Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

سبات طويل/ هيلاري مانتيل ترجمة:

صالح الرزوق

2019-09-21

يتحاشى أبو طشت النايلون، ويمقت كل أنواع اللدائن، ويغضب من اللزوجة، حتى إذا ما أراد أحدٌ طرده، مللاً منه، وتأففاً من أحاديثه، لم يكن عليه إلا التلويح له بأي شيء بلاستيكي.

حتى الأكياس التي يضع بها أشياء يجمعها من الناس كانت ورقية، وأول ما يبادرك به حين تتحدث عن زوجتك، أو ابنتك: انصحها بالابتعاد عن النايلون! أنا لا أستطيع مساعدتها إن حلت الكارثة.

مفهوم الكارثة لديه مختلفٌ عن مثيله لدينا، فما تعتبره أنت مجرد حادثة ربما يكون عنده كارثة، وأكثر من مرة حصل أن أذكر أمامه شيئاً عن حادث سيارة فينتفض مصححاً طالباً مني تسميته مصيبة، مسترسلاً بطرح أسئلة عن وجود سيدات بين المصابين، واسم المشفى الذي يتولى علاجهن، واختصاصات الأطباء الذين يباشرون مهمة إسعافهن.

لا يمكن أن يكون أبو طشت شهوانياً، فهو بالغ التهذيب مع النساء، يكف بصره متى لاحت سيدةٌ أو فتاة، ثم إذا ما تجاوزته إحداهنّ أمعن النظر بمؤخرتها، فتحسب ناراً تنبعث من نظراته باتجاهها. كنت أحسب الأمر مجرد عادة أملاها عليه جنونه، ولم أدرك سببها إلا حين كاد تحديقه بمؤخرة سيدة يودي بحياته ضرباً على يد زوجها.

صرعه الزوج الثائر، الغاضب، وأوسعه ضرباً عاصفاً، لكماً ورفساً وصفعاً، حتى أدماه، دون أن يرد إلا بعبارة واحدة ظل يرددها:

ـ اكتب على مؤخرة زوجتك أنها غير حقيقية كي لا تموت.

تلك الجملة، كانت كلما وقعت على مسامع الزوج الساخط تزيد نار حنقه استعاراً، فتلسع جسد أبي طشت، وتلدغ مسامع المتحلقين حول الحلبة بأشنع لعن وأقبح الشتائم.

كنت بعيداً عن مسرح ثأر الزوج لكرامته، ولم أعرف بالمشكلة إلا عندما اقتربت من الحشد الذي اجتمع مراقباً موقعة الشرف تلك، فأمسكت يديه بما ملكت من قوة، مستنجداً ببعض المتفرجين الذين هرع منهم اثنان لمؤازرتي.

ـ يا رجل، هل يعقل أن تضرب مجنوناً، درويشاً؟!

انفض الجمهور، فأنهضت أبا طشت وطلبت منه مرافقتي إلى منزلي القريب كي أنظف جراحه، وأزيل بعض ما ألقى الزوج الغيور في روعه.

هممت مضمداً جرحاً في ساعده، فطلب مني التوقف والاتصال بالدكتور عامر كي يوافيه مصطحباً معه إبرة كزاز، مؤكداً ضرورة ألا أثق إلا به، مهدداً برفض أية مساعدة يتلقاها إن أتته من شخص آخر، وكي يظهر تمسكه بحصرية قبول العلاج من عامر قال متضرعاً:
ـ بحياة كل من تحب، لا تدع أحداً غير عامر يعطيني الإبرة، إبرة الكزاز خطيرة، وهو الوحيد الذي يبرع في زرقها.

أثناء تفحصه الجروح والرضوض ما برح "عامر" يتحدث مع أبي طشت عن قسوة البشر، وغبائهم، طالباً منه الصفح عمن ضربه، مسوغاً وجهة نظره بجهل الناس حقيقة دوافعه، ونبل مقاصده.

ـ هذه إبرة الكزاز يا صديقي، أعطيتك إياها. الآن عليك أن تنام، وتنسى ما حدث لك.

أذعن أبو طشت لطلب صديقه، واستكان غرقاً في نوم عميق، وبدأ بالشخير.

فسر لي الطبيب:

ـ أعطيته مهدئاً. لا أستطيع تحديد المدة التي يستغرقها نومه، لأن جسده يختلف عن أجسادنا، بسبب كثرة الأدوية النفسية التي أخذها في العصفورية.

لم أرغب أن يغادر الدكتور عامر هكذا، دون أن يجيب على استفسارات ألحت علي، فوافق على عرضي بالبقاء واحتساء فنجان قهوة، بعد أن أظهرت شغفي لمعرفة بعض الجوانب المتعلقة بأبي طشت؛ ويبدو أنه بسبب علاقته الخاصة به، وحبه العميق له، رأى أن لا ضير من إخبار شخص مثلي، رؤوف بصديقه، ما يعرفه من معلومات تعينني في حمايته، والعناية به.

الدكتور عامر زميل لأبي طشت في المشفى الذي عملا به سوياً، ذاك باختصاصه في الجراحة، وعامر في التخدير والإنعاش، وفي الفترة التي سبقت مغادرة زميله الجراح عالم العاقلين تعمقت علاقتهما، وأضحت لقاءاتهما خارج أوقات العمل شبه يومية، وهذا بقي محفوراً في ذاكرة أبي طشت بعد جنونه، بدلالة طلبه عدم الاتصال بأي شخص آخر غير عامر، الذي استهل حديثه عن صديقه الغارق في لجة النوم بشكري على ما فعلته له.

بدأ قصته بالهاتف الذي تلقاه من رئيس قسم الإسعاف، يطلب فيه حضوره فوراً، لأن سيدةً صدمتها سيارة مسرعة تحتاج جهوده، وأخبره أنه استدعى أبا طشت أيضاً لإجراء جراحة عاجلة لها، تقرر مصيرها وبقاءها حيةً من عدمه.

ـ كانت مصابةً بتهتك كبير في عظام ساقيها، وكسور في قفصها الصدري، وترافق ذلك بنزف شديد، جعل من أمر الجراحة الفورية ضرورة قصوى، وأبو طشت بارعٌ في مواجهة هذه المواقف، وثقتنا كلنا به لم تأت من فراغ، فقد رأيناه أكثر من مرة يقوم بمآثر جراحية حقيقية، وفي بعض الحالات الميئوس منها لم يأخذه القنوط، وبرهن أن زمن المعجزات لم ينقضي، إلا أنه مع هذه السيدة فشل، وأصابه بعد موتها إحباطٌ شديد استمر طويلاً، وما انفك يتذكرها ضارباً كفاً بكف، زافراً بحسرة وندم.

أنهى الدكتور عامر مقدمته هذه، ونظر باتجاه صديقه ساهماً، ثم استدرك:

ـ حالتها على رغم سوئها لم تكن صعبة بالنسبة لأبي طشت. كنا واثقين بنسبة ألف إلى مئة بقدرته على إنقاذها، لكن الأمر خرج عن توقعاتنا، وحدث ما لم يكن بحسبان أي منا.

ـ هل فشلت العملية؟

ابتسم ساخراً، وقال: عملية؟! كانت عمليات، نجحت كلها، لكن المريضة في النهاية ماتت لسبب تافه لا يخطر على بال، ماتت بسبب الكزاز.

ـ الكزاز؟ كيف ذلك، وأول إجراء يعرفه الجميع، حتى غير المختصين، هو إعطاء أدوية الكزاز للجرح؟ هل نسي أحدهم في قسم الإسعاف ذلك؟

ـ لا، لم ينس أحدٌ ذلك، لكن ما جرى صدفة غريبة، لو سمعتها من أحدهم ما صدقته.

ضحك الدكتور عامر، وذكرني بالقهوة التي دعوته لشربها، متسائلاً إن كنت تراجعت عن دعوتي، فاعتذرت عن غفلتي وانشغالي بما يرويه، وقمت من فوري إلى المطبخ ملتمساً السرعة في إعداد القهوة كي أعود إلى محدثي وقصته التي تنبهت إلى لزوم سؤاله عن اختياره لها دون غيرها للحديث عن صديقنا السابح في ملكوت النوم متمدداً على أريكة سوف تسألني زوجتي حين تراها عن مصدر بقع الدماء التي لطختها.

ـ لماذا تضحك؟

سألني الدكتور عامر حين رأى ابتسامة خفيفة على وجهي أثناء تقديمي القهوة.

شرحت له ما تخيلته من سلوك لزوجتي إن أتت ورأت الأريكة على حالها التي يراها، ورائحة الأدوية والمعقمات تعبق بالمكان، وأبو طشت مستلقياً عليها بكامل هيئته الجنونية التي لطالما نفرت منها.

أجابني بثقة:

ـ غالباً لن يستيقظ قبل وصول زوجتك، عليك منذ الآن تحضير دفاعك في محكمتها.

هي تشفق عليه، ولا تمقته، وتتعاطف معه، وحين يأتي ذكره اعتادت التساؤل عن سر كرهه للنايلون، واستنكار تحديقه المستمر بصدرها إن لاقته في الشارع، ومراقبة مؤخرة أية سيدة تعبر أمامه.

مكث الدكتور عامر زهاء نصف ساعة، شرب خلالها قهوته، وأكمل قصته، ثم غادر إلى منزله لأن موعد اجتماعه مع أسرته حول مائدة الغداء قد أزف، وبقيت وحدي رفقة شخير منتظم الإيقاع، كان الدليل الوحيد على أن ذلك الجسد المستلقي قبالتي ليس جثة.

ـ حسنٌ، وماذا أخبرك الدكتور عامر أيضاً؟

كما توقعت، فطباع زوجتي أعرفها، لن تتوقف عن إلقاء أسئلتها قبل إخماد فضولها، وسوف ترفض تأجيل جلاء حقيقة وأسباب حلول ضيفنا النائم علينا إلى ما بعد الغداء، وهي محقة في ذلك، إذ لو كنت مكانها، ودلفت إلى منزلي، ورأيت ما رأت، سأفعل ما تفعل، إن لم يكن أكثر.

ـ قال الدكتور عامر، أن السيدة التي أجرى لها أبو طشت العمليات بدأت تظهر عليها أعراض الكزاز بعد عشرة أيام: تصلب في عضلات الرقبة والفك، حمى، صعوبة في التنفس. ولأن إصاباتها كانت بالغة لم يساعدها جسدها على تحمل مضاعفات ذلك. أكد المسعفون أنهم لحظة وصولها حجرة الإسعاف أعطوها إبرة الكزاز، ولم يعرف أبو طشت سبب رفض جسدها الاستجابة للدواء.

ـ قد يكون فاسداً!

ـ لا، فقد تبين أن المسعفين أعطوها الإبرة في العضل، في مؤخرتها، وهم غير مدركين أنهم كانوا يحقنون السيليكون الذي وضعته السيدة في تلك المنطقة في عملية تجميلية أجرتها قبل سنتنين من إصابتها بالحادث، وحسبما شرح لي الدكتور عامر، أن أهم ما يُـنصح به بعد إجراء هذه العملية هو الحرص على عدم إصابة المؤخرة بأية جروح، وتنبيه أي طبيب عند زرقه الإبر أن يفعل ذلك في منطقة أخرى، لأنه لو فعل، سوف يمتص السيليكون الدواء بدل أن يتشربه الجسد.

بهتت زوجتي مما قلت، وبلغ منها العجب أن تلعثمت:

ـ ولماذا لم تخبر السيدة مسعفيها بالوضع الخاص لمؤخرتها؟!

ـ وكيف تخبرهم وقد فقدت الوعي بعد أن دهستها السيارة؟

ـ آه...آه...صحيح، معك حق، لكن، لا يعقل ألا يكون ثمة حل لمثل هكذا حالات.

نطقت جملتها الأخيرة، واحتبست عن الكلام، مدحرجةً نظراتها نحو أبي طشت، ثم حركت عنقها يمنة ويسرة لتخفي ارتباكها، وتغالب انفجار دمع تجمع في مقلتيها، ولم تملك إلا أن هبت باتجاهه تتفقد جروحه، وما هي إلا برهة حتى بدأت أطراف ضيفنا تتحرك منبئة بقرب استيقاظه، فطلبت مني زوجتي الإتيان بماء توسل تلمظ شفتيه طلباً له.

تحلقنا حوله، وعندما استقامت جلسته ناولته كأس الماء، فالتقطه بيده المرتعشة، وقد تحولت نظراته سفناً ترسو على صدر زوجتي. لم تكن نظرات نسر للسفوح، وعيونه لم تذبل ذلك الذبول الذي تلمحه في وجوه عشاق أضناهم الوجد فأسكرتهم الصبابة. كان قد ضيّق حدقتي عينيه كما يفعل عالم يهمّ بوضعهما على فوهة مجهر، كانت عينيّ اختصاصي بارع، حاذق، تقولان لك أنه من فرط تمرسه قادرٌ على إنجاز مهمتين في ذات اللحظة: ارتشاف كأس ماء، والكشف عن السيليكون في صدر زوجتك.

في جنازة أبي طشت سألني الدكتور عامر عما جرى بعد مغادرته، وكيف تعاملت زوجتي مع ضيفها الطارئ "أبو عيون جريئة" فأخبرته عن الحل الذي اقترحه يومها لصاحبات المؤخرات السيليكونية إن فقدن وعيهن وقدرتهن على تنبيه المسعفين ضرورة زرقهن الإبر في مكان آخر غير مؤخراتهن. اقتراحه كان بسيطاً، غير مكلف، تنفيذه سهل، إذ ماذا تخسر الواحدة منهن لو كتبت على مؤخرتها ذاك التحذير؟ وحسبما أردف أبو طشت: عجباً! قلة أقلام لدينا؟ لماذا اخترعوا الأقلام إذن؟!













































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow