Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

أكثر من مجرد بيت أوديجا دانييل ـ ترجمة:

صالح الرزوق

خاص ألف

2019-08-31

لا يحب ميسليفيسكي شيئا أكثر من المنشرة غير بيته. وكان فخورا به لأنه واسع و جديد أيضا، مع أنه استغرق في بنائه عددا من السنوات. فهو مكون من طابقين، و في الحقيقة، إذا تناسيت السلم الذي يقود للقبو، يمكن أن تقول إنه مثالي. كل شيء مطلي و مثبت بمكانه. ليس كل البشر يمتلكون بيوتهم. القليل من الناس يمتلكون البيت الذي يقطنون فيه. ولذلك كثيرون يحسدونه على ملكية هذا البيت، بيته الخاص. وهو يعلم أنهم يغارون منه - وهو يعجبه ذلك. و كان يقول لماريا:"عليهم أن يجدوا و بجتهدوا ليمتلكوا مثله". وكانت تهز رأسها بموافقة صامتة، وماذا بوسعها أن تفعل غير ذلك؟. فهي دائما توافقه، ولكنه لم يعترف يوما أنها على صواب في أي ظرف أو مناسبة.

فحوارهما يبدأ وينتهي بكلمة منهه - ولم يذهبا لما هو أبعد من رأيه فهي محرومة من إبداء أية وجهة نظر.

ورغب ميسليفسكي أن يتخيل أنه كان يبني البيت من أجل إيواء عائلة كبيرة، ولكن أحلامه تهشمت أمام الراقع؛ فماريا لم تحمل المزيد من الأولاد. وفكر بالارتباط بزوجة جديدة، ولكن كل النساء لأخريات كن عاهرات، وهو لا يسعه أن تكون أم ابنه عاهرة على الأقل أن لا تعيش بين جدران هذا البيت بغي. كان مرتاحا في بيته، ولا سيما في الليالي، حينما تكون ماريا وكرزيجتوف نائمين، ويكون أمامه فرصة للحركة ببال هادئ، ليرى ماذا يجري في الخارج. وشاهد من النافذتين الأولى والثانية كتلة من الغابات، ذات سواد داكن انتصب أمام الليل الباهت الذي يتراجع في السماء. وفي النافذة الثالثة، منظر بانورزامي ومنه يرى المنشرة. وكان يلاحظ الظلال تتقافز في الزوايا بينما أعمدة النور الأصفر تشع بالضوء في الباحة، وكانت أحمال الخشب تبتلعها وتحيط بها. ترامت خيوط من النور من خلف الكتلة المظلمة، ولكن فشلت في أن تضخ الحياة في الصور، لأن كل شيء كان جامدا وميتا، كأنه ينتظر شيئا يغير من ناموس العالم. وكان من الواضح أن ميسلفسكي جاهز لشيء سيحدث. غير أن شيئا لم يحصل باستثناء سخافت حركت مشاعره المتجمدة. وبهدوء وثب كلبان اعتاد جوزيف دائما أن يطلقهما ليلا لحراسة المنشرة وكانا يجولان في الباحة بين أكوام الخشب. وفي البيت التهبت ألسنة النار في الصالة الواسعة. أحب ميسلفسكي أن يجلس في المساء، وحده، مع زجاجة براندي قوي. وكان اللهب يتراقص أمام عينيه، ومع أن هذا لم يحسن من مشاعره، كانت قفزات ألسنة النار حادة ومتناغمة ولها أثر مهدئ على نفسيته. كان ميسلفسكي دائما بحاجة لشيء يهدئه. وهذا يعني غالبا الكحول والنساء. وفي إحدى المناسبات، ساعده العمل على ضبط أعصابه، ولكن منذ حينه وهو يمر بمشاكل، وبدأ ذلك يزعجه. ومرارا وتكرارا، أقلقته مشكلة ديونه، وهل سيمكنه سدادها. وهل سيتمكن من إنقاذ بيته والمنشرة. وفكر بحقيقة أنه لا يحب زوجته، ولكن لم يصرف تفكيره على هذه المسألة.. وشعر كأن هناك شيئا مفقودا، وإن لم يعرف فعلا ماذا هو المفقود. وفوق ذلك، كان يخاف من الوحدة، وأنه ذات يوم سيرحل ابنه إلى مكان ما ويدعه وحيدا. وبقيت مشكلة ماريا. ما شأنها؟. إنها لا تعني له الآن شيئا. فهي ضائعة في كل الأحوال. ولا تعرف ماذا يقصد جوزيف إذا نظر إليها نظرة فظيعة تسبب لها الرعب، فالبيت كبير بنظرها، ولا يمكنها تنظيفه تماما. في السابق بعد أن تنتهي من زاوية، كانت تتجمع شبكة من الغبار الخفيف في زاوية غيرها. ولم ترغب أن تطلب من جوزيف أن يأتي بعاملة تنظيف، لأنه أساسا يشكو من شح النقود، وعموما، لم تكن تود أن يكون لها منافسة أمام بصرها. وكانت تعلم نوع جوزيف، باختصار لم تطلب المنظفة المساعدة، وتطوعت للتنظيف وحدها.

ومع أن البيت المؤلف من طابقين كان يحني ظهرها من التعب وهي تصعد وتهبط على السلالم، فهي متأكدة أنها لن تنتهي من رعايته أبدا. ماذا حدا بحوزيف أن يبني طابقا آخر؟. كان أفضل كما هو، دون الطابق الإضافي. والآن شخصيات من مزرارع الدولة يسمون هذا البيت باسم القلعة لأنه شديد الاتساع، إنها تشعر بالفراغ بسبب حجمه الضخم الهائل.

ولكن هذه نقطة ضععفها - إنه واسع لأن لديها ولدين يلعبان في أرجاء البيت. وهذا يشكل مشكلة شخصية لها. في النهاية إن جوزيف محق إذا رماها بنظراته تلك- فهي من يخذله. مع أنه أدى جميع واجباته. إن البيت مترامي الأطراف، ومجهز من أجل الهدوء، وبتكلفة مضغوطة. وإذا كان هناك شيء يقلق جوزيف فهو سور السلالم الهابطة نحو القبو. غير أنها مشكلة سخيفة. ببساطة لأنها ليست موجودة. والسبب ليس في نقصان النقود، ولكن لعدم أهمية الموضوع. وقد تغلب كرزيجتوف على مخاوفه من القبو، مع أنه قبل ذلك، مر بتجربة أو تجربتين ولكنه في النهاية لم يقض نحبه وبقي حيا. ثم كان باب القبو بحالة تسمح بهبوب الريح منه طوال الوقت. وحينما كان كرزيجتوف صغيرا، كانت هناك جثث بشرية تتفسخ في القبو، وما بقي منها تم دفنه في أكياس البطاطا. ومتى ما وضع يده في أحدها، لأنه ينوي الحصول على بعض البطاطا للغداء، كان يلمس شيئا متعفنا. وتغوص أصابعه في مادة متعفنة تسيل على الدرنات الصلبة، ووجد في ذلك مدعاة للقرف. وفي النور الأصفر للمصباح المتدلي من السقف، يرى المادة البنية التي تلوث يديه كأنها براز أو لحم متعفن. أما زر النور الموجود في الأسفل ، فهو أسوأ ما في الأمر. أولا عليك أن تهبط على السلالم في الظلام، وأن تتصرف بحذر شديد، لأنه لا يوجد حاجز للسلالم. ثم إن ذلك الزر اللعين كان في القاع. وبعد ضغطة بسيطة ينفجر شعاع خفيف ويطرد الأشباح التي تحاول أن تقنعه على طول السلالم أن هناك يدا على وشك أن تقبض على وجهه وتمزقه بضربة واحدة. ولكن هذا التفكير الإجرامي لم يسبب له أي ألم، لأن الخوف الذي تحرضه لمساته يكون قد حول قلبه إلى كتلة جافة. وكانت كل نظرة من أمه نوعا من التحدي المفروض على كرزيجتوف. فقد رفض أن يعترف بحبها، ولم يتظاهر أنه الابن الولهان. ولم يشارك أبويه في مشاعره، وكان يشعر أنهما يريدان منه أن يستسلم لهما. ولم يدخل مع أمه في لعبة الحب والولهان أو مع والده في لعبة الخضوع والطاعة. لقد رفض ذلك رفضا قاطعا. وكانا في كل مناسبة يجبرانه على أن يضع على وجهه ما يريدان أن يشاهدا وليس الحقيقة، ولا سيما خلال المناسبات والحفلات الخاصة التي تتطلب الجلوس معا على الطاولة. وفي تلك المناسبات ينتابه الشعور أنه عليه أن يستسلم لمزاج غيره، لو دعت الضرورة لذلك، وأحيانا أن يبدل وجهه كي لا يفاجئهم بتعابيرغير لطيفة وغير متوقعة منه، وإلا دمعت عينا أمه وثار حنق والده. وكان لا يترك لهما مجالا للإحساس بما يعتمل في قلبه. وفي النتيجة كسب هذا الابن كل شيء أراده لنفسه. ولم بعذبهما الشعور بالخطيئة، ولم يتوجب عليه أن يبدي ندمه، لأنه دائما يشعر بخطأ ما. ولم يعرف كيف حقق ذلك، وإنما لم تكن لديه الجرأة ليناقض نفسه ويثبت أنهما على خطأ. فهما دائما محقان، حتى لو كانا بعكس ذلك. وكيف ينسى أنهما وهباه كل شيء رغب به قلبه. وكلما تأكدأنه انه لا يمكنهما ارتكاب خطأ - كان موقفهما منه أفضل. وحتى لو كانت هناك كراهية متبادلة بينهما، فهما متفقان على حبه. كل منهما بطريقته، لكن هذا لا يغير من الحقيقة شيئا. إنهما متعلقان له. وإذا تناسى نوبات غضب والده فهو لم يضربه مطلقا. وإنما كان يضرب أمه. والغريب أنه لم يكن ممتنا لحبهما. لقد فقد قدراته على قبول هذا الحب المفرط والمستمر. ولا سيما من امه. واضطر لخداعها وأدى واجبه لتشعر بالسعادة . وثبت له أن هذا طريق شاق. وفي النهاية، بالإضافة إلى حبهما له، لم يكن هناك شيء يلومهما عليه. وإذا وجد، كان مصدرا للنكران وعدم الامتنان. ولكن كان عليه أن يمتن لهما على كل شيء. وكان هذا فوق احتماله. وكان يمتثل رغما عنه للنظرات التي ينظران له بها، ليبدو ابنا شغوفا ومطيعا ومحبوبا- آه!. وتابع محاولاته، حتى وصل في النهاية للنتيجة. وتبين له أن أفضل طريقة ليتحرر منهما أن لا يفكر بهما. وأن لا يزعج نفسه. وأن يغفر لهما. ويتعامل معهما كغرباء وأن لا يفكر بالمشاعر التي يكنانها له. ولكن ليفعل ذلك، كان عليه أن ينضج أولا- فهذا الأمر يتطلب الثقة التامة بالنفس. وهو ما حصل. وفي أحد الأيام توقف عن ملاحظة نظرات أمه الحافلة بالعاطفة والبريق الذي يملأ عيني والده بالمعاني، وكأنه يقول:"نحن نعلم يا بني ونحن الوحيدان اللذان يفعلان ذلك". والحقيقة أن والده كان وحيدا مع تلك الفكرة، لأن كرزيجتوف لا يمتلك أي دليل عما يعرفه والده، أو أي فكرة يفترض أنه يشترك بها مع ابنه. وببساطة امتنع عن الانزعاج منهما. وما أن فقد إحساسه باللمسة العائلية، حتى أدرك أن الطريق أمامه أصبح مفتوحا وسهلا.

والآن يمكنه أن يقطع الحبل ويغادر. وهو مزمع على ذلك، ودون أي تأنيب ضمير لأول مرة، مع التأكيد والانتباه أنه كلما زادت محاولات والديه للسيطرة على شخصيته، يكون من الأسهل له أن يكسر قيوده ويسيطر على غيره. أما ما رأته ماريا من الطائر الذي يحلق فوق الحقل، فهو مجرد عظامه الخفيفة، وهذه منة من كل مخلوق يمكنه الطيران ولا يتوجب عليه أن يبذل المزيد من العاء ويمشي على قدمين. كان همه على الاكثر التفكير بالطعام. وإن طائرا من هذا النوع لن يقلق من وزن كتلته، أو أن تثبته بمسمار فوق الأرض. فهو متفوق على بقية المخلوقات. وإذا توقف كرزيجتوف وتأمل الطائر، فهذا ليس لقدرته على الطيران. وكان كرزيجتوف ينتظر ذلك ليتخذ قراره. وكان من السهل عليه أن يلاحظ الطائر المفترس الذي انتبه لحركة تحته في الأسفل على الأرض. كان معلقا فوق الرؤوس، ومحمولا بتيار من الهواء، وينتظر ما سيجري. وكان كرزيجتوف ينتظر مثله. وحينما هبط الطائر كأنه يريد أن يرتطم بالأرض، أمسك كرزيجتوف أنفاسه لحظة. وشعر بمعدته وهي تنبسط. كانت ضربة سريعة حينما قبض الطائر على رأس صغير وطائش. وارتفعت كرة من الفرو في الفضاء لتدل على نجاح المفترس. تنفس كرزيجتوف مجددا.

أحيانا يتساءل جوزيف ماذا يعني أن يكون لديك دماغ طائر ولا تضطر للتفكير، وو لا تحمل أعباء تفرضها مشاكل أو أفكار تدعوك لتحتفظ برأسك فوق سطح الماء، كي لا تفقد ما بنيته حتى الآن. إن الطائر لا يبني شيئا. ولكن الإنسان هو الذي ينضم للقطيع مثل ذلك الجرذ الأسير. وها هو الطائر يقتل الجرذ بضربة واحدة من منقاره. تصور أن لديك دماغ طائر لا يوفر لك أي إشعار بالخطر الداهم. وتخيل أنك تعيش دون أي وعي بأي شيء باستثناء معدتك وقدرتك على الطيران.


الترجمة الى الانكليزية أنتونيا لويد جونز.


دانييل أوديجا Daniel Odija: قاص بولوني من مواليد سوبسك. تلقى تعليمه في جامعة غدانسك. ونشر اولى رواياته عام 2001 بعنوان (الشارع). ويعمل في ادارة البرامج التلفزيونية في بولونيا.


ترجمة: صالح الرزوق














تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow