا الخصوص. كلما حركت
معصميها تتعاقب من الأطراف أمواج صغيرة ، لتسحب معها الرمال الخفيفة بعيدا. و لا تترك بعدئذ غير فلذات سوداء هلالية. إنها ثقيلة جدا بالنسبة لهذه الخدعة. ثم تحرك الجدة الوعاء لتبحث عن البريق الذهبي ، و هي تعبث بأصابعها في إثر هذه الفلذات ، تتوقف لتسعل ، و تتابع مجددا.
و مع أن التوقيت في تموز ، و الطقس في أوج الحرارة ، كما نتوقع ، فإن النهر بارد بما فيه الكفاية ليتسبب بتشققات في قدمي الجدة. تحت المياه تصبح قدماها الحافيتان أشبه بسمكتين خفيفتين في التيار. إنها ترسو بأصابع قدميها في الرمال ، و شعرها الناعم مربوط بدزينة من الدبابيس تقريبا. و هذه تنحدر باستمرار كلما انحنت بقامتها لتملأ الإناء.
تغرف ، و تغربل ، و تبرم ، و تفتش. و حركاتها رشيقة كما هي الحال في تجهيز سمكة للطهو ، أو في عجن رغيف من الخبز. و لا تبذل عناء شديدا كما هو الحال حين استبدال فوط الأطفال. الجدة تتأمل الوعاء كما لو أنها تنظر في حزمة من أوراق الشاي ، و لكنها لا تؤمن بتنبؤ المستقبل.
و بالنسبة لها ، إن الغد سلس و متدفق كما هي تيارات هذه المياه الجارية في النهر. غير أن الماضي صلب و متماسك مثل تلك الكسرات الصغيرة من الذهب التي تستقر في جيب صدارها.
2 - شقوق
قادوها إلى الغرفة التي مات فيها . يا إلهي . هل تصدق ما حصل ؟.
نعم . إنها عيادة صغيرة ، و لكن كيف يضعون ابنتي في نفس الغرفة ، لترقد على المنضدة ذاتها ، و تفتح ساقيها حيث مات العزيز خوليو ؟.
لقد سالت دماؤه على تلك المنضدة ، لصديقتي دولوريس ابنة تدعى ترينا ، تعمل في تلك العيادة. إنها تنظف القاذورات و النفايات ، و تمسح كل أثر يدل على الحياة والموت. و هي من قالت إن تلك الغرفة مخضبة بدم خوليو الذي هطل على الأرض ، و تسلل من بين شقوق في البلاط. إنها هناك الآن . ابنتي سوليداد تأوي في غرفة واحدة مع قشرة تحت الأرض هي من دماء خوليو. و لكنهم لم يسمحوا لي أن أدخل معها . قالت لي : " لا بأس بذلك يا أمي . سوف نقلب هذه الصفحة في لمح البصر ". و حينما ضغطت على يدي شعرت كم أن يدها قوية و جافة. ثم أضافت تقول لي أيضا إنه من الأفضل لو أرعى شؤون الأطفال . على أية حال رأيتها تذهب باتجاه تلك الغرفة و حذاءاها يحتكان ببلاط له لون الصدأ.
يا لأولئك الأولاد كم هم طيبون. كان أرنستو و جوليا يلهوان معا. و لكن كارولينا ، تغمدها الله ببركته ، جلست طوال الوقت على الكرسي ، تتأمل الصور المرسومة في إنجيل ابنها الصغير. كانت تفضل الصورة التي يبعث فيها المسيح عليه السلام أليعازار من بين الأموات الراقدين. كانت أمها تقول هذا لأن كريستو – المسيح يشبه خوليو. و لكنني سمعت صلوات كارولينا في الليل حينما لم تكن سوليداد في البيت. و هكذا علمت لماذا تحبذ تلك الصورة. كانت البنت الصغيرة تميل إلى العزلة كثيرا.
من ناحيتي حضنت الولد كل الوقت ، و هو بدوره لم يرفع عقيرته بالصراخ. و لا لمرة واحدة. إنه ملاك وديع. من لا يرغب بولد آخر مثله ؟. الله يعلم أنني لم أسرع بالذهاب إلى العيادة. و لست أنا من قرر أن يقودها إلى تلك الغرفة حيث رقدت فوق الطاولة بانتظار أن تسيل دماؤها على الأرض ، ثم تجد طريقة لتختلط و تجف فوق دماء زوجها.
لم يستغرق الأمر فترة طويلة كما خيل لي . حينما غادرت من هناك كانت سوليداد شاحبة ، و لكنها متماسكة. و قد لمحتها من خلال الباب الموارب. ترينا كانت معها أيضا. تسير وراء خيوط من الدم و الصديد ، و تمسح بمنشفة خاصة أشياء لا ننساها بسهولة. بكل تأكيد إنها لن تتخلص من تلك الآثار جميعا. كانت هناك شقوق كثيرة في الأرض.
3 – هذه البلاد الجميلة
استغرقت الرحلة مسافة طويلة ، و كان الطقس حارا و يعصف به الغبار. صعدت السيارة نحو الأعلى ، و انعطفت عدة مرات من خلال طرقات وعرة ، و هكذا أصبحت الصحراء التي تفتقد إلى التضاريس في الأسفل. بدأنا نشق هذه الدروب الصعبة منذ عدة أيام ، حينما وصلنا إلى مكان قرب باندليير ( 1 ) ، أو ربما قرب حدود بيكوس بويبلو ( 2 ) ؟.
كان يجب أن تتخلص من حذاءيك ، ثم تنثني بكامل قامتك إلى المقعد الخلفي ، بحثا عن آخر عبوة جعة في الحافظة المبردة. لقد نسيت ، و لا شك، أننا تقاسمناها في الليلة السابقة قرب نار المخيم. قلت إنك تقودين بسرعة فائقة. و أنا أخبرتك أن لقدميك رائحة مزعجة ،و إنه ليس هناك مزيد من الجعة.
و في غضون دقائق شاهدنا تماثيل منحوتة لتكريم رحالة لهم أسماء من قبيل كورونادو ( 3 ) و كابيزا دي فاكا ( 4 ). ثم باشرت بالسخرية من أحد الرواد الأسبان. كان له رأس بقرة. ثم انفصلت عنك قليلا لنبدو معزولين و بلا رابطة تجمعنا. و لكن بعد خطوات أصبحنا أمام هذه الأضداد : البعثة الأسبانية و أطلال بويبلو - - و هي عبارة عن بيوت مهجورة منحوتة من صخور رملية ، و لا تزال صامدة كذكرى شاحبة عن الغزاة و المستعمرين في وقت واحد. لم تكن عندي رغبة أن أنحاز لطرف . ثم تكررت المدن القديمة التي لا تأوي غير الموت ، و أصبت بحروق من جرّاء أشعة الشمس ، و حملت معي معزوفة بلوز. و لكن أنت قطفت زهرة عجّور مخططة كانت تنمو في ظل بيت متهدم. بعد ذلك ، عبرنا من قرب حاجز على الطريق كان يبيع منحوتات فنية من الغضار الأزرق أو الفضي. اشتريت لي عقدا يرمز بشكل واضح لعين الشمس ، و زعمت أن هذا سوف يجعل أيامي مشرقة. و لا زلت أرتديه حتى اللحظة الراهنة.
و عند محطة عسكرية في غاية الترتيب، كانت على أطراف تلك السهول، أخذنا استراحة. أمسكت بالقبعة في يدي ، و حاولنا ما وسعنا أن نستمع إلى أية إشارة بعيدة تجرفها الرياح. و قد كانت أنفاسنا حارة. و هناك رقصنا كأننا كلاب القيوط البرية ، و قلبنا بين أيدينا الكنوز الثمينة الموجودة في المعارض ، و سخرنا من وجبات ماكدونالد المصنوعة بطريقة بويبلو.
و لدى زيارة بيللي الصغير( 5 ) ، أخبرتني أنه البطل المضل لديك . و أنا أشرت بأناملي إلى أنشوطة معلقة قرب بيت العدالة في مقاطعة لنكولن ( 6 ). و حينما جلست تحت أذن صناعية عملاقة ، بانتظار أن أسمع صخبا يأتي من عالم آخر ، محايث لنا ، ضربتني في خاصرتي ، و قلت بصوت مباشر و منضبط : " هيا. اذهبي إلى موطنك ". و بعد هبوط الظلام ، تسللنا بصمت ، و في جعبتنا قبضة للذكرى هي من هذه العزلة التي تفرضها الرمال البيضاء.
ها نحن نشعر الآن بالتعب . و كان موقف السيارات قد ازدحم بالزوار. أنت لم تغفر لي ضحكاتي المرتفعة داخل متحف الصحون الطائرة في روزميل ( 7 ) .و أنا بدوري كنت مصممة أن تدع أمر القيادة لي. أخذنا نظرة من الحافلات العامة ، و هي محملة بالأجانب و الوفود و شبان الكنائس. لقد صنعت من هؤلاء جميعا كتلة واحدة من السائحين. آنذاك تساءلنا لم نحن هنا. أمسكت بيدي و أخبرتني أن الجو سوف يميل سريعا إلى البرودة.
لقد أصبح الجو رطبا و باردا ، على الرغم من الحشود التي كانت مزدحمة عند حدود المسرح المكشوف. كانت النسمات الباردة تهب فوق المكان ، كما لو أنها تأتي من جهاز تكييف عالمي. و أصبحت السماء وراءنا قرمزية ، و فيها تتسابق سحابات خفيفة و مرتفعة لها ظلال وردية و برتقالية مريحة للأعصاب. ثم هبط على تلك االحشود صمت مريب. و قبل أن أقول لك إن هذه الإضاءة تجعلك أشبه بإله إغريقي ، مثل الرجل الذي اقترنت به ، لمست كتفي بيدك ثم أشرت إلى هناك. كان أبناء و بنات الظلام يحلقون من فوقنا ، و الأجنحة الرخيمة تلمع تحت آخر شعاع من ضوء الشمس. لقد جاؤوا من فوهة الكهف تباعا ، و في دفعة واحدة ، أفرادا و في أسراب. لقد كانوا مدهشين.
و تساءلت كيف يمكن لهم أن لا يتصادموا. أنت ضغطت على يدي. و علمنا أن عددهم يبلغ مئات الألوف ، و لكن ربما أكثر أو أقل. آخر زوج غادر الكهف اندفع بحركة رشيقة ، و كانت ذات مدار غير مستقيم ، و تحمل للنفس الطمأنينة. و هكذا خامرني الشعور لأول مرة أنني بلغت ذروة السعادة.

شارك في التنسيق : ثورة الرزوق


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow