Alef Logo
يوميات
              

تعديلات دستورية

حسان محمد محمود

خاص ألف

2019-08-31

قطع قيلولتي اتصال مرئي عبر الألياف الضوئية، جعلني أستقل أول طائرة مغادرة مطار مدينة سلمية الثاني باتجاه دمشق.
ـ أستاذ حسان السيد رئيس البرلمان "جمال عبد الغفار" يريد مقابلتك بالسرعة الممكنة.
ثم أخبرتني سكرتارية الرئاسة عن فشل محاولتها حجز مقعد لي في الطائرة المغادرة من مطار سلمية الأول، بسبب ازدحام السياح الذين اعتادوا التوافد بكثافة في مثل هذا الوقت من العام، كي يستجموا على ضفاف بحيرات وأنهار المنطقة المحيطة بسلمية، واستكشاف غاباتها والتمتع بمناخها.
دلفت إلى صالة المطار التي أظهرت لوحتها الإلكترونية أن رحلتي ذات الرقم 349 سوف تقلع في تمام الساعة الثامنة صباحاً من يوم 13.05.2075 وهو للمصادفة ذات اليوم الذي اعتدت فيه الاحتفال مع زوجتي بذكرى زواجنا.
ـ إذن، لن نستطيع هذه المرة الاحتفال معاً!
قالتها لميس بحسرةٍ، مسلمةً أمر خيبتها لتفهّمٍ قسري فرضته ضرورات ومفاجآت اعتادت عليها في حياتها معي.
بعد عبارات المجاملة والترحيب، قال الرئيس:
ـ لا شك سمعت عن الأزمة السياسية التي يمر بها البلد، فالبرلمان منقسمٌ والكتل السياسية عاجزة عن تشكيل ائتلاف يسمي حكومة. أجريت مشاوراتي مع قادة هذه الكتل، ويبدو أن الحل الوحيد المتاح هو إنشاء حكومة تكنوقراط، ريثما تستطيع القوى السياسية الاتفاق على مخرج، ولا نستبعد العودة للشعب، وإعادة الانتخابات البرلمانية.
ـ نعم، أتفهم ذلك سيادتكم، ويبدو أن نظامنا السياسي يحتاج إعادة نظر، فقد تكرر هذا الاستعصاء أكثر من مرة، لا بد من تعديل دستوري، لا أعرف كنهه، يضع حداً لذلك، لكن اعذرني سيادة الرئيس، فأنا معلم مدرسة ولست مختصاً بالقانون الدستوري كي أقترح تقنيات محددة لذلك.
كنت بعبارتي تلك أحاول استدراجه كي يفصح عما يريده مني، فالفضول لدي بلغ مبلغه، ولأنك تتحدث مع رئيس لا بد من آداب وبروتوكولات معينة لاستنطاقه بسرعة، وحثه على البوح بمبتغاه، فأنت في مثل هكذا موقف لا تستطيع القول له "أي، نعم، وأنا شو علاقتي؟" أو "وشو فيني أخدم سيادتك؟".
تستطيع لو كنت معنا أن تلاحظ ارتباك الرئيس، وتهربه من إعلان موقف إزاء ما اقترحته بشأن تعديل الدستور، ولو بإيماءة من رأسه، حتى نظراته كانت باردة، محايدة، لا تعطيك أي مؤشر عما يدور في خلده.
ولأن استدراجي له للبوح بما يخمد براكين فضولي أخفق في تحقيق مراميه، استسلمت لبلادة الانتظار، وأصغيت لشرحه المسهب عن أزمة اللاجئين الألمان عندنا، والضغوط التي أحدثها نحو أربعة ملايين ألماني فروا من حرب أهلية في بلادهم، وأثرها على أزمة تشكيل الحكومة السورية، وكيف تستثمرها مختلف القوى السياسية، وسلوك وسائل الإعلام السورية في التركيز على حوادث وقصص سلبية للاجئين، كي تحرض الرأي العام السوري على سياسة الحكومة الترحيبية بهم .... وهذا، كنت أدركه كله، بل أعايشه من خلال اللاجئين أنفسهم، الذين كنت أعلمهم في مدرستي اللغة العربية.
.....***....
من بين كومة ملفات تتربع على طاولته اختار الرئيس ملفاً وراح يقلب صفحاته، ثم قال:
ـ إحصائيات وزارة الهجرة واللاجئين السورية تُـبين حركة عودة متسارعة وكثيفة للاجئين الألمان المقيمين عندكم في مدينة سلمية، ونحن للأسف مضطرون لاتباع سياسات تودي بهم إلى الرحيل، ومعلوماتنا تظهر أن سياساتك التعليمية للغة العربية كان لها الأثر الأكبر في هذه الظاهرة، لذلك سوف أرشحك لتولي حقيبة وزارة الهجرة واللاجئين.
ـ لكن ... سيادتكم ...الحقيقة لا أعرف ما أقول ...أنا مجرد معلم مدرسة و....
ـ مهلاً أستاذ حسان! هل لك أن تخبرني كيف جعلت ثلاثة آلاف ألماني يعودون أدراجهم خلال سنتين، مفضلين نار الحرب في بلادهم على أماننا ورفاهيتنا؟
الرئيس يطلب مني ما يحتاج وصفه ساعات، وموعدي المقرر معه لا يتجاوز الساعة الواحدة.
كيف أشرح له أن سبب ذلك يعود إلى وصية جدي حسان محمود، الذي لم يورثني اسمه فقط، بل أيضاً إتقانه للغة الألمانية التي اضطر لتعلمها عندما كان لاجئاً في ألمانيا قبل ستين عاماً؟
ـ الحقيقة سيادة الرئيس، أن إتقاني للغتين العربية والألمانية التي ورثتها عن جدي هو ما دفعني لتأسيس مدرسة تعلم الألمان لغتنا، فمعرفتي للغتين سهلت تواصلي معهم.
أثنى الرئيس على ما قلت، وهز رأسه إعجاباً، وبحركة من يده طلب مني المتابعة.
ـ جدي أوصاني قبل وفاته أن أعذب الألمان في تعلمهم لغتنا كما عذبوه حين تعلم لغتهم، ووصيته هذه مكتوبة على صفحته في الفيسبوك، فقد كتب مرة متوعداً أنه لو أتيح له تعليم الألمان لغتنا سوف يبدأ معهم بأبيات لأمرئ القيس، طالباً منهم شرحها.
أخرجت حاسوبي المحمول وفتحت صفحة جدي، ثم دخلت إلى منشوراته سنة 2015 وقرأت للرئيس:
ـ أنا الآن لاجئ عندكم في ألمانيا، وإن أتى يوم وصارت فيه معلمتي للغة الألمانية لاجئة عندنا في سوريا، سوف أعلمها اللغة العربية، وأول درس لها سيكون شرح هذه الأبيات:
ومدركل بالشنصلين تجوقـــــلت ... عفص له بالفيلطوز العقصل
ومدحشر بالحشرمين تحشرجت ... شرا فــتاه فـــخر كالخـزعبل
أوقف الرئيس استرسالي، متسائلاً عن سبب كتابة جدي مثل هذه الوصية، فحكيت له مقتضباً كيف جمعنا وهو على فراش الموت، وكنا يومئذ في ألمانيا، قبل عودتنا إلى سوريا، وكانت كلماته الأخيرة لي "يا ضو عيوني يا أغلى حفيد على قلبي، أريد منك يا حسان أن تعلم كم تعذبت حتى تعلمت الألمانية، وكيف كانوا يعطونا نصف المنهاج المقرر ثم يدفشونا إلى الامتحان، استعجالاً منهم لزجنا في سوق العمل"
ـ أنت إذن تنتقم لجدك حسان الأكبر؟!
ـ لا، هذا ليس انتقاماَ، بل تنفيذ رغبة ميت، وتحقيق للعدالة. ولعلمكم سيادة الرئيس: الألمان الذين لم يغادروا مدينة سلمية إلى بلدهم هرباً من صعوبة العربية انخرطوا في سوق العمل لدينا، جربوا سيادتكم وقوموا بزيارة إلى معمل تجفيف البصل سترون الكثيرين منهم على خطوط الإنتاج.
ـ حسنٌ، حسنٌ أود العودة لموضوعنا الأهم، بخصوص تكليفك وزيراً، ما قولك؟
ـ أعتذر سيادة الرئيس، فأنا لست أهلاً لهذا الموقع، وربما أكون مفيداً أكثر لبلدي في عملي البسيط .
بانت ملامح الامتعاض على وجه رئيس البرلمان، فخلع نظارته ومسح عينيه بيديه وقال:
ـ لكن قد لا نجد من هو أقدر منك على تولي المهمة، الأرقام تؤيد جدارتك في تطفيش اللاجئين.
هو يصر إذن، وغضب شخص في مكانته مؤذٍ، فما عساي أفعل كي أقنعه؟
تراءت لي صورة لميس مكسورة الخاطر جراء إلغاء حفل ذكرى زواجنا، وأرعبتني فكرة تكرار إحباطها كلما استدعى انشغالي بأعمال الوزارة ابتعاداً عنها وعن أبنائنا.
كان عليّ أن أبتدع أفكاراً تقنع الرئيس، تكون مجدية وعملية وقابلة للتطبيق، وإلا لا مفر من تحمل عبء وزارة لا أرغب بإرهاق نفسي به.
ـ سيدي يمكنكم تحقيق الغاية بوسائل أكثر فعالية من مجرد استخدام صعوبة اللغة العربية لحث الألمان على المغادرة.
مرةً أخرى تنقذني صفحة جدي حسان محمود على الفيسبوك، و ينثال مطرها فوق صحراء ارتباكي وحيرتي.
....***....
عندما ينظر رئيس في ساعة الحائط، هذه إشارة على قرب انتهاء المحادثة، وحين يضع نظارته التي خلعها منذ قليل ويبحث عن ورقة على طاولته فإنه بذلك يريد أن يغير مسار الحديث ويأخذه إلى نهايته.
ـ يمكنكم إصدار قوانين تصعب على اللاجئين الألمان الحصول على الجنسية السورية، هذا طريقٌ، أعتقد أنه أقصر لتحقيق الهدف.
كان عليّ العودة إلى صفحة جدي على الفيسبوك، لأثبت للرئيس نجاعة الفكرة، وأطفئ نار شوقه لمعرفة التفاصيل.
ـ سيادة الرئيس، قبل ستين عاماً هل تعلم كيف حصل جدي على الجنسية الألمانية؟ يومها سنت الحكومة الألمانية قانوناً يقضي بأن يحصل على الجنسية فقط أولئك القادرون على تسلق أبنية عالية.
ـ ماذا؟ ما هذا الشرط الغريب؟
ـ نعم سيادة الرئيس، لمعت الفكرة في رأس السياسيين الألمان آنئذ، بعد حادثة منح الرئيس الفرنسي "ماكرون" الجنسية الفرنسية لشاب أفريقي. كان مهاجراً غير شرعي، إلى أن أغدق عليه القدر بطفل يتدلى من شرفة شقة تقع في الطابق الرابع من بناء شاهق، فتسلقه وأنقذ الطفل، ولأن الجميع يحمل هواتف فيها كاميرات فقد تم تصوير بطولته، وضجت بنبأ شجاعته ومأثرته تلك وسائل الإعلام في ذلك الوقت، فما كان من الحكومة الألمانية إلا أن التقطت الفكرة، وأصدرت قراراً تشترط فيه على الراغب بحمل جنسيتها إنقاذ طفل، أو أن يكون قادراً على إنقاذه، لكنها استبدلت الطابق الرابع الذي على اللاجئ تسلقه بالطابق السابع، فكان على جدي تسلق سبعة طوابق على الأقل كي يتقدم بطلب منحه الجنسية.
بعد أن سمع الرئيس روايتي طلب قراءة ما نشر جدي المرحوم بنفسه، فأعطيته اللابتوب فاتحاً إياه على المنشور المطلوب، وشرع يقرأ بنهمٍ وصوتٍ عالٍ:
)بينما كنت ذاهباً إلى الصيدلية، على كرسيّ المتحرك، لأحضر أدوية هشاشة العظام، وضغط الدم، والقلب التي وصفها لي الطبيب، رأيت طفلاً يتدلى من أعلى شرفة شقة تقع في الطابق التاسع. قمت عن الكرسي، وتسلقت، حتى وصلت إليه، ففوجئت بأنه لم يكن طفلاً، إنما دمية بدت من بعيد على شكل طفل، وقرب الدمية وقف رجل كان يصورني بهاتفه الجوال، شكرني على إنسانيتي، وقال لي بالألمانية "نحن سلطة الأجانب وكنا نختبرك، مبروك، نجحت باختبار منح الجنسية ". قفـلت نازلاً كما صعدت، وامتطيت صهوة كرسيّ ذي العجلات وتابعت الكـرج باتجاه الصيدلية.
في طريق العودة، رأيت طفلاً ثانياً متدلياً من شرفة منزل في الطابق السابع، فعلت ما فعلت مع الطفل الأول، وكانت النتيجة ذاتها، كان مجرد دمية اختبارية، وقف إلى جانبها ذات الرجل الذي كان مع الدمية الأولى. حدقت فيه باحتقار وغضب وقلت "هل تعرف قصة الراعي الكذاب؟ أنتم بسلوككم هذا تجعلونني أمتنع مستقبلاً عن الثقة بكم، وإنقاذ طفل حقيقي ربما يكون بحاجة لمساعدتي". قال الموظف الألماني متجهماً: إنها الإجراءات، وعلينا احترامها. لم أتمالك أعصابي، وغلبني الإحساس بالخديعة فضربته ضربةً قوية على يده التي كان يمسك بها هاتفه المحمول، فسقط الهاتف في بركة أسفل الشرفة، وضاع علي تسجيلان يثبتان إنسانيتي، ما يعني ضرورة تكرار اختبار منح الجنسية خاصتي.
وصلت إلى المنزل، واتصلت بسلطات منح الجنسية شارحاً ما حصل، فقالوا بالحرف:
ـ لا تجزع أخ حسان، لدينا صور أقمار صناعية لتسلقك البنايتين، تثبت استحقاقك الجنسية، فنظامنا الإداري مرن ومتسامح ويسعى دائماً للإنصاف والعدالة).

....***....
ما أن انتهى الرئيس من قراءة ما كتبه جدي حتى سارع إلى هاتفه متصلاً بالسكرتاريا:
ـ ضعوا اسم السيد حسان في قائمة الحكومة المزمع تشكيلها رئيساً لمجلس الوزراء.
ـ لكن سيدي الرئيس صدقاً لا أستطيع، سوف أفشل، وظيفة وزير أجدها ثقيلة الوطء عليّ فكيف برئيس كل الوزراء؟ كما أن زوجتي لميس...
ـ لن أقبل أي عذر منك أستاذ حسان، سوريا، الواجب، مصلحة الشعب، تناديك وعليك أن تلبيها.
لا حول ولا قوة إلا بالله، كيف تثني رئيساً عجوزاً عنيداً ركب رأسه؟
سامحيني يا لميس! أي مأزق هذا يا إلهي؟
ـ سيدي، هل أستطيع الاتصال بزوجتي؟
ـ طبعاً، طبعاً، تفضل أستاذ حسان!
ذهبت إلى ردهة مجاورة لمكتب الرئيس، وهناك شرحت بإيجاز ما جرى، فكانت لميس كما عهدتها، منقذتي من المآزق. قالت لي بعد أن عرفت رسوخ إصراري على البقاء في سلمية:
ـ يا فهمان، خبر الرئيس أنك مستحيل تصير رئيس وزراء لأسباب قانونية! ألا تعلم أن الدستور يمنع من يحمل جنسية إضافية لجنسيته السورية من تولي هكذا مهام؟ هل نسيت أنك تحمل الجنسية الألمانية؟
عدت حاملاً قنبلتي القانونية هذه، وألقيتها على مسامع الرئيس بكل ما أوتيت من غبطة، فبهت، ونفرت عيناه حتى كادتا تحطما زجاج نظارته، ثم قال بصوت مكسور خفيض:
ـ معك حق، كما قلت لي في بداية لقائنا، لا بد من إجراء تعديلات على دستورنا.




تعليق



مخلص ونوس

2019-08-31

سرد قريب من القلب، خيال جامح، سوريالية مربوطة بالواقع، وحس ساخر لا يضاهىيعطيك العافية حسان

أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

المتة إن عزت

05-أيلول-2020

قصة مقالة عن أدونيس

23-أيار-2020

ضحكة فلسفية

04-نيسان-2020

هكذا تكلم أبو طشت ـ جزء 6 المرأة التي قتلتها مؤخرتها

21-أيلول-2019

هكذا تكلم أبو طشت ـ الجزء 5 كورنيش الشمس لدعم النقد الأجنبي.

14-أيلول-2019

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow