Alef Logo
ضفـاف
              

ذاكرة مدينة: العرضحلجي

وائل السواح

خاص ألف

2021-02-27

لا يذكر الصغير كيف ومتى تعرّف على عالم العرضحلجية، ولكنه يذكر أنه كان صديقا صغيرا لأهم كاتب عرائض في حمص، وهو عبد الرحيم الشيخ عثمان، وكان كثيرا ما يتوقّف عند الطاولة الصغيرة الموضوعة بإتقان عند الباب الشرقي للسرايا، فينسى نفسه وهو يستمع إلى العرضحلجي وهو يحكي له قصصا وبطولات غريبة عن حمص التي لم يعرفها.

كان عبد الرحيم نحيلا أميل إلى البياض بعينين ملوّنتين ذكيّتين، يرتدي على الأرجح بدلة سفاري من الخاكي، ويجلس وراء طاولته الصغيرة التي تظلّها مظلّة صغيرة تقيه بعض حرّ الشمس صيفا، وبعض المطر شتاء، ولكنها لا تمنعهما عنه كليا. وكان الصغير يعجب بخطه الأنيق الجميل وهو يدبّج العرائض لطالبي الخدمات الحكومية. وحين لا يكون عنده زبون كان يحكي للصغير عن عوالم ساحرة تأسر خياله.

لم تكن مهنة العرضحلجي سهلة. كان يجلس على كرسي صغير وراء طاولة صغيرة يصطاد زبونا يريد استخراج هوية أو إخراج قيد أو تثبيت زواج أو تطليق امرأته، فيمدّ يده المعروقة بأناقة ومهارة داخل حافظة أوراق، فيخرج منها الورقة المناسبة، ويبدأ يكتب بانسياب وسلاسة بقلم حبر أسود من نوع "تروبن"، كان الصبي يحلم أن يكون لديه واحد منه حين يكبر.

وإلى يمين عبد الرحيم ويساره، ينتشر العرضحلجية الآخرون، أقدمهم يجلس قرب الباب الرئيسي للسرايا ويرمى بأحدثهم بعيدا عن الباب، في آخر الطابور. وبديهي أن العرضحلجي القريب من الباب يحصل على زبائن أكثر، بينما ينتظر العرضحلجي المرمي بعيدا زبونا تائها فيصطاده، ويسوقه إلى طاولته ليكتب له المعروض. أحد هؤلاء يئس من كتابة المعاريض فلجأ إلى كتابة الرسائل الغرامية، وصار العشّاق الذين لا يعرفون الكتابة يقصدونه ليكتب رسائل الهوى لحبيباتهم، اللواتي ربما لم يكن يعرفن القراءة.

قبل أن يصبح عرضحلجيا، كان عبد الرحيم شرطيا سريا في مباحث المدينة، وعمل فترة ن الزمن تحت إمرة رئيس المباحث الأسطوري أبو شمسو الزين. وحين لم يكن عبد الرحيم يكتب العرائض، كان يحكي للصغير مغامرات أبو شمسو مع لصوص المدينة، وكيف كان يصل إليهم ويقبض عليهم بذكاء ثاقب، وغالبا دون أن يضربهم ويعذبهم، كما كان يفعل آخرون. شهد الصبي أبو شمسو في أواخر أيامه. كان ضخم الجثة أبيض البشرة بياضا ضاربا للحمرة، بشاربين كثيفين كشاربي ستالين ولكنهما بنيّان، يعتمر طربوشا عثمانيا أحمر يميله جانب، ويبدو من تحته سالفان أشقرن شقرة تميل إلى الحمرة، ولعلّها حمرة صباغ الشعر. وحين كان الرجل يمرّ في شوارع المدينة، بجثّته الضخمة ووجهه الأبيض الجميل وطربوشه المائل، كان يثير مزيجا من الرهبة والمحبة والانبهار.

ولكن حكايات عبد الرحيم لم تقف عند أبو شمسو ومرجلته، بل كان يرجع إلى زمن أسبق، ويروي للصغير حكايات كان قد سمعها هو نفسه من أبيه عن رجال كانوا يقعون في حيّز فاصل بين الواقع والحكاية، بينهم الثائران الحمصيان الأكثر شهرة ضدّ الانتداب الفرنسي: نظير النشيواتي وخيرو الشهلة.

كان نظير النشيواتي من حي باب الدريب الشعبي، وقد بزغ نجمه كقائد لانتفاضة حمص ضدّ الفرنسيين التي أعقبت الثورة السورية الكبرى، وفي عام 1929، كما يروي عبد الرحيم للصغير، دعي نظير النشيواتي وبعض الثوّار للغداء عند رجل موسر من قرية خربة غازي غربي المدينة، ولكن الرجل وضع المخدر في الطعام، فما كاد الرجال العشرة يزدردونه حتى قلبوا نياما، ولم يستفيقوا إلا وهم محاصرون من قبل رجال الجيش الفرنسي. كبل الفرنسيون الرجل بحبال وأثخنوهم ضربا قبل أن يطلقوا عليهم الرصاص، وتركوهم مضرّحيين بدمائهم من العصر إلى صباح اليوم التالي. وحين عادوا لم يكن نظير بين القتلى. خفّض عبد الرحيم صوته وهو يروي كيف أفاق نظير في منتصف الليل ووجد نفسه موثوقا وأصحابه قتلى، فجعل يزحف ويقلب ويتحرك، حتى ابتعد، واختبأ في أحد الخنادق الزراعية. في الصباح مرّت به امرأة كانت تجمع الخبيزة والهندبة وحشائش الربيع. خافت المرأة حين رأته وأرادت الهرب، ولكنه رجاها أن تفكّ وثاقه وتخبر أهله، الذين جاؤوا، فيما بعد، ونقلوه فعالجوه وعاش وتابع جهاده.

"أتعرف كيف مات لاحقا؟" سأل عبد الرحيم الصغير بصوت فيه تشويق، فهز الصبي رأسه. "تشاجر مع صديق له، فضربه الصديق بزجاجة فارغة، فقتله. تخيل أصيب بعشر طلقات ولم يمت، ثم مات بزجاجة فارغة." وصمت لحظة، قبل أن يسأل: "أتريد أن تعرف حكاية صديقه خيرو الشهلة؟" هز الصبي رأسه بحماس، ولكن زبونا جاء فقطع على الصغير سرد الحكاية.

كان الصبي يحب الوقوف بجانب عبد الرحيم، يسمع أقاصيصه، ويسمع حكايات الرجال (وأحيانا النساء) الذين كانوا يأتون إليه بحكاياتهم، خلاف على إرث أو ضياع هوية في حادث، أو سرقة، أو قتل. كان العرضحلجي المقصد الأول لبسطاء المدينة الذين يريدون الحصول عل حقّ من حقوقهم، في الحالات البسيطة، كان عبد الرحيم يكتب لهم المعروض ويدلّهم على مكتب الموظّف المختص، أما في الحالات المعقّدة، فكان ينصحهم بالقول: "هاي بدها محامي"، وغالبا ما كان الرجل القادم من قرية مجاورة أو من حي بعيد يشعر بالرعب والخذلان، ويحاول أن يقنع عبد الرحيم بأنه "قدّها وقدود"، ولكن الرجل لم يكن يسمح لنفسه بتجاوز حدود استطاعته.

لم يستطع الصغير النوم ليلا على الفور كعادته. كان شبح نظير النشيواتي يطلّ عليه بين وهلة وأخرى وهو يجرّ جسده الموثوق والمثقوب بالرصاص، وتخيّل رعب المرأة التي كانت تجمع الحشائش وقد عثرت عليه، ثمّ تذكر رفيق النشيواتي، خيرو الشهلة، وأراد بشدّة أن يعرف حكايته، فبادر في اليوم التالي إلى الذهاب إلى عبد الرحيم، وطلب إليه إكمال الحكاية. فابتسم الرجل وفعل. لم يكن خيرو الشهلة ثائرا، ولكن الفرنسيين قتلوا أخاه، فقرر الانتقام له، بقتل متصرّف حمص، فوزي الملكي. راقب خيرو حركات المتصرّف، وعرف أنه يمرّ يوميا من أمام مقهى "السقاية" في حي جورة الشياح، في طريقه من بيته إلى مكتبه. في يوم شتوي بارد، ولم تكن الشمس قد امتلكت الأرض بعد، كان خيرو يدخّن النارجيلة في مقهى السقاية ويرقب مرور المتصرّف. وها هو الرجل يمرّ من أمام المقهى، مترجلا على قدميه، بدون حماية، فترك خيرو نارجيلته، وسار وراءه حتى انفرد به فطعنه بخنجر كان يخبئه في ملابسه، ثمّ فرّ إلى الثوّار في باب الدريب. شنّت السلطات الفرنسية حملة تفتيش عن خيرو، تريده حيا أو ميتا. وبالفعل، كان يجلس عند صديق له، عندما أحاط العسكر الفرنسيون بالبيت، واقتحموه، وبحثوا عنه في كلّ مكان دون أن يجدوه.

"بتعرف ليش؟" سأل عبد الرحيم الصبيَّ.

"ليش؟"

"الصديق القبضاي أدخله في غرفة حريمه والبسه ملابس زوجته، ولم يكن الفرنسيون يجسرون على تفتيش غرف النساء، فخرجوا محبطين."

حين سيكبر الصغير ويعمل في السياسة، ثم يحبس مع آلاف من السوريين، سيسمع بقصص مخيفة عن اقتحام رجال الأمن السوريين بيوت الناس ولا يكتفون بتفتيش النساء ولكنهم يأخذونهنّ رهائن، ويغتصبوهنّ ويحبسونهنّ سنوات بلا أي ذنب اقترفنه، سوى أنهن أمّهات أو بنات أو زوجات أحد المطلوبين السياسيين. وحين سيكبر أيضا، سيقرأ كثيرا عن قصص مشابهة لقصة خيرو الشهلة، إلى حدّ أنه لم يعد واثقا من أن الحكاية قد وقعت بالفعل، أم أنها جزء من فولكلور شعبي، تخلقه الشعوب لنفسها، لتصنع أبطالا وبطولات، ترتفع بخيالها وتخلق عالما من المثل العليا والأخلاق السامية التي ربما وجِدت فعلا على الأرض، وربما لا.


















تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

عقلية الدكّنجي .. أو ذهنية المعارضة السورية

17-نيسان-2021

من المعارضة السورية إلى الرئيس بايدن

10-نيسان-2021

مآلات حزب العمل الشيوعي في سوريا

13-آذار-2021

ذاكرة مدينة: العرضحلجي

27-شباط-2021

ماذا لو عاد أنس العبدة ونصر الحريري إلى دمشق؟

30-كانون الثاني-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow