Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

شقق موراين ليني زوماس ترجمة:

صالح الرزوق

خاص ألف

2019-07-27

واحد

لا تعني كلمة "أوريغون" لهن شيئا. فهن غير قادرات على إخبارك من يكون لويس، ناهيك عن كلارك. والعتب على مدرسة ماري لاند الحكومية. ولكن يمكنهن فهم الخريطة، وكانت مفيدة في تلك الأيام. وبواسطتها وجدن بورتلاند. تقدمن بقارب النزهة كريسلير نحو نادي المدينة الكئيب، والثلاثة في وقت الطمث. وكانت بي قد كسرت قاعدة: أن لا عقاقير خلال الرحلة وكانت بصعوبة يمكنها الوقوف. أسندتها عازفة الطبل وعازفة الغيتار على السيارة وهما تدخلان. كان تصرفا بائسا. اعتمدت على الحبوب، ولكن كانت بي تعزف لحنا لم تسمعه رفيقتاها من قبل. وبدأت عازفة الغيتار تتخلى عن الأغنيات المعهودة التي استنزفها المستمعون، وكان إبهامها على وتر النغمة E. أنفقت الطبالة نصف الوقت تجهز مداس القدم، والذي ترنحت عتلاته. (فأحد البراغي الضرورية طار من مكانه في أولمبيا). وبعد آخر أغنية، صاح شاب "أنتن حقا تفاهات مقرفة". فكت بي الجينز، وسحبت الحمالة، وألقتها عليه. ثم شربن المكاييل المخصصة.

وحصلن على 30$. أما ساتيريكون فقد طلب منها أن يجرب غيتارها، ماركة ريكينبيكر. ساعدته بضبط الحمالة الفرو البيضاء، وانتبهت لرائحته النفاذة، وخلال ستة شهور، عقدا قرانهما.


إثنان


بعد عشرين عاما، رحل ساتيريكون وبقيت بي. كانت في بورتلاند لفترة كافية، اختنقا منها، فالإيجار يرتفع ويحشرها نحو الشرق، وارتاحت لأن خباز شطائر المعجنات الإسبانية حل في الطرف المقابل لها محل النادي الذي لا يبيع الغلوتين الموجود. غير أن موجة حرارة أيلول أغضبتها ، فالمدينة معروفة بالاعتدال.
وفي بنايتها التي تضم شقق موراين، كان آل عيساوي يعيشون في الطابق الأرضي، وشاب نزق يدعى ديلون في الطابق الثاني، وهي في الطابق الأخير. اسمها بي ستيفينسون، عازفة غيتار متقاعدة، وزوجة سابقا.
كان أولاد عيساوي يلعبون لوقت متأخر على سطحها، يقفزون ويدبكون عليه، ويصخبون ويغنون. وبين رقصهم والرطوبة التي تبلغ ثمانية وتسعين درجة، لا تجد الراحة إلا ليلا. وكل مخزن تذهب إليه يكون محروما من مكيفات الهواء. كانت تجلس بساقين متقاطعتين على أرض المطبخ، أمام الثلاجة الباردة المفتوحة وتمتص مكعبات الثلج. وتلتهم نصف علبة من الموالح. وتفكر أن تشتكي إلى أم الأولاد برسالة ثم تقول لنفسها: ستة أولاد، وشقة بمساحة ثمانمائة قدم مربع. لا بد أنها مشكلة. وربما سترد عليها ميسون قائلة:"و ماذا أفعل. لا تنامي في ساعة اللعب".

تدوس بي بقدمها بسكويتة مالحة وتجمعها بشكل كومة صغيرة، ساعة الفرن أشارت إلى الخامسة وتسع وأربعين دقيقة. عما قريب ستشرق الشمس. وستنتهي من الغسيل المتأخر. كانت جدران القبو ترسل أصواتا غريبة- خفق أجنحة، ارتطام، خدش- ولذلك كانت سياستها أن لا تغسل ليلا.

كانت ليلى العيساوي تطوي الثياب فوق المجففة.

قالت لها:"مرحبا يا ليزوس".

وضعت بي قطعة قذرة في الغسالة.

قالت:"كيف كان الامتحان؟".


"حصلت على واحد- ناقص. وحصل حيدر على ثلاثة ناقص".

نفضت ليلى قميصا من ماركة ديناصور عاشب وبلا ياقة.

"الغاية تحديد مجموعة الرياضيات المناسبة".

كانت هي وحيدر في الصف الخامس، مع أنه أكبر منها بثمانية عشر شهرا. لكن في هذا العام وضعتهما المدرسة في صف واحد. وتمنت أن يكون لليلى تأثير إيجابي ومهدئ على أخيها. قالت:"حسنا، في جعبتي أخبار، أنا عندي موعد غرامي".

لم تقتنع. وتحول وجه ليلى ليبدو متحمسا. وقالت:"آه، في أي مطعم؟".

"في السينما".

وارتسمت على وجهها الابتسامة الغريبة المزيفة التي لا تفارقها منذ عشرة سنوات. كانت ليلى تتصرف مثل الأطفال الصغار. حتى نها بدأت تميل لارتداء الحجاب.

وقالت ميسون لبي:"مع أنه غير مفروض قبل البلوغ، لكنها مستميتة لتظهر أكبر من عمرها وناضجة".

قالت بي:"الجدران غير صاخبة في هذه الأيام".

هزت ليلى منكبيها وقالت:"لأنها حارة جدا بالنسبة للوحوش".


ثلاثة


كانت بي هي مساعدة مدير مؤسسة غير نفعية تجمع النفايات من ضفاف النهر، والحدائق العامة، والشواطئ، والدروب. وخلال تنظيف الشاطئ في الربيع، وبينما هي تغربلها بحثا عن البلاستيك، طلب عنوان بريدها الإلكتروني متطوع اسمه إد. كان بروفيله يذكرها بألفريد هتشكوك إذا غضت النظر عن وجناته. كانت عيناه جذابتين، ناهيك أنها لم تمارس الحب منذ فترة. وأملت أنه سيتصل بها. ولكنه لم يفعل بعد مرور أسابيع وشهور. ثم جاءت الدعوة. خلال موجة حارة، أرسل لها رسالة إلكترونية ورد فيها: تبدو السينما الشيء المعقول الوحيد. ومن الواضح أن إد يعمل في وكالة إعلانات. على الأقل لديه عمل. بعكس زوجها السابق الذي لم يبحث عن عمل بعد إغلاق ساتريكون، أو ديللون، ولم يكن يغادر الطابق الثاني إلا لمساعدة ميسون في حمل أو توصيل أو صيانة شيء ما.

في بعد ظهيرة يوم السبت، الحرارة 102 درجة، قادا السيارة إلى مركز التسوق. فكر إد بالزلزال الهدام الذي سيضرب أوريغون قريبا، "تقريبا بالتأكيد في حياتنا المعاشة". كان قد خزن ما يكفي لشهر حبوب الكينوا وقديد البقر، وملأ حقيبة الرحلات بالإسعافات الأولية، وحبوب تتقية المياه- وحمل الساطور.

قالت:"ساطور؟".

"أداة لقطع الخشب وسلاح للدفاع. هل لديك حاجاتك؟. يمكنني تجهيز مساعدتك بتجهيز قائمة الضروريات".

أين يمكنها أن تخزن كل تلك الكينوا؟. وهل يحب آل العيساوي الكينوا؟. لم يكن بمقدورها أن تتصور نفسها ضحية زلزال دون هذا المخزون.

كان عند ديلون فأس، وربما يكون مفيدا. هبت الرياح المثلجة في الصالة المظلمة. يمكنها أن تجلس هنا إلى الأبد.
قال إيد:"سيكون أسوأ مكان خلال الأزمة. مخبأ محترم من الشظايا المتطايرة. تنازل مريح، ولكن لن يطول به الأمد كثيرا-".

أعلنت بي قائلة:" لدي بعض العلكة السكرية". وتظاهرت أنها تحدق بكيس السكاكر، وسمحت لعدة زبائن بتخطيها. ماذا لو احتجزت في هذه الصالة لعدة أيام، تغسل سويداء الذرة غير المطهية بشراب الدكتور بيبير بعد أن ينفد الماء من الأنابيب والصنابير؟.

كان الفيلم عن أثر أزمة عام 2008 على مجموعة أنصار الزلاجات والعارضات اللوااتي يحببنهن. وحينما همست بي أن الممثلات تبذلن جهودا ضرورية للترويج التجاري، التفت إيد نصف التفاتة، وقال:"أنا في الحقيقة أحاول الاهتمام بذلك".

وانطلقوا في المساء العاصف.

على الطريق السريع اكفهرت السماء فجأة، وأصبحت مثل غطاء مغلق. وبدأ المطر الوحشي - بلا كريات البرد الجليدية الضاربة- وأصبح الخواء أخضر. أوقف إد السيارة قرب الرصيف و قال:"هل تغطي التأمينات الخدوش؟". وعبس وهو يمص شفتيه وأضاف:"هل يعتبر البرد من أفعال الإرادة الإلهية؟".

معايير بي لم تكن مرتفعة جدا. هناك ذو الأسنان المضلعة والقناعة الثابتة باستعمار الفضاء الخارجي. وذو الشعر بتصفيفة القنافذ والشفاه الثخينة الذي يقول بصوت بارد"أنت تلعبين مثل الذكور، ويمكن أن تتمزقي حقا". ويمد يده لتحريك مؤشر الصوت في غيتار ريكينباكر. ولكن إد يكون بعيدا جدا. عندما وصلت السيارة كان بحاجة للتبول. فالمسافة بعيدة إلى الويست سايد.

وقفت في المطبخ وهي تقبض وتبسط يديها. ثم ظهر، أخيرا، وقال:"أكره أن يكون لي جسم. هل تجهزين لنا الشاي؟".

وخفض نفسه إلى أحد الكراسي وقال:"هل بمتناولك أكياس إيرل غراي؟".

"كلا. آسفة". كيف تكره أن يكون لك جسم؟".

"هل عندك أكياس الإطار الإنكليزي إذا؟؟".

"و لا هذا- ليس عندي شاي".

يلمس إد مملحة بشكل الخنزير.

تقول:" لا يوجد عندي شاي أبدا".

تتفحص مفاصله البيض الرفيعة، وراحتيه الرقيقتين. كله طري، ولا يمكنه أن يؤذيها أو يضغط عليها.
"هل نقول إنه يوم خاص؟".

"ربما".
يضم شفتيه كأنه ينقر ويضيف:" مارست الجنس ثماني مرات فقط".

"آه، لماذا؟".

"لا أقصد مع ثماني نساء. أقصد ثماني مرات. هذا مجموع الجماع في حياتي كلها".

"حسنا". تتأمل بي الخال على إبهامه الأيسر الذي تنمو منه شعرات سود.

"لماذا أكشف هذا السر؟".

"يمكنك أن تفضي لي بالمزيد إن أردت".

يضحك بهستيرية ويقول:"ولكن لا أفضل ذلك. لماذا بدأت بهذا الكلام أساسا؟".

تمنت في سرها أن تقرع ميسون، الساكنة تحتها بطابقين، بابها!. الآن وحالا!.

قال ‘د: "جميل منك أن تصغي". ووقف وذراعاه جامدان على جانبيه.

قالت بي:"بكل تأكيد".


أربعة


أنشد أحمد وهو على السطح:"فطيرة دجاج ماما، تأتي بهم إلى الباحة". كانت تعرف كل صوت: سبرانو أحمد عالي النبرة، ونواح حيدر، وزعيق ليلى الآمر. كان جواد أكبرهم- وصوته لا يزال في أول البلوغ. أما طارق، أصغرهم، يشهق مثل الدلافين الصغيرة. ونديمة تدمدم وتصمت، هذا إذا تكلمت أصلا.

"إلى الباحة، إلى الباحة، إلى باحة الأمهات".

"توقف يا حيدر".

"أعد لها ما أخذته منها".

"توقف يا حي".

حيدر يثير الحنق دائما، وهو نحيل بعمر إثني عشر عاما، وليس متحمسا ليرضي أحدا، مثل ليلى، ولا واثقا من جماله، مثل جواد. وبعد وصولهم إلى أوريغون، شخصت المدرسة الإبتدائية سلوكه بأنه مرضي ولديه تناذر العناد الدفاعي، وهو منذئذ يعيش تحت خط توقعاتهم. قالت ميسون:" لقد ورطوني مجددا بالكلام عن مشكلة الولد".

صاحت ميسون من الباحة باللغة العربية. هناك وقت أمام ليلى لتحضر الرز، وأمام الصغار للاستحمام. وعليهم أن يردوا على ما يبدو أنه شكايات ومساومة. ولكن سريعا ما سمعت بي صوت خطواتهم على السلالم. وأيديهم الصغيرة تضرب الجدران. تدافع كتدفق للطاقة، وميسون هي الخزان. كيف يمكنها أن تضبط ذلك؟. فقد خارت قوى بي بعد خمسة عشر دقيقة من مطاردة طارق. ولديها شيء تحسده بخصوص الدحرجة، فالأجسام الست الصغيرة لا تجتمع إلا بوجود الأم، والمساء لم يحن بعد وهو وقت الخصام والتدافع وتناول الطعام، فهذه هي طقوسه الملتهبة. اعتاد زوجها السابق أن يقول إنه يفكر بوضع أهلي صاخب. وربما هذا ما يعنيه تماما.

خمسة


استيقظت على صياح يقول:" بيزوس! يابي! بي!هل رأيت هذه القذارة؟".

فتحت الباب وقالت:"أية قذارة؟".

مدت ميسون يدها بأوراق وقالت:"مثلها في علبة بريدك. أنا متاكدة".

في الرسالة إعلان أن شقق مراين مباعة ومبرمجة للهدم. وعلى السكان إخلاء الموقع بغضون ستين يوما.

قالت بي:"هذا غير قانوني".

"آه. نعم. بل نعم يا صديقتي. هو قانوني. اطلعي على عقد الإيجار".

"هل تريدين الدخول؟. أجهز القهوة".

"أنا غاضبة جدا. وأنت بحاجة لتغطية نفسك. لا أقصد أنك لست مقبولة، لكن يا إلهي، لا أريد أن أرى هذا".
نظرت بي لفخذيها المكشوفين، كانت العانة السوداء تبرز من طرف سروالها المطاطي.

"يا للشباب؟". وشاهدت ديللون وراء ميسون، وهو يعرق ويرمش بعينيه.

وأسرعت بي لتجد سروال جينز تستر نفسها به وهي تقول:"انتظري".

قال ديللون:"هذا عهر. يجنون الأرباح ويبنون البيوت الاقتصادية على قبورنا".

"ليس قبري".

وتذكرت بي فقالت:"أحد الزملاء في العمل محام".

وأشرق وجها ميسون وديللون لهذا الكلام. وخفق صدرها بسعادة وامتنان. حينما انتقلت إلى البيت، من أربعة أصياف مضت، كانت ميسون أول جارة تراها. كان للشقة في الطابق الأرضي أبواب زجاجية منزلقة وأمامها شريط من الحصى، وعليه وقفت امرأة قصيرة بغطاء رأس بلون الخزامى وبثوب أزرق، وكانت تمسح عن كرسي بلاستيكي ما يبدو أنه لبن. تبادلا التعارف.

نظرت ميسون وراءها، نحو سوبارو فوريستر. وقالت:"لأي عام يعود طراز سيارتك؟".

"أوه، عام 2002؟".

"ربما لا أريد أن أتوقف في هذه البقعة. من الشائع أن تعطب فجأة.

انتشرت على وجه بي بقع شمسية، فهي لم تتناول البروتين في ذلك اليوم. توجهت إلى السلالم، صاحت:"عشت في أحياء أسوأ من هذا". ولكن ميسون لم تتأثر. وردت: "لماذا تعيشين لوحدك؟".

فكرت بي والغضب يشد من عضلات رقبتها من الخلف وقالت:"لماذا؟".

"نعم، لماذا؟".

"أنا هي أنا". "لا أحد يكون على ما هو عليه بلا سبب، كعجوز موشومة".

قالت بي:"مطلقة".

وأسرعت على السلالم الإسمنتية نحو شقتها الجديدة، والتي لا تزال مفعمة برائحة بول القطط. وكانت قد انتقدت ذلك.

قال زميلها المحامي إنه لا يوجد مأخذ قانوني. "ورد في الصفحة الثالثة: إنذار قبل ثلاثين يوما لإنهاء العقد. حتى إذا كان العقد لم ينته موعده".

"هل بمقدورنا المقاضاة؟".

"على أي أساس؟".

"الظلم".
"سبب وجيه". أعاد إد عقد الإيجار.

"ماذا يفترض أن يفعل آل عيساوي؟".

"سيتصلون بخدمة اللاجئين، على ما أعتقد. هل لديهم إذن إقامة دائم؟".

كانت لي تراهم يوميا تقريبا وطوال أربع سنوات. قرأت للأولاد كل نسخ كتاب رامونا. ومع ذلك لا تعرف بعض الحقائق الأساسية.

لديها شيء واحد يمكنها بيعه. ومنذ سنوات تحمله من شقة إلى شقة، ونادرا ما تفتح الحقيبة السوداء ذات الندوب: الجسم الأجوف الأزرق الشبيه بسواد منتصف الليل الذي يضم آلة ريكنباكر مع الأوتار البراقة بلون اللآلئ المطحونة، وثقب عين القطة لنغمة فا، والذراع الكروم، والأوتار البيض المزدوجة، والذيل بأوتاره الراعشة. ليجذب الغيتار ما يكفي لإيجار أول شهر مع مبلغ التأمينات. (لكنها فقدت تأمينات موراين بسبب طلاء الأرض بلون أسود). وتبقى لها القليل في حسابها (الحساب الجاري يبلغ 36.71 $). وستقدم بعضه لميسون، ولكن لا تريد أن تتكرم بي على الأولاد ولو بالدمى. وكل ما تسمح به أجر حافلة تقودها إلى مخازن سيف واي.

مدت بي يدها إلى القبضة على رفوف الخزانة. لم تشعر بشيء. قفزت إلى أعلى وشاهدت البلوزات فقط. لا أثر لحقيبة تحت الخزانة- ولا تحت السرير- ولا في أي مكان.

زوج سابق؟. ولكنه يعيش في ماساشوسيتس منذ سنوات. خطر لها في دورة أفكار ثانية: هيتشكوك.


ستة


في أول مرة جاءت فيها ميسون لشرب الشاي، اعتذرت بي بسبب المملحة وعلبة البهار. قالت:"بوسعي تنحيتها من أمامك"

"لماذا؟".
"بسبب- شكلها؟".

نظرت ميسون إلى العلبتين. شعرتان تبرزان من وحمة على فكها، وهذا ما قرب بي منها، نظرا للخال الذي على إبهامها.

قالت بي:"هل الخنازير محرمة؟".

نهضت ميسون لتوقف الغلاية التي تشخر وقالت:"ماذا تفضلين، ليدي غراي أو شراب ما قبل النوم؟".

"ليدي غراي. وآسفة إذا تلفظت بكلام ليس في محله".

صمتت ميسون وهي تسكب الماء على أكياس الشاي. هذا ما تكرمت به، ولكنه صمت مقصود إزاء حماقات بي.
اليوم شربا بيو- ره (الشاي العضوي)، وتحدثتا عن سخافات هوي، الذي توقف عن الرد على مكالمات الصيانة بعد إشعار الإخلاء.

"هو يأمل أن يتجنب غضبنا، ولكنها محاولة فاشلة. أرسلت له أمس أربع رسائل إلكترونية. وقلت فيها: أنا أغذي أطفالي بالدقيق البارد ليلا ونهارا، يا هوي".

قالت بي:"آمل فقط لو أن خبرات ديللون تشمل الأفران".

"في أول سنة لي هنا كنت أوقع رسائلي الإلكترونية بـ "صاحبتك ميسون". يا لي من حمقاء. أول سنة كانت مزعجة حقا. كان طارق حديث الولادة وحيدر لا يتوقف عن البكاء من أجل والده". وطرفت ميسون عينيها بسرعة. فهي تقريبا لم تذكر قبل الآن والد الصغار.

"هل تفكرين بالإنجاب؟".

قالت بي:"قليلا. ثم تناسيت الموضوع. ولكن الشاب الذي كنت زوجة له كان يريد أبناء من صلبه".

"ولهذا السبب انفصل عنك".

"في نهاية الأمر نعم"."و لماذا لم تنجبي منه؟".

ضحكت بي بصوت مخنوق وقالت:"أحلم بطفل لأحتفظ به؟. كان عاطلا عن العمل. وكنا نتعاطى المخدرات كل الوقت".

ولم تطرف ميسون بعينيها لدى ذكر المخدرات. واعتقدت ميسون أن هذا بسبب ذكريات خاصة وعميقة.
قالت:"وماذا عن زوجك؟".

بعد رشفة طويلة قالت:"اليوم سأكتب ما يلي:"مرحبا يا هوي. أنا السيدة المهاجرة الخالية الوفاض من كل شيء. هل ستتكرم بالحضور وصيانة الفرن الشئيم".

لعبت بي بأصابعها وقالت:"ولكنك أنجزت أشياء كثيرة منذ وصولك إلى هنا". وانتبهت أن كلامها مختصر جدا. فتابعت:"تعلمت الإنكليزية على الأقل، احمدي ربك على ذلك".

وحركت ميسون يدها بحركة نفي وقالت:"درست اللغة الإنكليزية في العراق. وربما سيصدمك أن تسمعي أنني درست في الجامعة. لكن أنت لم تكوني طالبة في أية جامعة، على ما أعتقد".

ارتعشت من التحسس وقالت:"لم أحصل على إجازة ولكن انتسبت لبرنامج الثقافة الشعبية".

"جامعة مفتوحة؟. الأبيض الأمريكي صاحب المهنة التافهة لا ينتسب إلى جامعة".

"هل عملي من نوع منخفض؟".

هزت ميسون رأسها وقالت:"سكرتاريا".

و لكن أنا لا أعمل. أنا أعيش بلا هدف- وسعلت بي من القلق والخوف. فهي ليست شريرة وتحسد الناس، إنها لا تحقد على أحد.

"هل تشعرين بضرورة للتقيؤ يا بيزوس؟".

"هناك شيء في بلعومي".

وعصرت ميسون كيس الشاي، وحدقت بالباحة. وقالت:"شقق موراين حفرة قاذورات. وأنا مسرورة لأنهم سيفجرونها".
"حسنا. إنه أمر هدم فقط".

"آه يا إلهي. هذه طريقة بالتعبير فقط".

"إلى أين سترحلين؟".

"لم أفكر بالأمر بعد، لا أريد أن ينفجر رأسي ويتحول إلى مليون شظية. وأنت؟".

قالت بي:"نفس الحال".


سبعة


لا بد أنها أخبرت إد عن ريكنباكير وهما في موقف على الطريق السريع خلال عاصفة الجليد. حياتها القديمة في الفرق الموسيقية عبارة عن منحة إلهية، كتاب مقدس ترتله كلما شعرت بالاختناق. ولعله حينما ذهب للتبول، وجد الفرصة ليحصل على نسخة من المفتاح، وانتظر في كرومانيا حتى تأكد أنها عادت إلى عملها. واغتنم الفرصة ليسرق بعد الأشياء الموسمية: ملح همالايا الصخري، قرون القرطم، وكيس من فليفلة أسام الحارة، يمكن القول إنها حارة جدا بالنسبة للسان الإنسان. كتبت تقول: كل ما أريده استعادة غيتاري. وبعد استعادته سالما، سأتظاهر أن شيئا لم يحصل.

رد إد يقول: أنت إنسانة خيالية. رجاء لا تتصلي معي بعد الآن.

وقف ضابط الشرطة، الشاحب والعجوز، باستقامة شديدة وبتاج شعره. وقال:"كيف تعرفت على هذا الشاب؟".
"في موعد غرامي".

"كنتما.... عاشقين".

وكتب ذلك على شريط ورق رفيع.

"كلا. مرة فقط".

"ولماذا؟".
قالت:"لم يعجبني".

ربت الضابط على تسريحة شعره وقال:"إن لم يعجبك، كيف وصل إلى بيتك؟".

"ليتبول".
"وهل كان يشعر بضرورة ذلك؟".

"ادعى ذلك".

قال الضابط:"نحن نسمي هذا في بلدنا بقنبلة دخان".

كانت أمه في ماريلاند، وتقول له:"عناء العمل مع الشرطة يضر أكثر مما يفيد".

"أحدهم اقتحم بيتي".

"ولكنه ليس بيتا إن شئت الدقة، أليس كذلك؟".

يا له من ضابط مسكين. لا بد أن هذه الفكرة دارت في رأسها. أن تهتم بهذا التعدي التافه على الخصوصية. أن تعيش في نيوارك، نيو جيرسي، حيث تقع جريمة كل عدة ثوان، كانت أم بي تعتبر بورتلاند مكانا ثمينا وحاضنا، تلك المدينة أشبه بطبق معجنات.

وذكرتها بي بقولها:"لا تنسي سرقة غيتاري".

صوت الرغوة أثناء سكب البيرة. ثم قالت:"ولكن لم تعزفي منذ عدة سنوات".

"مع ذلك ثمنه أكثر من 3000 $.

قالت أمها وهي تبتلع:"قذارة. هذا ما كان لديك".


ثمانية


وهي في طريقها إلى سيف واي، قالت بي لميسون:"ديللون مستميت من أجلك".

"عفوا، هل هذه نكتة".

"أنا أرى ذلك، حتى لو أنك لم تنتبهي".

أطلقت ميسون ضحكة جافة تشبه النباح وقالت:"أنت لا تفهمين ما تراه عينك".

تخيلت بي أنها تنام مع ديللون. وذراعه القاسية تثبت ذراعها على الأرض. ولكنه لا ينظر إلا لميسون، والتي تعتقد أنه مسرور لعدم ارتباطه، وأنه سعيد لتمكنه من رعاية أبنائه.

سألتها بي:"هل أنت مهتمة؟".

"آه يا إلهي. أنت أحيانا إنسانة غليظة". ودفعت عربة من أمامها، وأخذت ما بعدها. وأضافت:"هو يساعدني لينظف نفسه من ذنوبه".

"أية ذنوب؟".

"وتسألين دون خجل؟".

تبعتها بي ومعها سلة.

"كيف سيتصرف؟".

"كان بحريا".

"آه، اللعنة". "رحلتان في العراق".

حملت ميسون بصلة رمادية. وتابعت:"انظري، متعفنة وميتة".

"لا أفهم بها".

"أنا وديللون متشابهان بطريقة من الطرق. بقايا شيء محطم".

ولم تتكلما المزيد حتى نهاية التسوق.

في السيارة قالت ميسون:"أود أن نتكلم حول المستقبل".

خدمات اللاجئين في مقاطعة كلتموماه لن تغطي نفقات حياتهم. وآل عيساوي غير جديرين بعد الآن بالحصول على رسوم الطلبات المجمدة أو فوائد الادخار. وحين تتصل بمؤسسة خيرية كاثوليكية يقولون إنها مؤهلة للحصول على تكاليف الغداء لأسبوع.

قالت:"سنعيش معك اذا". وختمت كلامها بابتسامة علنية تجعل جهود ليلى تبدو مخلصة. "وجدت شقة من ثلاث غرف وحمامين. ولك غرفة خاصة طبعا".

"ستعيشين معي لأنه بإمكاني تغطية تكاليف الاستمارة ومبلغ التأمين؟.".

"نعم بالإضافة لسيارتك. سنكون أبعد عن المدرسة. ولسنا قرب خط الحافلة". "نقودي وسيارتي". كان مؤلما سماع هذه المبررات المكشوفة.

"بالمقابل تأكلين مما أطبخ. لا ضرورة لمزيد من المكسرات بدل الغداء". قطبت بي وجهها. ورفعت ميسون صوتها فقالت:"ليس حتى الأبد. هل تسمعين؟. مؤقتا فقط".

"لا أفهم".

"أيضا.....". ابتسامة أخرى، مترددة كانت، ومتلبكة. وحقيقية. قالت:"من الجيد أن يكون معك إنسان بالغ آخر. ولكن يمكنني الاهتمام بنفسي. وأحيانا لا أفضل ذلك".

أغلقت ميسون عينيها ورفعت ذقنها، كأنها تنتظر حكما، أو لطمة.


تسعة


جلست ليلى قرب الباب بعد العودة إلى بيتها، واستمعت لحفيف حجابها الوردي وبدأت تقرأ جزيرة الدلافين الزرق.
"أنت هنا من أجل السمكة الذهبية؟".

تبعتها البنت وقالت:"هل يمكنني أن أقول لك سرا؟".

"طبعا". غرام في المدرسة؟. فتحت بي حزام العلبة ووضعت الأسماك على طاولة المطبخ.
"أولا أقسمي أنك لن تخبري الشرطة". "الشرطة؟".

"أو أمي. يجب أن تعديني".

قطعت بي سمكة ذهبية وقالت:"يا إلهي. حسنا".

"إنه حيدر".

"ما به". "الغيتار". قطبت ليلى وجهها.

"ولكن لا يمكنك أن تخبري أيا كان يا بيزوس".

حمل حيدر مفتاح بي الاحتياطي من خطافه المغناطيسي المثبت على ثلاجة ميسون.

قالت:"لن أفعل. هل باعها؟".

"إنها في موقع إي باي. ولكن لم يدفع أحد بعد". زادت تقطيبة ليلى وتوترت شفتها السفلى، واتسعت عيناها.
"انتبهي. أنا لست مجنونة".

أعولت الفتاة وقالت:"لماذا ليست مجنونة؟".

"أراهن أن لديه سببا".

"لديه سببه لكن، السرقة خطيئة".

"هذا يعتمد على الظروف".

ازداد عويل ليلى.

"ماذا يا لا لا؟".

"سوف... سوف... أعطي النقود للوالدة و... لكن الآن لا يمكنني.. الآن يجب أن.. أعيد الغيتار...".

"آه يا عزيزتي". جلست بي القرفصاء قرب كرسي الفتاة وضغطت بجبينها على ذراعها المرتعشة والحارة.

أنا سعيدة أنك تصرفت بطيش وأخطأت. لا يجب أن تكون ليلى غسالة أو طباخة وراعية لأخيها، والملاك الحارس والطيب دائما.


عشرة


مجمدة بطيئة الحركة تجمع الحجارة والصخور، والحصى والغبار والرمل وقشور الحجارة. وحينما تتعب من الحرارة، يطلق الثلج بلورات صغيرة. والأكوام المتبقية التي تتركها وراءها هي شقق موراين. خيوط من الغضب والتوتر. كانت الطرئاف في أوقات سالفة مضحكة. اعتراف فظ أمام زوجها السابق. حبها الطفولي للدكتور بيبير. لماذا لا يريد إد أن يمتلك جسدا؟. كل الشظايا تعصف داخل رأسها. وتتخلل أمريكا من طرف لطرف- من طرف الأرض لطرفها الآخر- نفايات ومهملات، بقايا لا معنى لها. أحياء ناجون من أماكن متهدمة ومتفجرة.

تسعة وخمسون يوما بعد إشعار الإخلاء، سماء رطبة وفضية بلون القريدس بدلت اللحاف الذي يمتد فوق بورتلاند. وقف ديللون مع بي في الباحة المزدحمة بأكوام من العلب والحقائب والطاولات وأصص النباتات.

قال:"انظري لهذه الزبالة، أنا أخفي قذاراتي في مؤخرة سيارتي".

"أعتقد أن نقودي قليلة كالجحيم ولا يمكنني شراء أي شيء".

لم يكن بإمكان بي أن تفهم نظريا لماذا يجب التفكير بالنقود، ولم يكن أمامها فرصة للسؤال. فهما للتو يحاولان عقد صداقة بينهما.

قال:"الناس يعتقدون إذا كنت عاجزا، فأنت مدلل. مثل نهر قذر من الذهب. ولكن الولايات المتحدة لا تدللني بأي طريقة، أو شكل، أو أسلوب".

"نعم، واضح".

يلمس ديللون معزاته الشقراء. ويقول:"لك نبرة بطولية ولكن لا أفهمها".

خشيت أن الاعتذار سيبدو له مبالغا به أيضا فقالت:"هل يمكنني الحصول على سيجارة؟".

أخرج سيجارة من العلبة وقال:"من يعلم أنك تدخنين".

"معتادة على التدخين. كنت موسيقية".

"هل استمعت لموسيقاك؟".

"أشك بذلك. كانت الفرقة منطوية على نفسها، كم عمرك. خمسة وعشرون؟".

"واحد وثلاثون عاما. خمسة وعشرون كنت يوم عودتي".

غادر ديللون وميسون العراق في نفس العام.

"وستة وعشرون حين شاهدت طبيبا عاما".

"ولماذا؟".
بصق ديللون على النفايات. قال:"ألا تستمعين يا فتاة لـلإذاعة الوطنية؟. تلك هي الحال. انتظار لثمانين -

تسعين يوما. هل ستدخنين على شرف ذلك أم ستفكرين بالموضوع؟".

أشعلت سيجارة وأخذت نفسا حذرا.

قالت:"أخبر ميسون أن لا تفقد عنوان والدي ووالدتي، هل ستخبرها؟".

وهو يسعل:"ليلى تعرفه عن ظهر قلب".

انفجر ديللون بتكشيرة واسعة وفهمت بي أنه نادرا ما يبتسم.

أضافت:"لن نكون بعيدين. على بعد ثلاث بوابات".

"بل أربعة - لكن - مرحبا يا صغيري". ولوح بيده لأحمد وهو يتعثر بسلة بلاستيكية.

أطفأت بي السيجارة بصندلها وقالت:"هنا يا أحميدو، أنا قادمة".

كانت أشياؤها الجديدة في المكان الجديد، والذي كان أقذر من موراين: طلاء مستشفيات أخضر، بقع ضخمة على غطاء السقف. ولكن هناك مساحة. ثلاث غرف نوم، وحمامان. وغابة رياضية في الباحة العامة. وسطح ضيق لا يمكنك الرقص عليه. وغرفة تكفي لوضعهما المنزلي الشائك، للحركة والنظر- ليس دائما، ولكن أحيانا.



ليني زوماس Leni Zumas: كاتبة أمريكية. عملت محررة في نيويورك تايمز. ومتفرغة للكتابة حاليا. من أهم أعمالها: (ساعات حمر) الصادرة عام 2018.



القصة مترجمة من بورتلاند مانثلي ، عدد آب 2018.








































































































































































































































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow