Alef Logo
دراسات
              

شِعريّة التَّمويه والالتباس (1) في حوارات "بريد السَّماء الافتراضيّ"

مازن أكثم سليمان

2019-05-03

في مَنهجيّة المُقارَبة
تتعدَّدُ مُستويات التأليف في حوارات كتاب “بريد السَّماء الافتراضيّ” للشاعر أسعد الجبوري، وتتراكَبُ طبقات الخَلْق ودلالاتُها، وتتشكَّلُ شِعريَّتُها انطلاقاً من فَجوات تُقلِّصُ تارةً المَسافة بين المُحاوِر والمُحاوَر، وتوسِّعُها تارةً أُخرى، بما يُؤسِّسُ (هذه الشِّعرية) على حركيّة جدَليّة مَفتوحة الأبعاد ومُنغمِسة في مُناخات التّمويه والالتباس، وهيَ المسائل التي تفرضُ على القارئ المُتمعِّن اعتماد منهجٍ يستطيعُ عبرَهُ مُواكَبة آليّات انبساط أساليب الوجود الفنيّة وسَبر فضاءاتها الثرّة في هذا العمَل الإشكاليّ شكلاً ومضموناً.
وانطلاقاً من هذه الرؤية، اخترْتُ أنْ أُقارِبَ هذه الحوارات اعتماداً على منهجٍ كنتُ قد بنيْتُ معالمَهُ الأوّليّة خلال دراستي الأكاديميّة في مرحلتي الماجستير والدُّكتوراه، وبدأتُ منذ مُدّة باختبار أدواتِهِ ليسَ بوصفها أدوات مُنجَزة ونهائيّ؛ إنّما بوصفها قابلةً للمُراجَعة والتطوير تطبيقياً، وهوَ ما حاولْتُ تجريبَهُ في غير دراسة، ذلكَ أنَّ منهجي هذا الذي أدعوهُ “التَّخارُجيّة النِّسْيَاقيّة”، بقدر ما أُحاولُ فيه تحاشيَ مُصادَرة العوالم النّصّيّة بسُلطة مُسَبّقات نظرية أو أدوات نقدية يتمُّ إسقاطُها عليها من الخارج وليُّ أعناقها الفنيّة الجَماليّة، أحرصُ عبرَهُ أيضاً بما ينطوي عليه من أجهزة مفاهيمية على الارتقاء إلى مُستوى حُرّيّة انفتاح العوالم النّصّيّة أيّاً كانتْ طبيعتُها بما يُحافِظُ على خُصوصيَّتها من ناحية، ويضمَنُ لها من ناحية ثانية استقلاليَّتها النسبيّة إن عن ذات المُؤلِّف، أو عن ذات المُؤوِّل الدّارس لها.
وعلى هذا النحو، تبدو لي النصوص عوالم وجوديّة تنطوي على كُلّ ما ينطوي عليه العالم الوقائعي من حركيّة أحداث وصراع إرادات قوى وتناحُر أفكار وخطابات، ومن دلالات تتشظّى باستمرار بين قصديّة وجود ذات المُؤلِّف في فضاءاته النّصّيّة بين ما هوَ قَبْليّ وما هوَ إبداعيّ، وهيَ المسألة التي تلغي إلى حدٍّ ما الفاصِلَ الحدِّيَّ بين الذات والموضوع، وتُوحِّد بين الذات واللغة والوجود في بِنية حركيّة تبسطُ عالماً جديداً لا ماهيّةَ مُسَبَّقة له، ولم يكُنْ على هذا النحو من قبل، ولا سيما أنَّ هذا الفضاء الوجودي المُغايِر لا يكُفُّ عن الانفتاح _نحوَ_ المُجاوَزة والتّباعُد والاختلاف، واضِعاً فعلَ التّقليب التأويليّ أمامَ تحدٍّ إجرائيّ ينبغي أنْ لا يقعَ في فخّ إغلاق الدّلالة، بل أن يرتقي إلى مُستوى حُرّية عالم الكتابة بتقديم قراءة لا تتوقَّفُ من جهتها عن مُمارَسة حركيّة دوريّة تبسطُ الفَهمَ في نسبيّة الأسئلة المَفتوحة، أكثر من سجنِهِ في انغلاق الأجوبة الحاسِمة.
التَّخارُج في لسان العرب ( يُنظَر ابن منظور، مادّة خَرَجَ) تفاعُلٌ من الخروج، كأنهُ يخرجُ كُلُّ واحد من شركته عن ملكه إلى صاحبه بالبيع. قال ورواه الثّوريّ بسنده عن ابن عبّاس في شريكين: “لا بأس أنْ يتخارَجا” يعني العيْن والدَّين. وقال عبد الرحمن بن مهدي: “التَّخارُجُ أنْ يأخُذَ بعضهُم الدار وبعضهُم الأرض. وتخارَجَ السَّفْرُ أخرجوا نفقاتهم. وخارَجَ فلانٌ غلامَهُ إذا اتفقا على ضريبة يردُّها العبدُ على سيِّدِهِ كُلَّ شهرٍ ويكونُ مُخلّاً بينَهُ وبينَ عملِهِ فيُقال: “عبدٌ مُخارَج”.
إنَّ مُصطلح “التَّخارُج Exteriorization” مُشتقٌّ من (الخارج)؛ أي الموجود خارج الشعور في العالم الخارجيّ، والخارجيُّ هوَ الواقعيُّ المَحسوسُ في العالم؛ أي المَعروض في الخارج، والخارجيّة صفةُ ما هوَ خارجيٌّ، ومعروض في الخارج (يُنظَر عدنان بن ذريل: الفكر الوجوديّ عبر مُصطلحه، 111_112).
وهكذا أُعرِّفُ بناءً على ما سبَقَ مفهوم “التَّخارُج” بأنَّهُ: الحركيّة القصديّة المُحايثة التي تبسطُ بها الذات المُتَّجهة نحوَ العالم أساليبَ وجودها فيه، أو بلُغة ثانية، هوَ اتّجاهُ الأنا نحوَ العالم الخارجيّ، ليتعيَّنَ بوصفِهِ ذاتاً موجودةً في هذا العالم، ذلكَ أنَّ القصديّة ليسَتْ سوى قصديّة تخارُجيّة لأساليب الوجود البصَريّة التي تُعيِّنُ بها الذاتُ ماهيَّتَها المَفتوحة على التحوُّل والتغايُر والاختلاف، وهذه الذات بهذا المعنى هيَ “دازين Dasein”، وهوَ مُصطلح ألمانيّ اشتققتُهُ عربيّاً على وزن فاعِل، وأطلَقْتُ عليه الـ (الدّازِن) الذي يعني وجود الموجود البشري المُتخارِج في العالم، وذلكَ لكون مُشكلة الوجود الخارجيّ وعلاقة الذات به مُشكلة زائفة إذا نُظِرَ إلى هذه العلاقة بوصفها تنطوي على ضربٍ من الانفصال الحدِّيّ بينهُما، فالدّازن بطبيعتِهِ الأوّليّة موجودٌ في ذلكَ الخارج، وقصديَّتُهُ التّخارُجيّة هيَ فعلُ مُحايَثةٍ يبسطُ أساليبَ وجودِهِ الكيانيّة في العالم.
وبنقل هذا الفَهم إلى عالم النصوص يكونُ تخارُج الذات المُؤلِّفة هوَ قصديّة بسط هذه الذات بوصفها دازِناً أساليبَ وجودها المختلفة في عوالم النصوص، وهذه الأساليب التَّخارُجيّة بزعمي بما هيَ انفتاحُ فَجوةِ وجودِ الدّازِن في عالم اللغة، تقومُ على آليّة فَصْمٍ لـِ (الدّازِن _ المُؤلِّف)، تنهَضُ على مُحايَثة وجودية تخارُجيّة تتراكَبُ جدَليّاً بينَ قصديّة الذات المُؤلِّفة الموجودة _في_ العالم الوقائعيّ، وقصديّة الذات المُؤلِّفة الموجودة _في_ عالم النصّ الافتراضيّ، وقد طبَّقتُ هذا التّوجُّه على عالم الشعر فميَّزْتُ عبر هذا الفَصْم الجدَليّ بين الذات الشاعرة الوقائعيّة، والذات الشعريّة الافتراضيّة، لتكون مُحصِّلةُ هذه التّخارُجيّة المُنفصِمة بين القصديَّتيْن المُتجادلتيْن للدّازِن المُبدِع فتحَ أساليبَ وجودٍ جديدة في عالم النصّ بما هوَ يُمثِّلُ ما اصطلحْتُ عليه بعالم “النِّسْيَاق”.
أحتكِمُ في المنهج “التَّخارُجيّ النِّسْيَاقيّ” إلى آليّات مُقارَبة وقراءة وتحليل تسعى إلى حدٍّ كبير إلى تعزيز سمة الاستقلاليّة النسبيّة للنصّ عن مُؤلِّفِهِ، وعن عالمه الوقائعيّ، من دون أنْ يُلغِيَ ذلكَ صلة النصّ معهُما القائمة على جُملة تراكُبات انزياحيّة تنفتِحُ عبر حركيّة الخَلْق الإبداعيّ المُحايِثة في عالم “نسْيَاق” النصّ بوصفه عالماً ينهضُ على مُجاوَزة ثنائيّة (سُلطة المؤلِّف _ موت المُؤلِّف) بما هيَ ثنائيّة مُؤسَّسة على الفَهم الحدِّي التَّقابُلي والميتافيزيقي لثنائية (الخارِج/القراءة السِّياقيّة)، و(الدّاخِل/القراءة النَّسَقيّة)، ليحُلَّ محلَّهُما “عالمُ النِّسْيَاق” بما هوَ عالمُ انبساط أساليب وجود الدّازِن المُتخارِج الذي يُخلِّف في فعلِهِ التَّخارُجيّ المُنفصِم تلكَ الرُّؤى التي تفصل اللغة عن الوجود، فترى عالمَ النص إمّا بوصفِهِ فعلاً تعبيريّاً أنجزَتْهُ ذاتٌ وقائعيّة (سياقيّة) واعية ومُتحكِّمة به تحكُّماً مُسَبَّقاً ومُتعالياً عبر (سُلطة المؤلِّف: مركزيّة المُؤلِّف)، أو بوصفِهِ بِنية (نسَقيّة) لُغويّة لا شعوريّة مُتماسِكة، ومُكتفية بذاتِها، ومُنفصِلة عن المُؤلِّف، ومُتعالية على الوجود في العالم (موت المُؤلِّف: محو المُؤلِّف).
وهكذا، تنبثِقُ المنهجيّة التَّخارُجيّة النِّسْيَاقيّة، وتُمارِسُ مُقارَباتِها النّصِّيّة عبرَ آليّات استنطاق تأويليّة حثيثة تُقلِّبُ بلا هوادة عالم النِّسْيَاق بوصفه عالماً يطوي في أساليب وجوده المُتراكِبة تشابُكاً جدَليّاً مُعقّداً بين (السِّياق والنَّسَق) في آنٍ معاً، بحيث يحاولُ هذا المنهج قدر المُستطاع أنْ يُفكِّكَ في القراءة مدى سيادة الطغيان الميتافيزيقي القائم إمّا على تسلُّط شمولي لمركزية الذات المُؤلِّفة، أو على محوٍ شمولي لوجود تلكَ الذات محواً تاماً، وهوَ بهذه الآليّة يستطيع أنْ يلِجَ منطقةً إبداعيّة شديدة التكثيف والغموض في عوالم النصوص، وذلكَ لتتبُّعِ مَسارات الخَلْق النِّسْيَاقي للدّازِن التَّخارُجيّ المُنفصِم، والذي يُفترَضُ أنَّهُ كابَدَ في فعل الكتابة صراعاً جدَليّاً ضارياً بين شهوة حُضور سُلطة الذات المُؤلِّفة الوقائعيّة، وشهوة انقلاب سُلطة الذات المُؤلِّفة الافتراضيّة عليها.

في الرُّؤية العامّة للحوارات
تُشكِّلُ عتبة العنوان في هذا الكتاب: “بريد السَّماء الافتراضيّ” علامة دلاليّة بالغة الغِنى، فإذا كانَ المؤلِّف أسعد الجبوري يُؤسِّسُ تجربتِهِ اللّافتة هذه على جنس “الحوارات”، فإنَّ هذه الحوارات تُقامُ مع شعراء راحلين، وهُنا تبسطُ عتبةُ العنوان فَجوتَها الدّلاليّة الأُولى مُنطويةً على مسافة توتُّر إيحائيّ خصب بينَ أن يكون الحوار مع إنسان (شاعر) حيّ بالمعنى الطبيعي الاعتيادي، وأن يُجرَى هذا الحوار مع إنسان ميت، ولذلكَ تأتي مفردة “السّماء” لتفتحَ أفق الفَهم على معاني الغياب والمجهول والاحتمالي غير اليقيني، ولا سيما عندما يُسنِدُ المؤلِّف مفردةَ “بريد” إليها، فالسَّماء مُضافة إلى البريد، والبريد يعني وظيفيّاً فعلَ إيصال الرسائل، والرسائل تعني وجود موضوعات مُحدَّدة يتمُّ إرسالُها، غيرَ أنَّ هذا البريد الآتي من الغيب يميلُ إلى تشويش الجوانب الإبلاغيّة، وتمويه الأفكار والرموز، وتوليدها على حاملٍ زائغ ومُلتبس يميل إلى إرجاء المَعاني، وخلخلة استقرارها ووَحدتها المُتماسِكة، ما دامَ خطابُ (الحوارات _ الرسائل) ناهضاً على البُعد “الافتراضيّ”، فهذا الافتراضيُّ ليس في عوالم هذه النصوص سوى رقصة تلقيح المُسَبَّقات المعرفيّة والثقافيّة الخاصّة بأولئكَ الشعراء الموتى بتعدُّد الدَّلالات على حلبة المَجاز والتخييل والخَلْق والابتكار والتشويه والتزوير (ولا أستخدمُ في هذه المُقارَبة مفردتي التشويه والتزوير بمَعنى حُكْم القيمة الأخلاقي؛ إنَّما بدلالتهما المُرتبطة بالمَجاز والاستعارة والاختلاف)، فالفضاء الافتراضيّ المقصود نسياقيّاً في هذا الموضِع ليسَ سوى تحرير العلامات في حركيّة لعبٍ حُرٍّ لها يتجاوز الثنائيّة الميتافيزيقيّة التقليدية القائمة بين (الحقيقي _ وغير الحقيقي)، ذلكَ أنَّ هذه الافتراضيّة تفتَحُ المعاني على طبقات مُتراكِبة تتداخلُ في تخليقها جُملة باذخة من العناصر والمُستويات النظرية والرُّؤى المُتصارعة والمُتجادِلة تخارُجيّاً ائتلافاً واختلافاً، والتي تتوزَّعُ أساليبُ وجودها المُنفتِحة في نسْيَاقات الحوارات بين ما هو مُتكئ على الصوَر النمطية السائدة والشائعة لسِيَر الشعراء الراحلين ذواتاً وقائعيّة وذواتاً شعرية نصّيّة، وما هو مُتكئ على التدخُّل الإبداعي الفنتازي والغرائبي لدازِن المُؤلِّف المُنفصِم جدَليّاً عبر إعادة تشييد تلك الصور بآليّات تتصارَعُ فيها الهُوِيّات النمطيّة المُسَبَّقة من ناحية، وشهوة الاختلاف التي تحاول في مناطق كثيرة أن تخلخل البِنى المركزية المُتعالية لتلكَ الهُوِيّات، وأن تعيد تشييدَها براغماتيّاً من جديد، وهيَ المسألة التي تبثُّ شِعرية التمويه والالتباس في هذه النصوص بالتعاقد العميق مع حُضور مُخيّلة (الدّازِن _ المُؤلِّف)، واستنطاقها المعرفي والثقافي للقَبْليّات الدنيوية الشخصية والإبداعية لهؤلاء الشعراء الموتى، مع الإشارة الحاسِمة في هذا المضمار إلى مُمارَسة المُؤلِّف الدَّؤوبة لأفعال التقليب التأويليّ التي يقوم عبرها بمخض غيابهم في فرن مخيِّلته بحيث يستنكهُ معالمَ وجودِهم بمُحاوَلة إزاحتِها من عالمهم الوقائعيّ الماضي، ومن عالمهم الأُخروي المَجهول، إلى الحُضور الجديد في عوالم الحوارات التي تبسطُ أساليبَ وجودٍ لم تكُن على هذا النحو من قبل.
يقومُ مفهوم “الحوار” بما هو مادّة أخبارية في معناه المُتداوَل على تحصيل مجموعة من الأخبار والمعلومات والرؤى الخاصّة بمن يُجرَى معه هذا الحوار، وهو فعلٌ يتمُّ لدى أسعد الجبوري عبر تلاقٍ بين قصديَّتيْن مُضاعفتيْن ومُتفاعلتيْن في بُؤرة نسياقاتِهِ المُنفتِحة أمام القارئ، وذلكَ بغيةَ توليد كينونة وجودية تُحضِرُ ذاتية الشاعر الوقائعية والنصية بما هو إحضارٌ يتنقّلُ بلا هوادة بين المركزيات التقليدية المُسَبَّقة والمُطابِقة نسبيّاً لتلك (الأيقونات _ الذوات المُبدعة)، وآليّة تفتيت تلكَ المركزيات من داخلها في فعلٍ تأويليٍّ يبسطُ الدّلالات بوصفها حركيّة تشتُّت وتبعثُر ومُباعَدة اختلافيّة، إذ ينهَضُ هذا الفعل التأويلي تخارُجيّاً على انصهارٍ للآفاق بين دازِن المُؤلِّف المُنفصِم جدَلياً بين ذاته الوقائعيّة وذاته النّصّيّة من ناحية، وذوات الشعراء الموتى بين ماضيهم الوقائعي ونتاجهم الشعري من ناحية ثانية، وهي المسألة التي تُفضي إلى بثِّ فضاءاتٍ حيوية من التجربة والتجريب والتحوُّل والمفارَقات الإدهاشيّة التي لا تتورَّع في مواضِع كثيرة عن هتك التابوهات، والخوض في أسئلة المسكوت عنه وغير المُفكَّر فيه، مع الحفاظ على جماليات الخطأ والشذوذ وسوء الفَهم التي تُبقي الحوارات قابلة للتنقيح التأويليّ المَفتوح، وللقَبول والرّفض من قبَل المُتلقّي بما تسوقه من معانٍ وأفكارٍ و ترميزاتٍ تسعى إلى أنْ تظلَّ مُرجأةَ الأحكام قدر المُستطاع، ولا سيما عبر انفتاح أساليب وجودها خارج الفصل الحدّي للثنائية الميتافيزيقية (المُتحجِّب _ غير المُتحجِّب أو المُنكشِف).
إنَّ تنبُّه المؤلِّف إلى خطورة سقوط الحوارات في فخّ الوثيقة التاريخية، دفعَهُ إلى العمل على تخليق وجودي جَمالي يرتقي بالحوارات إلى مُستوى الوثيقة الفنيّة المُتجدّدة في كُلّ قراءة جديدة، والتي يُنقِذُ التمويهُ والالتباسُ شِعريتَها من قبضة الاستحواذ التملُّكي لسلطة الذات المُؤلِّفة لدى أسعد الجبوري، حيث تتوالَدُ مشهديّة النصوص بصَرياً عبر الالتحاق بالحركيّة الدّورية للفَهم والتأويل التي تقوم في مناطق نسْيَاقيّة واسعة على فكرة عدم حسم المعنى، حيث تبسطُ منطقها البديل لمنطق الحوارات الاعتيادية ذات الخطاب المؤسَّس على مركزية وعي المُحاوِر والمُحاوَر وتحكُّمهما الكُلِّي بالدَّلالة وعوالم الحوارات، وعبر هذا التوجُّهِ يُمارِسُ (الدّازِنُ _ المؤلِّفُ) بالتحالف غير المُباشَر بين الأسئلة والأجوبة عُنفاً مُنظَّماً بحقّ الوجود الاعتيادي الذي ائتلَفَ بعدَ موت الشعراء، واختلفَ، مع الوجود الغيبي، وهذا الأمرُ يُمكِنُ أن يُلاحَظَ في الطريقة الصِّدامية والاستفزازية لعدد غير قليل من الأسئلة، والتي لا تتوانى عن نكأ جراح الشعراء، أو مُحاوَلة فقأ دمامل حيواتهم وتجاربهم النصية ورؤاهم النظرية للشعر، لتجيءَ أجوبتُهُم مُشبَعةً بروح الارتياب، ومُعمِّقةً لمُناخ المَشكوك فيه، وهيَ المسألة التي تتعزَّزُ عبر تعدُّد مستويات الخطاب في نسْيَاقات الحوارات، إذ ينهَضُ الغموض والتشويش والزيَغان في أسئلةٍ وأجوبة كثيرة على تبادُل المَواقِع بين المُحاوِر والمُحاوَر، بما يبسطُ فضاءً دلالياً يبثُّ روحَهُ الشِّعريّة في النصوص اتكاءً على ألاعيب المَجاز المُوحي والسائح بين التمويه والالتباس، وهذا ما يمنَحُ الحوارات طزاجةً حُرّة وحيويّةً تنطوي على حنكة وذكاء “السَّبق الصّحفيّ” الذي يُبقِي المُتلقّي في حركيّة لُهاث فوق زمني (عابِر للأزمنة) وهوَ يمخرُ عُباب المَعاني المُضمَّخة بالشطحات الفنتازية والغرائبية والسريالية.
لعلَّ حُضور فكرة “السَّبق الصحفي” مُشبعةً بالروح الشعرية في هذه الحوارات، تتحقَّقُ في جانبٍ منها انطلاقاً من التشابُك التَّخارُجيّ البِنائيّ “التّجنيسيّ” بين فنّ الحوار من جانبٍ أوّل، وانطوائه من جانبٍ ثانٍ على فنّ “السِّيرة الذاتية _ الشعرية”، فالمُؤلِّف يطوي في السطح البصَري الظاهريّ لنِسْيَاقات الحوارات جوانبَ من سِيَرِ أولئكَ الشعراء الموتى، أو بالأحرى يُضمِرُها في السطح البصَري العميق لتكون مادةً تُفجِّرُ الدّلالات عبر تعرية المُفارَقات الخفيّة، وعبر الإعلاء من شأن صدمة القارئ الناهِضة على خَلْق مسافات توتُّر تُشوِّش في كثيرٍ من المَواضِعَ المَعانيَ، وتنزعُ ألفةَ أساليب وجود الشعراء بين ذواتهم الشاعرة الوقائعيّة وذواتهم الشعرية الافتراضية في قصائدهم، وتغدرُ بأفق توقُّع المُتلقّي، وهو الأمر الذي يُحبَكُ بإحكامٍ بواسطة مُخطَّطٍ تسلسليّ تراكُميّ للأسئلة والأجوبة، لا يأخذ بعين الاعتبار منطق العلّة السَّببيّ، بقدر ما يقوم على انزياحات كثيفة لا تكادُ تسدُّ فَجوةً في مكان حتّى تفتحَ فَجوةً في مكانٍ آخَر، بما يُموِّهُ الحوارات بوَحدة انصهار حدَثيّة أوّليّة، أو بآلية استعادة حكائية نثرية للسِّيَر المُتناوَلة، لا تلبَثُ أن تزيغَ وتلتبسَ هذه الاستعادة بفعل القوّة الحدْسية والتخييلية التي تُعيد تشييدَ السِّيَرِ نسياقياً عبر تخارُجيّة الخَلْق والابتكار والتشويه والتزوير وبثّ سوء الفَهم مَجازيّاً وإيحائيّاً، وهي المسائل التي تحمي النصوص من فقدان جدَّتها الإبداعية بفعل التوازن المَحبوك بين قصدية سُلطة (الدّازِن _ المُؤلِّف)، وسُلطة المُسَبَّقات السِّيَريّة لدَوازِن الشعراء.
لعلَّ الارتماء الحُرّ لأسعد الجبوري في الفَجوات النِّسْيَاقيّة لنصوصه عبرَ التحاقِهِ بحركيّة تشتيت الدلالة في الإطار الكُلِّي مهما غلَّفتْها في الإطار الجزئي تمويهات التطابُق مع المُسَبَّقات أو المَعاني اليقينيّة، هوَ ما منحَ وثائقَهُ (الحواريّة _ السِّيَريّة) فنّيّتها الجماليّة التي لطالما استحوزَتْ عليها رغبة خلخلة الصوَر القَبْليّة النمطيّة السائدة عن حياة الشعراء المُحاوَرين وعن شعرهم ونظرياتهم الشعرية، ولهذا اتّكَأَ المُؤلِّفُ في مَواضِعَ كثيرة على أقنعة (الاعترافات)، بما هيَ ميلٌ إلى الكشف المُفاجِئ والصّادِم لأفق توقُّع المُتلقّي، فالتَّخارُجُ النِّسْيَاقيُّ في هذه النصوص لا يهدفُ إلى بناء حركيّة (الحوارات السِّيَرِيّة) على إحضار الماضي وإخضاعِهِ ومُطابَقتِهِ، بقدر ما يهدفُ إلى إعادة إحياء الماضي بوصفِهِ حاضِراً حيّاً ينبسطُ عبر أساليب الوجود المُتنوِّعة في النصوص، حيث يتمُّ تخليقُ العوالم التّخارُجيّة انطلاقاً من جدَلٍ مُضاعَفٍ يتشارَكُ في آليّاتِهِ كُلٌّ من دازِن المُؤلِّف المُنفصِم ودَوازِن الشعراء الموتى، ولهذا تتأسَّسُ عمليّة تخليق النِّسْيَاقات في هذه الحوارات على أقانيمَ ثلاثة:
1_ دازِن المُؤلِّف بين قصديّة ذاتِهِ الوقائعيّة وقصديّة ذاتِهِ الافتراضيّة النّصّيّة.
2_ قصديّات الذّوات الشّاعِرة التي كانتْ موجودة في عوالمها الوقائعيّة.
3_ قصديّات الذّوات الشِّعريّة الافتراضيّة التي ما تزالُ موجودة في عوالمها النّصّيّة (أي في عوالم قصائد هؤلاء الشعراء).
وعلى هذا النحو، يتحقَّقُ الفعلُ التَّخارُجيّ نسْيَاقيّاً على حركيّات مُتراكِبة تضجُّ بالحيوية والتجربة والتجريب والتغايُر والمُفارَقات الشعرية المُشبَعة بالتمويه والالتباس بين الحقيقي الذي يبدو مُنكشِفاً، وغير الحقيقي الذي يبدو مُتحجِّباً، لتكون المُحصِّلةُ التَّخارُجيّة في مَواضِعَ نسْيَاقيّة كثيرة عميقةَ الاحتفاء بسوء الفَهم الذي يحفَظُ حوارات “بريد السَّماء الافتراضيّ” من الانغلاق دلاليّاً، وليبقى الناقِصُ والمَحذوفُ أُسَّ شِعريّة الحوارات التي لا تتعمَّدُ القبضَ على شعرائها الموتى، بقدر ما تطلقُ سراحَهُم كي يُقلِقوا راحةَ العالم الأرضيّ من جديد، لكنْ هذه المرّة من عوالمهم الأُخرويّة المَجهولة.

عن جدَليّة خَلْق النِّسْيَاقات بينَ دازِن المُؤلِّف المُنفصِم وذوات الشعراء الوقائعيّة
تتأسَّسُ أُولى لبنات حوارات أسعد الجبوري عبر تخليق البِنية الافتراضيّة غرائبيّاً، وهوَ التَّشكيل الذي يُمكِنُ أن أُطلِقَ عليه تسمية: “فنتازيا الغيب”، حيث يعمد دازِنُ المُؤلِّف إلى البدء بفَتح نسْيَاقات النصوص انطلاقاً من تعشيق جدليّات ذاته المُنفصِمة مع جدَليّات ذوات الشعراء الموتى بنقل الصراع الوجوديّ الوقائعي القديم الذي عاشتهُ تلكَ الذوات إلى مُستوىً فوق زمنيّ، أو بالأحرى بإعادة المُؤلِّف تشكيلَ ذلكَ الصراع بجعل بُؤرة انبساط قصديّات التَّخارُج النِّسْيَاقيّ لـِ (الحوارات _ السِّيَريّة) نابعةً من عالم الغيب والمَجهول، وهوَ الأمر الذي يبدو بمنزلة مفتاح مَجازي إيحائي مُترامي الأطراف، وقابل للاستجابة التخييلية الحُرّة لأيّة مُحصِّلة تزويريّة أو تشويشيّة تتجاوَز بانسيابيّة عالية ثنائية (الحقيقي _ غير الحقيقي)، حيث تنصهِرُ بهذا المعنى الديناميّات التَّخارُجيّة، وتنبسطُ نسْيَاقيّاً عبر تقليبٍ تأويليٍّ تفاعليٍّ أكثر منهُ تقليباً ذهنيّاً تصوُّريّاً مُسَبَّقاً، وهيَ المسألة التي تمنَحُ عوالم الحوارات جِدَّتَها الحيويّة وطزاجتها بوصفها ابنة شرعية لفَجوات المسافات الزمنيّة، وابنة مشكوك في نسبها _نسبيّاً_ بما يخصُّ أيَّ توجُّهٍ يقينيّ نهائيّ في مُحاوَرة هؤلاء الشعراء الموتى.
وهكذا، يُقدِّمُ المُؤلِّفُ مُعظم حواراتِهِ بمَداخِلَ غرائبيّة أو فنتازيّة وهوَ يصعدُ إلى عالم الغيب باحِثاً عن أماكن إقامة أولئكَ الشعراء، وواصفاً بسحريةٍ عاليةٍ المُناخَ المحيطَ بكُلٍّ منهم في ذلكَ الفضاء الغامض الغريب، فهاهو ذا يستندُ مثلاً في هذا المَنحى على موضوعة المُشكلة الهوميرية الشهيرة والمُتعلِّقة بالشكّ في حقيقة مُؤلِّف المَلاحِم، مُباغِتاً منذ البداية أفقَ توقُّع المُتلقّي عبر تخليق شِعرية تتلاعَبُ بالمُستوى الزمكاني للنِّسْيَاق بتشتيت حركية التَّخارُج بين تمويه المُسَبَّقات، وبسط عناصِر الالتباسات، حيث يقول دازِنُ المُؤلِّف في مُقدِّمة حواره مع هوميروس:
“كُنّا على وشك الفشل في مهمّة البحث عنه بين صحائف السّموات وطبقاتِها الواسِعة. لكنَّ لحظةً فاعِلة من تلكَ المواقيت الإلهية، أنقذتنا بالوصول إلى الهدف. وهكذا عثرنا عليه جاثِماً على رُكبتيهِ أمامَ لجنة من المُحلَّفين. كانَ السُّكْرُ قد تَعْتَعَهُ، فجعَلَ منه شخصاً مُتردِّداً في الكلامِ أمامَ قُضاةِ تلكَ المحكمة التي نُصِبَتْ للتَّحقيق في هُوِيَّتِهِ التي طالما شابَها الغموض على امتداد تواريخ السجلّات الإغريقيّة”.
وبهذا المَنحى، يولِّدُ الجدَلُ التراكُبيُّ بين دازِن المُؤلِّف المُنفصِم، وذوات الشعراء التي يتشابَكُ في حُضورها المُستوى الوقائعيّ الأرضيّ (الماضي)، وفنتازيا الغيب، شِعريّةً نسْيَاقيّة تتحرَّكُ بين التمويه والالتباس، مُستندةً على آليّات قصديّة تخارُجيّة تنطلِقُ في أحيانٍ كثيرة من الصُّوَر النّمطيّة الاسترداديّة لأولئكَ الشعراء الرّاحلين، لتُؤسَّسَ بناءً على تأويلٍ ارتيابيّ رموزاً دلاليّة تنزعُ ألفةَ أساليب الوجود البصَرية المُنبسِطة في عوالم الحوارات، وتُرجِئُ في مَواضِعَ كثيرة القدرةَ الحاسِمة على انتخاب المَعنى المُطمَئنّ والمُستقرّ، ما دامَ التَّخارُجُ قادراً باستمرار على أنْ يمتَحَ من ضجيج الحركيّة الحيوي والمُتحوِّل والقادِر على انتزاع الدّهشة من القارئ المُتمعِّن، فها هو ذا (الدّازِنُ _ المُؤلِّف) يسرد لنا مَشهداً مَحبوكاً بروحٍ تقنيّة سينمائيّة عندما يكتبُ في مُقدِّمة حواره مع الشاعر علي الجندي:
“في أوّل مرّة نراهُ فيها هُناك، لم نصدِّقْ وجودَهُ على ظَهْرِ بعيرٍ بنِّيّ اللّون بسنامين، وهوَ يُحاوِلُ الانطلاق نحوَ البرزخ الصّحراويّ المَوصول بنهاية العالم السُّفليّ. كانَتْ صورتُهُ غريبة ومُستفزّة. فأنْ ترى شاعراً مدَنيّاً بثياب البدو، فتلكَ لقطة مُثيرة للجدَل. لكنْ، وما أنْ استوقفناهُ من أجلِ هذا الحوار، حتّى صاحَ بنا مُتألِّماً: أريدُ العودة إلى الربع الخالي”.
إنَّ التوظيف اللافت لمسألة تعدُّد مُستويات الانتماء الزمكانية عند الشعراء الموتى، يقود إلى تسيير المعاني في حركيّات مُتشابكة ذهاباً وإياباً بين عالمنا الوقائعي وعالم الغيب الأُخروي، بما يفتح الطريق عريضاً لوضع كثير من القضايا الإشكالية والأسئلة الوجودية في حياة البشر تحت مجهر المُراجَعة التخييلية المُتّكئة على آليّات بسط تخارُجيّة نسْيَاقيّة تضخُّ فيها الروحُ الفنتازية الغرائبية أساليبَ وجودٍ بصَريّة مُلتبِسة، وهو الأمر الذي يُموِّهُ العلاقة القصديّة الجدَلية بين دازِن المُؤلِّف المُنفصِم والذوات الوقائعيّة عند الشعراء المُحاوَرين، ويُوسِّعُ الهُوّةَ الدّلاليّة القائمة على تخليق مسافة توتُّر نسْيَاقيّة تنقلُ في مَناطِقَ كثيرة الصراع الوجوديَّ الأرضيَّ إلى السَّماء، ثُمَّ تعودُ به بحُلّة جديدة إلى لحظة انكشاف عوالم (الحوارات _ السِّيَريّة) الراهن، فها هوَ ذا المُؤلِّف يسألُ الشاعر لوركا السؤالَ الآتيَ: “ماذا يعمَلُ لوركا الآن؟”، ليجيبَهُ قائلاً:
“نحنُ نقومُ بالبحث عن جهنّم، عسى أنْ نجِدَ لها أثراً من بقايا تنّور، لنُخلِّصَ البشر من عُقدتِها الأسطوريّة. بعدَ ذلكَ سنقومُ بترتيب الأوضاع في تلكَ المنطقة، لجعلها مسرحاً لعُموم المُضطّهدين القادمين من أهل الأرض”.
وفي هذا المَنحى، يُعمِّقُ دازِنُ المُؤلِّف عبر جدَليّتِهِ الذاتيّة المُنفصِمة محوَ المسافات الفاصِلة بينها وبين ذوات الشعراء الموتى الوقائعية، وهوَ الأمر الذي يتمُّ بتمويهٍ مُحكَم لمُستويات الخطاب المُنفتِحة عبر حركيّة الأسئلة والأجوبة، إذ إنَّ تقليبَ الصِّلة التراتبية السببية بين هذه الأسئلة والأجوبة يُظهِرُ للقارئ خيطاً مجازياً مُلتبساً وشديد الشفافية بين ضمير المُتكلِّم السائل، بما هو ضمير الدّازِن الحاضِر للمُؤلِّف، وضمير المُخاطَب المُجيب، بما هو ضمير المُتكلِّم الذي ينهَضُ عليه صوت الشاعر الغائب، وهيَ المسألة الحركية التي تكسر مبدأ العلة السببيّة، وتنزعُ الألفة التراتبية، وتسمَحُ للمُتلقّي بإبدال المَواقِع في كثير من مناطق الحوارات بين أسئلة المُحاوِر وأجوبة المُحاوَر، حيث تنزاحُ بناءً على هذه اللعبة الدلالية الجُمَل _ العلامات (حسب ريكور الذي يعدُّ أنَّ الجُملة لا المُفردة هيَ وَحدة العلامة الأساسيّة)، لتنفتحَ آفاق المعاني على أكثر من مُستوىً وجوديّ مُؤسِّس لشِعريّة النِّسْيَاقات المُتخارِجة في هذه النصوص. ويبدو أنَّ هذه الآليّات تظهَرُ بجلاء في الطريقة التي يتمُّ عبرها تخليق العلاقة الزمكانية بين العالم الوقائعي السابق لذوات الشعراء الموتى، والعالم الغيبي الحالي، لتنبسطَ فَجوات (الحوارات _ السِّيَريّة) مُشبَعةً بحيوية الحدَث الراهن بوصفه الحدَث فوق الزمني (او العابِر للأزمنة) الذي تُمثِّلُهُ المُحصِّلة الخاصّة بأساليب الوجود الجديدة، والناجمة عن تزاحُم البِنى الجدَلية بين دازِن المُؤلِّف المُنفصِم والالتباس الدلالي بين ذوات الشعراء المُوزّعة بين انتمائها لعالمها الوقائعي الراحل، وعالمها الأُخروي الغامض، وهيَ المسألة التي تستفذُّ لدى القارئ فُضولَهُ العريض، وتوقِظُ أسئلته الوجودية عن المصير والموت والغيب في كثير من عوالم النصوص، ولا سيما عندما تنطوي مثل هذه العوالم على ترميزات تُعزِّز الشكوك أكثر ممّا تُقدِّم الأجوبة اليقينية، حيث تنفتحُ شِعريّة الفَجوات على قراءات قلِقة ومُستمرّة، ما دامَ تأويلُ الارتياب المُشوَّش هو الذي يبسط سُلطتَهُ على المُتلقّي طارداً بضراوة في مَواضِعَ كثيرة تأويلَ الاسترداد المُطمَئنّ. ولنقرأ في هذا الإطار هذا الجزء من مُحاوَرة المُؤلِّف مع الشاعر يوسف الخال:
“س: ألا تشكو أحداً، ليُنقذكَ ممّا أنتَ عليه في هذا التيه؟
ج: ليسَ من مُخلِّص في مثل هذه الأمكنة كما يبدو.
س: حتّى سيِّدكَ الذي أغرَقْتَ نفسكَ فيه شِعراً وكياناً إلى درجة الذوبان؟
ج: السيِّد المسيح تقصد؟
س: نعم. ألَمْ يرفع عنكَ أسوار هذه العُزلة، ليُخرجكَ إلى النور؟
ج: سيدي يسوع جزء من النور. وحيث يكون قلبي، يكون هو. لكنَّ خلاصاً حقيقياً، لم يتحقَّق. كأنَّ ما كانَ معمولاً به على الأرض، مشغولٌ به هُنا أيضاً”.
وهكذا، يُمعِنُ دازِنُ المُؤلِّف المُنفصِم في إغراق صوَر ذوات الشعراء الموتى بألاعيب التمويه والالتباس الشعرية، موظِّفاً إلى أقصى الحدود فنتازيا الغيب لصالح خلخلة العلاقة بين العالم الدنيوي والعالم الأُخروي، وهو بهذه الآلية يحمي نسْيَاقاتِهِ الحوارية من سلطة ذاته التمركزية الاستحواذية، تاركاً ذوات الشعراء المُوزَّعة بين عالمين (أرضيٌّ غائبٌ/حاضِر، وسماويٌّ حاضِرٌ/غائِب)، تفتتِحُ أساليبَ وجود تُوقِعُ المُتلقِّين في اللّذة الناجِمة عن قوّة المُتخيَّل بوصفه في هذه الحوارات حركيّة التَّخارُج لبثّ سوء الفَهم الفنتازي والغرائبي، حيث لا يكفُّ المَجازيُّ عن تخليق الرمزيّ الذي يُخلخِلُ الأفكارَ اليقينية لأهل الأرض، ولا سيما إذا كان الأمر يتعلَّق بتفسيرات سائدة حولَ الميتافيزيقي الماورائي. وفي هذا المَنحى يقوم الدّازِنُ المُؤلِّف بحقن النِّسْيَاقات التّخارُجيّة بالنّقص الجَمالي في المَعنى عبر قصديات جدَلية تحتفي بـِ (فنّ الحذف)، والذي يتواشَجُ بحنكة ارتيابية مع ألاعيب فتح الدّلالات غير المحدودة على شِعرية التمويه والالتباس المُتّكئة على جدَليات سؤال (الوجود _ العدم)، بوصفه سؤالاً مُتحرِّراً من قبضة ثنائية (الحقيقي _ غير الحقيقي)، وهذا ما يُمكِن تلمُّسُهُ بعناية في الجزء الآتي من حوار المُؤلِّف مع الشاعر أحمد بركات:
“س: كيفَ هيَ لُغة ما بعدَ العدم التي يشعرُ بها أحمد بركات الآن؟
ج: هيَ اللُّغة التي لا تُكتَبُ ولا تقبَلُ التّشكيلَ في النّحو والصرف. لأنَّنا غير قابلين للإعراب في هذه المَناطِق المَفتوحة على الآخِرة.
س: وثمّةَ آخِرة أُخرى غير هذي التي أنتَ فيها؟
ج: أجل. فالسّماء مثل اللُّغة، كُلّما وصلْتَ إلى آخِرَتِها، سرعان ما تكشفُ أنَّ آخِرةً تقَعُ وراءَ الآخِرة الأُولى. وهكذا تستمرّ اللُّعبة”.
إنَّ إتقان أسعد الجبوري ألاعيب التمويه والالتباس عبرَ بسط أساليب وجود نسْيَاقيّة فنتازية وغرائبيّة، يُؤكِّدُ كما ذكرْتُ من قبل، تحاشيهِ لفخّ الاستحواذ التملُّكي الذي ينطوي على شهوة حُضور سُلطة دازِن المُؤلِّف المُنفصِم على حساب الذات الوقائعية للشعراء، والتي تتوزَّعُ أسئلتُها الوجودية بين عالم الماضي الراحل، وعالم الغيب الحالي، لذلك تُؤدّي هذه المُعادَلة التَّخارُجيّة إلى نقل الصراع الوجودي الوقائعي الذي عاشَهُ أولئكَ الشعراء إلى نسْيَاقات النصوص، لكنْ بعدَ تحريرها من سطوة اليقين بفعل التحوُّلات التي يُفترَضُ أنَّ ذوات الشعراء الموتى قد اكتسبتها في عالم الغيب؛ أي بوصفها تحوُّلات تنطوي على مُراجَعة تأمُّليّة من قِبَل هؤلاء الشعراء لتجاربِهِم الدّنيوية، وللخيبات التي أصابَتْهُم إمّا في حياتهِم أو حتّى بعدَ مماتهِم، مع التأكيد على أنَّ هذه المُراجَعة القائمة على جدَليات الخَلْق النِّسْيَاقية المُتراكِبة لا تقوم على إغلاق الدَّلالات، بقدر ما تتركُها مفتوحةً أمام التقليب التأويليّ الارتيابيّ المُؤسَّس على فنّ الحذف، وهذا ما يُمكِن أن نلاحظَهُ في إرجاء تفسير سبب عدم تنفيذ وصية الشاعر عبد الوهاب البياتي، وتعليق دلالات الخيبة الناجِمة عن ذلك عبر التلميح، والاكتفاء بفعل عملية القفز هذه بتعويم الصورة النّمطية لأيقونة الشاعر اتّكاءً على حُضور الفنتازيا المُستفيدة من جديد من الصلة الميتافيزيقية الغامضة بين العالم الأرضي والعالم السّماوي:
“س: بعدَ موتكَ.. لم يُنفِّذ أحدٌ وصيتكَ بدفن جسدكَ إلى جوار قبر معروف الكرخي، أحد كبار مُتصوِّفة بغداد، ولا قرب ضريح محي الدين بن عربي في سفح جبل قاسيون. لماذا حاولْتَ دائماً الانتماء إلى أضرحة المُتصوِّفة؟
ج: لأنَّني كنتُ أُريد أنْ أشحذَ من طاقاتِهِم الصوفيّة قوّة لشِعري بعدَ الموت. أمّا عن عدم دفني بجوارهم، فلا. لم أندم على ذلك. فأنا ما زلتُ مُداوِماً على زيارة الشيخ محي الدين في كُلِّ ثلاثاء من الأسبوع. فما أنْ يهبِطَ الظلامُ على دمشق، حتّى آخُذَ طريقي مُتسلِّلاً إليه”.
وعلى هذا النّحو، يفتتِحُ دازِنُ المُؤلِّف المُنفصِم بين عالمه الوقائعي الراهن وعالم نصوصه أسئلةً تتعلَّقُ بالحياة الوقائعيّة لأولئكَ الشعراء، وبقضايا تخصُّهُم سياسياً أو اجتماعياً، ويُفترَضُ أن يكونوا قد قاموا بإجراء مُراجَعاتٍ تأمُّليّة بخصوصِها في عالم الغيب، لكنَّ مُحصِّلة الاستراتيجيّات القصديّة للتَّخارُج في نسْيَاقات هذه (الحوارات _ السِّيَريّة) تظلُّ حريصةً كُلَّ الحرص على عدم حسم المَعنى، إذ تقومُ بالاتّكاء في بسط هذا المعنى على أوّليّات مُسَبَّقة، ثُمَّ لا تلبثُ أساليبُ الوجود البصَريّة المُنبسِطة في النصوص على تفتيت شُبهة التّطابُق مع تلكَ المُسَبّقات عبرَ فنِّ الحذف الذي يحتفظُ بطاقة ترميزيّة مُحكَمة تنطوي على المسكوت عنه في كثير من المَواضِع، حيث لا يكاد دازِنُ المُؤلِّف المُنفصِم أنْ يدَّعِيَ سدَّ فَجوة وجودية وقائعيّة، حتّى يفتتِحَ مَجازياً فَجوةً جديدة مُموَّهة ومُلتبِسة، وهو الأمر الذي يمنَحُ شِعرية الحوارات قدرتَها المُتجدِّدة، ويقودُ القارئ إلى فِخاخ الدَّلالات المَفتوحة بشغفٍ تفاعليٍّ حُرّ، ما دامَتْ حركيّة أساليب الوجود النِّسْيَاقيّة حركيّة تشابُكيّة ذهاباً وإيّاباً بين العالم الوقائعي الماضي والعالم الأُخروي الحاضر. ولنتتبَّع هذه القضايا في الجزء الآتي من حوار المُؤلِّف مع غازي القصيبي:
“س: ماذا تعملُ مع طائر الرخ هُنا؟
ج: نستكملُ مرحلة جديدة من البَحث عن النفط بين الجبال السّماوية. ربّما تضحَكُ أو تتهكَّمُ. ولكنْ تلكَ هيَ الحقيقة. نريد أنْ نعرف إنْ كانت ثمّةَ آبار للبترول هُنا أم لا.
س: وماذا يفعلُ هذا الرخ؟ أهوَ مُهندس جيولوجيا مُختصّ بالتّنقيب عن تلكَ الآبار مثلاً؟؟!
ج: نعم. فهذا الطائر قادر على معرفة وجود النفط في باطن الجبال.
س: كأنَّ ما كانَ في المملكة هوَ النّفط ليسَ إلّا؟
ج: كلا. ولكنَّني مُجبَرٌ على فعل هذا هُنا. فثمّةَ من يُواصِلُ الضّغط عليَّ ليحصَلَ على مَنابِعَ جديدة للطاقة في هذه السّموات.
س: لمَ لا تُوضِّح أكثر؟
ج: قد ينفعُني التّكتُّم. فهُناك من يُراقبُني بواسطة أولاد الإبليس الأحمَر من بعيد”.
وفي المضمار نفسه، يستنطقُ دازِنُ المُؤلِّف المُنفصِم الحياة الوقائعيّة الخاصّة والشخصية للشعراء الراحلين، مُوظِّفاً فنتازيا الغيب لتخليق أساليب وجود مُغايرة لا بوصفها أساليب تبسط الحقيقة اليقينية، إنّما بوصفها تُغني الأسئلة الوقائعية القديمة عبر بثّها على حامل التزاوج الزمكاني مع العالم الأُخروي، وهو الأمر الذي يفتَحُ الدَّلالات دائماً على قراءات مُزدوَجة وغنيّة لكلا العالمين، إذ تأتي دائماً لعبة سدّ الفَجوات مُتشابِكةً مجازيّاً مع لعبة فَتح فَجوات جديدة تُخلخِلُ كثيراً من الصّوَر النّمطيّة الوقائعيّة السائدة حول أولئكَ الشعراء، بمعنى أنَّ النِّسْيَاقات وإن لم تخُنْ تماماً تلكَ الصوَر الأيقونيّة، لكنَّها باتّكائها على إحياء بعض المُسَبَّقات القديمة الشائعة، تفتَحُ أبواب المُراجَعة والتّنقيح إمّا للحياة السياسية أو الاجتماعية لذوات الشعراء الوقائعية، وهو ما يتعمَّقُ في مَواضِعَ كثيرة عبر إغناء تلكَ المُراجَعة وذلكَ التّنقيح ببسط أساليب وجود تزويرية أو تشويهية تنزاحُ بالتَّخارُج النِّسْيَاقي عن المَعنى اليقيني بفعل مَشاهِدَ بصَريّة تستمدُّ غرائبيّتها ليس فقط من انتمائها المُزدوَج لعالمين، بل أيضاً من قدرتها على بثِّ شِعريةِ التمويه والالتباس بما هيَ شِعرية استدعاء ما هو مسكوتٌ عنه أو غير مُفكَّر فيه في كثير من الأحيان، وهذا ما ينطوي عليه بجلاء الجزء الآتي من حوار المُؤلِّف مع الشاعرة سنيّة صالح:
“س: بعدَ انتقالكِ إلى السموات، هل اجتمعتِ بالزوج الماغوط؟
ج: أجل. اجتمعتُ به، ولكنَّهُ فضَّلَ عدم التَّعرُّف عليَّ مُتنكِّراً حصولَ زواج بيني وبينه. وعندما حاولتُ تذكيره بابنتيه (شام وسلاف) قال عنهُما: إنَّهُما نجمتان يهديانه لقراءة ما على الأرض من ياسمين وحوادث وشعر حديث.
س: ولمْ يقُم بلمِّ شملكِ زوجةً كانت له، أو يدعوكِ إلى فنجان قهوة أو كأس في أحد هذه الأمكنة الفاخرة؟
ج: بالعكس. تكلَّمَ معي بلُغة تُرابيّة باردة، وأخبرَني بأنَّهُ خرَجَ من سجنين كانا في حياته في سورية: سجن المزة وسجن سنيّة. بعدَها أطلَقَ ضحكة لم أعهَدْها عندَهُ من قبل، ثُمَّ اختفى بينَ الأعشاب التي كانت في ذلكَ السّاحل.
س: أشعرُ بأنَّكِ تُحاولينَ الانتقامَ من البعل القديم؟
ج: لا. فبقدر ما حطَّمَني في الزمن القديم، فأنا لا أملكُ الرّغبة بتحطيم تمثالِهِ هُنا أو هُناك. ولا بعبادتِهِ كقدّيس خالٍ من الذنوب والخطايا”.

تعليق



أمينة بو زيد

2019-05-27

رائع

أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

سؤال وجواب

15-أيار-2021

بايدن المُدجَّج بالاحتمالات السورية

30-كانون الثاني-2021

نُدامى الحنين الورديّ

31-تشرين الأول-2020

العُري اللاّزم لفعل القتل

19-أيلول-2020

صناعة ولَد

29-آب-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow