Alef Logo
يوميات
              

دار نصر

حسان محمد محمود

خاص ألف

2019-07-13

تسلل العقرب إلى داخل "الناموسية" التي ينام تحتها طفلان، شقيقي وأنا.
لم يلدغ أقدام أي منا، لأن المهمة التي أوكلها الموت له تقضي بأن تكون اللسعة قاضية، نهائية، لا برء منها أو شفاء، في الوجه أو العنق، أو في أقرب موضع للقلب.
لسبب غامض، ينتمي إلى عالم العقارب لم يتابع القاتل زحفه نحو الهدف أفقياً. اختار التسلق عمودياً على جدار الناموسية، ثم السير مقلوباً على سقفها، والوقوف بعد وصوله إلى تلك النقطة التي تعلو وجه شقيقي، ربما كي يهبط عليه بقوة غارزاً إبرته في عنقه أو وجهه.
يكتسح الاصفرار وجه أمي كلما تذكرنا ما حصل، وترتبك، وتمهيداً لسردها القصة للمرة الخمسين تقول:
ـ حقاً تتذكر ما جرى يا حسان؟ كنت نائماً وشقيقك!
نعم، أتذكر، ومعلوماتي عن هذه الحادثة أعرف التمييز فيها بين الذي رأيته وما رسخ في ذهني جراء رواية الحدث المكررة من قبل والدتي، وأعرف بدقة ما يعنيه شرود والدي وإصغاؤه إلى أمي في كل مرة تحكي فيها تلك القصة.
كان ذلك في "دار نصر" الذي استأجره والدي من ابن عمه، الذي اسمه "نصر" واقترنت بهذا العنوان حقبة من عمره ومكابداته: لما كنا بدار نصر صار كذا... قبل أن ننتقل من دار نصر ولد فلان ... لا، لا، أبو حسان ـ هكذا كانت الصيغة الرسمية لمخاطبة أمي زوجها أمام الضيوف ـ أول مرة زارنا فيها فلان لم تكن بـ"دار نصر".
يقول جدي: اسمع مني، واشتر قطعة أرض، وابدأ بالعمار، حرام أن تدفع خمسين ليرة أجرة لبيتك!
يقولها جدي يائساً، عارفاً أن ابنه، والدي، لن يستجيب لمناشدته تلك، لأنه مؤمن بأن الاشتراكية طرقت الأبواب، والجمعية التعاونية السكنية التي سجل فيها على شقة سوف تغنيه قريباً عن شرور القطاع الخاص وجشعه، وهذه الـ"قريباً" تبين أنها عشرات السنوات، لذلك ألغى والدي فيما بعد تسجيله فيها، واكتفى من غنيمة القطاع التعاوني بالإياب.
ـ والله يا أمي، عندما دخلت و والدكم إلى الغرفة، و رأيت العقرب فوق رأس باسم، قلت له: محمد..محمد.. (هذا اسم والدي بصيغته غير الرسمية) انظر إلى الناموسية! كانت كتلة سوداء تتحرك، وهي في الداخل، أية حركة أو هزة للناموسية قد توقعها فوق رأس أخيك.

**************
انتصر رأي جدي، وابتاع والدي قطعة أرض، وبقروض عديدة شرع بالبناء الذي يحتاج مالاً كثيراً لا يملكه، فاضطر توفيراً لنفقاته للقيام ببعض مراحله، التي كان أولها حفره حفر العواميد والأساسات، مرتدياً ما كان يسميه "بدلة العمل". وبدلة العمل هذه هي بدلة عسكرية، احتفظ بها بعد إنهائه الخدمة العسكرية، متأكداً من حتمية ارتدائه لها يوماً ما، لأن احتمال استدعائه للخدمة الاحتياطية كبير جداً، فالحرب مع إسرائيل واقعة في أية لحظة، والإعداد لها كان أقل الواجب.
ـ وماذا تذكر أيضاً من "دار نصر"؟
تسألني أمي عند كل استعادة لحادثة أو موقف من تلك الأيام.
ـ أذكر عندما أذاعوا في الجامع رموز الاستدعاء للاحتياط، بعد حرب تشرين، يومها لبس أبي بدلة العمل، وقال لك "جهزي الشنتة" وخرج إلى فناء "دار نصر" يصيخ السمع لمكبرات صوت الجامع، وعندما لم يسمع رمز استدعائه غضب وحزن.
ـ إي والله يا أمي .. كان رمزه "شاكر"، وهل تذكر يوم "الطوفة" ؟
يومها أتى سيل كبير، اضطر بسببه الناس لاعتلاء أسطحة بيوتهم، الإجراء الوحيد الذي استطاعت أمي القيام به كان رفع كيس الطحين عن الأرض، كي لا يتلفه الماء إن دهم "دار نصر" وسط ذعرنا لا من هجوم الماء فقط، بل قلقاً على أبي. كنا نبحث عنه بين حشود الناس الذين خرجوا إلى الشوارع في عتمة الليل يتناقلون أنباء السيل: وصلت الطوفة للحارة الفلانية... طريق كذا مقطوع...
أبي الغائب أتى فجأة، هكذا، كما ترسل السماء غوثاً غير متوقع فيزول الكرب، هكذا، كما في الأفلام، يحضر البطل من حيث لا نتوقع، جاء ملهوفاً وأمرني بمرافقته.
كان بيت عمي قريباً من "دار نصر" وزوجته التي وضعت ابنتها الأولى وحيدة فيه، حمل والدي ابنة أخيه الغائب، وأخبر أمها ضرورة مرافقتنا ومغادرة المكان بسرعة، وأخذ ما تحتاجه الرضيعة من مستلزمات. كانت "الطوفة" قد بانت طلائعها في رأس الشارع، وصوت خريرها يتعالى، تركض خلفنا، في سباق بيننا فزنا فيه بفضل إلحاح والدي على العدو بأقصى ما نملك من قدرة.
غرق ابن خال زوجتي، الطفل ذو العشر سنوات، وقضى. كان والده مدعواً في قرية قريبة، وحين أتى من يخبره بالنبأ، طلب من الناعي التكتم وعدم إخبار الموجودين حتى انتهاء الوليمة، كي لا يفسد عليهم وليمتهم. تقول لي زوجتي: أبوك من ذهب ليخبر خالي بوفاة ابنه، أرد: لست متأكداً، ربما كان مدعواً معه، لأننا ساعتها كنا خائفين على أبي الغائب، تؤكد زوجتي:
لا ... يومها على الرغم من الخطر، أخذ أبوك سيارة وذهب لإخبار خالي.
كثيرة هي المواقف التي تناكفني فيها هذه الزوجة، وتعارض تصوراتي حولها؛ قبل يومين، كنا نتحدث عن طفولة شقيقي الذي اعتلى رأسه ذلك العقرب، وكيف كان كلما سمع صوت المؤذن يهرع جامعاً الأحذية الموجودة أمام باب الغرفة لرميها إلى داخلها، معتقداً أن ذلك صوت سارق الأحذية. جعلتني زوجتي مسؤولاً عن زرع هذه الفكرة في رأسه، مستندة إلى خصومتي العريقة مع الأديان، فأجيبها بالنفي، لكنها لا تقتنع.

ولماذا لا يكون أبي هو من أقنع شقيقي بلصوصية المؤذن، منذ ذلك اليوم الذي خذله فيه الجامع، حين توقع أن يسمع صوت استدعائه للحرب؟ لماذا لا يكون هو، المتعطش للنصر، الباحث عنه، الذي اسم بيته "دار نصر" ولا يجده، حتى عند الجمعية التعاونية السكنية؟
**************
أثناء دراستي الجامعية صار لي أصدقاء من تونس، زارني "علي التومي طعم الله" خلال العطلة الصيفية في سلمية، وعندما رآني أنشر "الناموسية" قبل نومنا أخفى استغرابه، وكتم تساؤلاته عن ماهية هذا الشيء الشفاف الذي يشبه الخيمة. ضحك كثيراً وطويلاً على ما تخيله عن وظيفتها، ولطالما ذكرني بسذاجة تصوراته عنها:
ـ أول ما خطر لي حين رأيت "الناموسية" أنكم أهل المشرق مولعون بقصص شهريار، فحسبت أنكم تضعونها من قبيل الفلكلور الرومنسي الترفيهي الشهرياري .
يعرف "علي" اليوم مهمة الناموسية، وضرورتها لحمايتنا مما يكدر نومنا، لكنني ربما لم أحدثه عن اختراق ذلك العقرب تحصيناتنا "الشهريارية". عقربٌ رابضٌ فوق رأس شقيقي النائم، على سطح الناموسية، التي لو ارتجفت بفعل ذعر أمي، أو حركة خاطئة من أبي، لصار "دار نصر" دار عزاء.
صديقي علي: لو سألت خالتك أم حسان عما جرى، ستخبرك أنه بعد تنبيه والدي، وإعلامه بوجود شبح أسود لموت محتم فوق رأس ابنه، طلب منها الابتعاد بهدوء عن تراثنا الشهرياري، و دنا بحذر من مكان وجود العقرب، وعندما صار في موقع مناسب للانقضاض عليه، باغته بقبضته، أمسكه بها، ساحقاً، ماحقاً، هاصراً، طاحناً ... ثم استوى على عرش النصر، واستراح.



تعليق



جورج سومري

2019-07-13

رائغ

أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

المتة إن عزت

05-أيلول-2020

قصة مقالة عن أدونيس

23-أيار-2020

ضحكة فلسفية

04-نيسان-2020

هكذا تكلم أبو طشت ـ جزء 6 المرأة التي قتلتها مؤخرتها

21-أيلول-2019

هكذا تكلم أبو طشت ـ الجزء 5 كورنيش الشمس لدعم النقد الأجنبي.

14-أيلول-2019

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow