Alef Logo
يوميات
              

عرفتني ميسون بعد ثوان

وائل السواح

2019-09-28

"من وليد ل.؟"
كان ذلك الاسم الذي كنت أستخدمه في البطاقة المزورة. كان الرجل يقف وراء الكنتوار في الأمن العام على الحدود السورية-اللبنانية، يحمل بطاقتي بيده ويتأمل الوجه. خفق قلبي بعنف، واستشعرت كآبة لسماعي رنة الصوت. لم يكن سؤالا بريئا. والبطاقة كانت رديئة التزوير.
أنا، قلت بصوت لا يشبه صوتي.
"شرف لهون!" قال الرجل الضخم الجثة أصلع الشعر ذو الشاربين الكثّين اللذين يشبهان دغلا. ولم يكن ثمة مجال للمناورة أو الهرب أو التراجع. دخلت إلى داخل الكنتوار، ثم إلى غرفة مكتب مقفلة. نظر إلى رجل يشبه المساعدين الذين سأعرفهم بعد ذلك في السجن. راح الرجل ينظر إلى سحنتي ويتأمل الصورة في الهوية. أخيرا سألني إن كنت أحمل جوازا أو رخصة سوق. لم أكن أحمل واحدة بالطبع. فقال لي: "يا حمار، بدك تزور زور منيح." ثم سألني إن كان معي أحد بالسيارة. أجبت بالنفي، رغم أن منيف وحنان كانا في السيارة. أعطى أوامره إلى العملاق الذي أدخلني الغرفة.
كنا في طريق العودة من بيروت بعد أسبوع أمضيناه في بلدة شحيم في قضاء الشوف بلبنان. لقد عقدنا للتوّ المؤتمر الأول التأسيسي لحزب العمل الشيوعي في ضيافة النائب اللبناني السابق زاهر الخطيب، الذي ألقى في افتتاح المؤتمر كلمة نارية ألهبت أكفّنا ومشاعرنا، أدان فيها النظام الدكتاتوري السوري وسخر من حافظ الأسد، وشجّعنا على مواصلة الكفاح. بعد سنوات سيصبح زاهر الخطيب نفسه أكبر داعية لحافظ الأسد ووريثه في الحكم.
قبل سفري إلى لبنان، مررت إلى بيتنا في حمص، واحتفلت مع أبي وأمي بعيد الفطر، ثم سافرت في اليوم عينه (1/8/1981) إلى دمشق، ومن ثمّ إلى بيروت، ومنها إلى شحيم، لا تزال النسمات المنعشة التي راحت تهبّ علي من نافذة السيارة المفتوحة، ونحن نهرب من حريق بيروت ورطوبتها، مرورا بأجمل البلدات اللبنانية: بعقليــن، عينبـــال، غريفـــة، حصروت، عانــوت، ومرج علي، تنعش ذاكرتي حت اليوم.
ستّة أيام بلياليها أمضيناها في نقاشات حامية مستمرّة. كنا ثلاثة وخمسين رفيقا ورفيقتين اثنت، افترشنا الأرض في شقّة مساحتها مائة متر مربع، نمنا وائتمرنا وأكلنا على الأرض، ولم يكن في الشقة سوى طاولة واحدة وراءها كرسي واحد جلس عليه مدير الجلسة الذي كان يتبدّل من جلسة لأخرى. في اليوم الأخير 6 آب/أغسطس، تمّت انتخابات اللجنة المركزية الجديدة، وفاز فيها خمسة عشر رفيقا. حللت في المركز 16 أنا ورفيق دربي أحمد رزق بنفس العدد من الأصوات. ولأن أحد الرفاق الذين انتخبوا في اللجنة المركزية كان في المعتقل، فقد انضممت إلى اللجنة المركزية، بعد أن تنازل لي أحمد عن المكان، بدون إعادة انتخابات.
في السيارة من بيروت على دمشق، جلسنا، منيف ملحم وحنان وأنا في المقعد الخلفي السيّارة. كانت حنان تجلس بيننا، كما كانت تفعل خلال عام ونصف كاملين في الحياة.
"خلّه ينزل حقيبته وعد به إلى هنا." ثم أضاف:
"إذا تحرك رشّه." لم يرشّني. تحاشيت النظر إلى منيف وحنان وأنزلت حقيبتي ببطء لأتأكد من أنهما قد رأياني، ثم عدّت معه. بعد نصف ساعة، دخل أربعة رجال الغرفة. نظر إلى من بدا زعيمهم وسأل: "هذا هو؟" هز العملاق برأسه، فاقتادني الأربعة إلى السيارة. وبدأت رحلة امتد عشرة أعوام، وانتهت منذ ربع ساعة.
"وين في المشروع؟" سأل السائق.
"الجزيرة الثالثة." قلت
كنت أتنفس الأشياء من حولي كالهواء. وكانت أشجار الزنزلخت على ضفتي طريق الربوة تدلي أغصانها مني كأنها تحمد الله على سلامتي. وسألني الرجل:
"غريب؟"
"لماذا؟"
"خطر ببالي."
قلت: "كنت خارج البلد."
"أين؟ في إسبانية؟"
لا أدري لم اختار إسبانيا، ولكنني أجبت بالإيجاب. " كيف عرفت؟"
أجاب بابتسامة، "لا أعرف. خمّنت."
ضحكت. ومنذ ذاك اليوم أطلق على السجن اسم إسبانيا، تحبّبا. أمضينا ربع ساعة نسأل عن منزل هاني الراهب حتى اهتديت إليه أخيرا. فتحتْ ميسون، زوجة هاني، الباب، مديدة، جميلة، وأليفة. كان ذلك أول امتحان حقيقي لي بالحياة العادية. كان بي فزع شديد ألا تعرفني، وفزع آخر أن تعرفني ولا يعني لها ذلك شيئا. وقفتْ بالباب ثواني، جميلة كما كانت دائما. احتاجت إلى ثوان قبل أن تميّز الرجل الضئيل الواقف أمامها. ثم تغيرت ملامح وجهها من السؤال إلى الوجوم، إلى الدهشة، إلى الابتسامة فالضحكة المطربة الفتاّنة.
"وائل؟؟؟؟"
ما كان أجمل صوتها، وما كان أجمل جرس اسمي وهو يأتي من بين شفتيها. امتدت يداها إلى ذراعي، فأزمتهما بقوة، ألا أفلت منهما، ثم قبلتني ثلاثا. وعادت تتأملني، وتقول: "ادخل. ادخل!" ستظلّ صورة ميسون وهي تفسح في المجال لأدخل صاخبة ضاجّة بالحياة طوال العمر. دخلت. في غرفة الجلوس كان ثمة صبية فاتنة في الرابعة عشرة أو تزيد قليلا.
"ما عرفتها؟ هذه يافا."
يافا. بلحظة واحدة، أدركت هول الأمر. أدركت ماذا تعني عشر سنوات تذهب من حياة الفتى. كانت يافا طفلة جميلة، طالما حملتها على كتفي وأحضرت لها الحلوى والشوكولاتة. الآن هي صبية يافعة، تضج أنوثة وفتنة وسحرا.
"ما بك؟" قالت ميسون ولم تنتظر جوابا. قالت:
"هاني نائم. في الأوقات العادية، يعتبر إيقاظه كفرا. ولكن الآن الأمر مختلف." ودخلت غرفة النوم توقظه. تأملت البيت الجميل المرتب والنظيف كعادة ميسون دائما. ثم رحت أرنو إلى الوجه الجميل الماثل أمامي. من ذلك الوجه، جاءتني الصفعة الثانية:
" عمو. صحيح كنت عشر سنوات في السجن؟"
عمو؟
قال لي أخي فراس في إحدى الزيارات: "عندما تخرج، يجب أن تكون حذرا من كلّ شيء. أنت دخلت في السبعينات وستخرج في التسعينات." كان ذلك صحيحا بالمطلق. وصحيح أيضا أنني دخلت في أواسط العشرينات وخرجت في أواسط الثلاثينات وراحت الصبايا ينادينني عمو.
دخل هاني. النوم في عينيه وشعره غير مسرح بالمشط. وصاح بلهجته الساحلية الأليفة: "العمى، إي والله." أخذني بين ذراعيه بالودّ القديم نفسه، وشعرت بصوته يتهدّج.
تعود علاقتي بهاني الراهب إلى الستينات. كنت في مرحلتي الابتدائية؛ الوقت صيف، وقد أنهيت قراءة مجلة سندباد المصوّرة، ولا يزال الوقت ظهرا والضجر مسيطرا. أصخت السمع لأرى إن كلن الصبية قد خرجوا من قيلولتهم على الحارة ليلعبوا كرة القدم أو لعبة عسكر وحرامية، ولكن الجميع آثروا البقاء في بيوتهم هربا من الحرّ. قربي على الطاولة مجلة ما لأحد إخوتي. أفتحها ضجرا وأتصفّحها. تمرّ عيناي على عنوان "المدينة الفاضلة". لا أدري ما الذي جذبني في العنوان. بدأت اقرأ القصة ويتصبّب مني عرق غزير. لا زلت أذكر القصة ولكن بشيء من الغموض. في مدينة ما يحفر الناس قبورهم في صحن دارهم، انتظارا للموت، وثمّة فتى مثلي، حائر، لا يعرف لماذا يفعلون ذلك. جاء والدي مساء، فسألته: هل حقا بعض الناس يحفرون قبورهم في صحن بيوتهم؟ وأعطيته المجلة. ابتسم الرجل الذي نادرا ما يفعل، وحاول أن يشرح لي شيئا اسمه الرمز في الأدب. بعد ذلك، عرفت هاني أكثر. قرأت له "شرخ في تاريخ طويل" وبعدها "ألف ليلة وليلتان" وفتنت برواية "بلد واحد هو العالم. في بداية السبعينات، عاد هاني من إنكلترا بشهادة دكتوراه نالها من جامعة إكستر وبمعرفة عميقة بآخر تقنيات الأدب العالمي، وبخاصة الإنكليزي والأمريكي. رأيته أول مرّة في مدرّج في كليّة الآداب بجامعة، حيث كان يدرّسني مادّة الترجمة. مرّة، تقدمت منه بعد المحاضرة، وقلت له بصوت متردد بالإنكليزية إنني أكتب القصّة وأتمنى أن يعطيني رأيه بواحدة منها.
"later on, later on!" أجابني ومضى غير عابئ.
بعد سنوات، سأروي له الحادثة، وسيعلّق بغضب مصطنع، "معقول؟ أنا فعلت ذلك؟" في عام 1977 نشرتُ في جريدة الثورة دراسة لواحدة من قصصه القصيرة على امتداد صفحة كاملة. طًرِب هاني لدراستي، وسأل عني أخي سحبان: "بتعرف واحد اسمه وائل السوّاح." حين عرف أنني أخوه، طلب منه أن يعرّفني إليه. التقينا في مقهى الروضة، ووقعت في غرامه مباشرة.
سأكون مقربا من هاني وميسون حتى اعتقالي، وسأجد لديهما في أي وقت لقمة دافئة كلّما عضّني جوع، وجوّا حميما كلّما أحسست بحزن أو كآبة. وكان يلذّ لي خاصذة أن يتسأنس برأيي في كتاباته، فبعد نصي النقدي لقصّته، أطلق عليّ لقب "أحسن ناقد في سوريا." وحين كتب الوباء أعطاني المخطوط لأقرأه، فانتابتني رعشة من السموّ، ووجع من المسؤولية. كان يجد فيذ قارئا لم أكن أجده في نفسي. وحين نشطت الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين في عمليات اغتيالات، التقيت به في مقهى الروضة. جلسنا نتحدّث في الأوضاع الأخيرة. ولفت انتباهي ثلاثة شبّان يتحلّقون حول طاولة قريبة جدا، يتأملوننا بتمعن، وشيء يشبه الوقاحة. شعرت بالتوتّر، فقد كنت ملاحقا.
"خلّنا نمشِ،" قلت لهاني.
"لماذا؟" سألني باستغراب.
"لا تنظر فورا، ولكن الشباب الذين يجلسون على الطاولة المجاورة لا يروقون لي." قلت بصوت منخفض، محاذرا أن يسمعوا ما أقول. فأغرب هاني بضحكته المجلجلة، وقال لي: "لا يهمك. هدول معي!." كانت السلطة قد فرزت لكل أساتذة الجامعة العلويين مرافقة أمنية خوف الاغتيالات الي كانت تستهدفهم. نظرت إليه بدهشة. وفكّرت ماذا لو ميّزوني؟
قدّم لي هاني التلفون لأتصل بأخي فراس. مددت أصابعي أبحث عن قرص التلفون، فوجدتني أفاجأ بجهاز أبيض فيه أزرار عديدة. أزرار بأرقام وأزرار برموز غريبة ليس لها علاقة بتلفون القرص الذي عرفته قبل الغياب. وجِلت، وسحبت يدي، ألا اضغط على زر فأخرب الجهاز. وإيثارا للسلامة، طلبت من هاني أن يكلم فراس بنفسه. ضحك، وأخذ السماعة وتحدث مع فراس، ثم وضع السماعة وهو يغرب في ضحكة مجلجلة. قال له فراس:" شو عم يعمل وائل عندك."
وجاء فراس ليصحبني إلى بيته القريب من بيت هاني. قبل أخرج اصرّ هاني أن آخذ مبلغا من المال، وضعته في جيبي، ومشيت مع فراس ونحن نحمل حقيبتي من طرفيها ونلوّح بها إلى الأمام وإلى الخلف، ونتجاذب طرفي الحديث كأننا كنا مساء الأمس معا نحتسي البيرة في سناك أمية. ذاك هو فراس.
***
تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

عقلية الدكّنجي .. أو ذهنية المعارضة السورية

17-نيسان-2021

من المعارضة السورية إلى الرئيس بايدن

10-نيسان-2021

مآلات حزب العمل الشيوعي في سوريا

13-آذار-2021

ذاكرة مدينة: العرضحلجي

27-شباط-2021

ماذا لو عاد أنس العبدة ونصر الحريري إلى دمشق؟

30-كانون الثاني-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow