Alef Logo
ابداعات
              

كونشيرتو الوريد الناضح

شذى الطائي

خاص ألف

2019-09-14

تعرفت على هناء في صالة الولادة أو بالأحرى تعرفت على أمها شريفة أولاً، وهي امرأة كبيرة في السن، دمثة الخلق، كنت حينها أرافق أختي في ولادتها الأولى بالنيابة عن أمي كوني الوحيدة الأقرب إليها هنا في العاصمة حتى تصل أمي من البلد.

أما هناء فهي فتاة في النصف الأخير من عقدها الثالث، كانت تلد طفلها الثالث الذي عارض الجميع فكرة حملها به كما علمت لاحقاً منها، فهناء مصابة بالأنيميا المنجلية، بالإضافة إلى كونها أم لطفلين شقيين كالقطط السيامية الشاردة، ولكن هناء كان لها رأي مغاير، كانت تقول أنها تريد أن تنجب مازالت قادرة على الإنجاب لتجد من يعتني بها لاحقا!

لكن الأمر مازال غريباً بالنسبة لي، فما الذي يجعل هناء تصر على الإنجاب مع علمها التام بصعوبة الأمر وخطورته عليها؟!

أحببت شخص هناء فهي لم تترك المجال إلا أن تحبها، وأمها اللطيفة، أذكر أنها أتت إلى غرفة أختي في المستشفى حاملة معها سلة بلح (الخنيزي) رغم علمنا بحالة ابنتها الحرجة، إقترحت على أمي أن نزور ابنتها، من باب رد المجاملة، وهناك رأيت هناء ممددة على سريرها، تكاد أن تكون غائبة عن الوعي تماماً، كمومياء يغطيها شرشف أبيض، ولفيف من عائلتها يقفون حولها مكبلين، كسحرة معبد الشمس، رأيت جسدها النحيل حين كنت حاملاً في الشهر السابع بوحيدي فراس، كنت في مطلع العشرينيات شابة نحيلة وغضة ومع بطني المتكورة أمامي لم يكن أحد ليلاحظ حملي، خصوصا أني كنت ارتدي ملابساً فضفاضة، وغالباً ما يظن من يراني أني فتاة شرهة بمعدة متهدلة ، وأني لأذكر علامات الاستنكار التي وجهتها رغد إبنة اختي الصغيرة، حين كان يخبرها الآخرون أن ثمة طفل يختبىء في أحشائي، لا ألومها فأنا الآن حين انظر إليه وقد أصبحت قامته أطول مني، لا أزال غير قادرة على استيعاب ذلك، فكيف لجسد كجسد هناء أن يخوض تجربة الولادة ثلاث مرات على التوالي؟!

ألتقينا من باب المجاملة عدة مرات، وأصبحت علاقتنا قريبة وقوية بدرجة مكنتني من فهم أن هناء تمشي على مبدأ أرنب سعيد افضل من من أسد حزين، فحين ألتقت بسعد زميلها الذي وقعت أسيرته من اللحظة الأولى، إما لأنها احبته فعلا أو لأنها وجدت فيه كل ما افتقدته في نفسها، لربما وجدت في عضلاته المفتولة القوة التي غادرت جسدها الذي نخره المرض، و في اقباله على الحياة اللحظات التي هربت منها، سعد بوسامته الجلية وهناء بشخصيتها الآسرة ، وكأي مخلوق فاني وقابل للعفن شعور واحد فقط باستطاعته أن يجعلها تشعر بأنها خالدة ولاتقهر، شعور يغمرها من قمة رأسها حتى اخمص قدماها، ويشعرها بأنها مطالبة بالحياة من أقصاها لأقصاها، أن تدور على نفسها و تمشي حافية و تتسول كل ومضة سعادة تخشى ان تنطفىء دون أن تشعر بها! لم تكن لتسمح لمظهرها المتواضع وصحتها المتداعية أن يكونا نقطة إنكسار، على العكس حرصت أن تبرز نفسها في كل شيء استطاعت إليه سبيلا ، كانت متوقدة، ولم تسمح لأحد أن ينظر إليها بنظرة شفقة حتى وإن بينه وبين نفسه، فالشفقة كانت أثقل على نفسها من أي ضغينة قد تضمر لها ! كيف لا ، أليست الشفقة رقة الخوف؟ فكيف يقبل بالخوف من كانت القوة فضيلته؟!

فتن سعد بسطوة هناء، فهي لم تترك له المجال ليشعر بأنها هي المريضة، حتى أتت محمولة إليه بعرس من الخفقات، مبللة بعطره، تترسب كغرين أمامه، تنبت كجويرِّية، وتسكب قلبها في قلبه، خفقاتها سرب طيور عمياء، تركت الارض قاطبة وحطت عند جفنا سعد، الذي حين يطلق لحيته يخيل لها أنها حفنة سواسن متعانقة بحنان وتتنفس عطراً !

لم يعلم سعد بأن الكابوس الرابض على حياة هذه المرأة ليس بالأمر الهين، وتعامل معه على أنه شيء عرضي، بوسع إمرأته الحديدية تجاوزه، فالأمور من بعيد ليس كما تبدو حينما نتعايش معها، هناء لم تكن مخيرة في أن تصبح قوية، فحين تنشأ طفلة مريضة بنوع من فقر الدم الحاد لأبوين كهلين وبسيطين، مع تسعة من الأخوة والأخوات، يصبح ترفاً أن يصبح مرضها هو شغلهم الشاغل، وهناء بطبيعتها لاترغب أن تكون عبئأ إضافيا على عائلتها المتواضعة، كان من البديهي أن تجد وسيلة للتعايش بها مع معاناتها هذه، معاناة هناء لم تكن في المرض ولكن في سعد الذي يزداد فتوره، هناء لم تكن بحاجة إلى المورفين في أشد نوبات الألم بقدر حاجتها إلى الشريك الذي كان يتلاشا وجوده شيئاً فشيئا بحجة أنه لايحب أن يراها وهي واهنة، حتى أصبح يمتهن الغياب ، وأصبحت هي تعتاد على الأقل ظاهرياً على ذلك !

هل الانجاب بالنسبة لهناء، وهي تتدلى كجندبة من ياقة رجل يصم حواسها بالتيه، هو رغبة بالاحتجاب والإحتماء بلقب الأم كي لاتفضح هشاشتها أمام هذا العالم القاسي، وأم هي طريقة لجعل هذا الرجل، الذي يعد كل شيء صامت وجامد فيه، ليكون حاضرا ًفي حياتها أو من يدري لعلها تفعلها لتكون هي حاضرة في حياته ؟!
هناء يا هناء!

تنهلين من جثة ذاك الحب كرضيع يأمن حلاوة ثديي أمه المتوفاة، لازلتي معلقة بذيله!
وها أنت وراءه كطفل هرم يركض خلف خيول القمر الفضية التي لا وجود لها، تحملين دلو أحلامك خفية خشية أن يقلبه لك.

هناء، ببشرتها المتصبغة و الشاحبة وجسدها النحيف وحاجباها الملتصقان وجسدها خائر القوى وعنق مائل يتعلق عليه ثلاثة صغار، تصر على أسنانها وتطلق لعناتها على هذا العالم العاتي الذي تجري فيه بلا هوادة، هي التي يجري كل شيء خلفها، تجري .. وكلها أمل أن يضع أحدهم قدمه أمامها للتعثر بها قبل أن ينتهي بها الأمر في هاوية لم تختارها ..
تعليق



جواهر الجويهر

2019-12-17

اسلوبك اكثر من ممتع في سرد القصه.. أعجز عن التعبير... مبدعه و ابدعتي و انتظر ابداعاتك القادمه...

أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

كلب آخر

14-تشرين الثاني-2020

كونشيرتو الوريد الناضح

14-أيلول-2019

القرط والكارديغان...من بلغراد إلى مسقط

20-نيسان-2019

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow