Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

المزاعم الإنسانية /سميث آلي

صالح الرزوق

خاص ألف

2019-11-23

كنت أخطط لكتابة هذه القصة عن رماد د. هـ. لورنس. لكن لم أعرف ماذا حصل له بعد موته. والآن بعد أن عرفت - على الأقل، إذا صدقت مزاعم السيرة التي قرأتها - لم يعد من الممكن أن أطردها من رأسي. في القطار خلال العودة إلى البيت ليلا، ومع أنه مر شهران على الانتهاء من القراءة، أخرجت دفتر ملاحظاتي من حقيبتي، وسجلت بعض الملاحظات عن الموضوع وعن أمور إضافية أيضا تقول السيرة إنها حصلت للورنس. مثلا، كان يمر من مسرح أو متحف فني في لندن أثناء الحرب العالمية الأولى، وبدأ الناس يضحكون من لحيته. فقد كانت تميزه عمن سواه، وكان يبدو بها مثل شخص متهاون علنا، أو متمرد، وربما غير مسجل في السجلات أو حتى أنه رافض عن عمد لكل شيء. ثم إن الكوخ الذي قطن به في بعض سنوات الحرب كان هدفا للتفتيش. فقد فتشه موظفو مكتب الداخلية، أو جهة عسكرية مخولة بذلك، وصادروا منه بعض الرسائل باللغة الألمانية (كانت زوجته فريدا على علاقة بالجيش الألماني). وكذلك نسخة من أغنية هيبريدية (1)، ظنا منهم أنها شفرة متفق عليها. ويزعم كاتب السيرة أن بعض اللوحات التي رسمها لورنس لسيقان نباتات، كانت برأي لجنة التفتيش خرائط سرية.

كنت أعتقد أنني أعرف الكثير عن حقائق حياة لورنس. قرأته منذ كنت بعمر ستة عشر عاما، واخترت نسخة مزدوجة من القديس ماور/ والعذراء والغجري، كجائزة في المدرسة، غالبا لأنني أدركت أن هذا لن يريح المدير وزوجته، اللذين يمنحان الجوائز سنويا. كانت سمعة لورنس مقلقة في إنفيرنيس(2) خلال السبعينات. (ولطالما أضحكني، وحتى الآن، أن وسام الجائزة المثبت داخل الكتاب يذكر أنني تلقيتها على تفوقي في المحادثة بالفرنسية). والآن أنا أكبر من العمر الذي مات به لورنس بست سنوات. وكنت أتعاطف معه طوال قراءتي لسيرته الممتازة والمتأنية. بعد أسابيع وأنا في عربة القطار كنت لا أزال مشغولة به، ولحيته الصغيرة الحمراء تدل بشيء من التمرد والحنق على بطولته وإقدامه. وطوال الأسابيع التالية كنت أضحك برضا من غباء السلطات التي اعتقدت أن الغالية (3) نوع من الكتابة المشفرة. ولكن ما لا يمكن أن أكف عن التفكير به هو ما يمكن أنه جرى لجثمانه بعد وفاته بخمس سنوات. ولا أزال مضطربة من ذلك حتى الآن، وأنا أقود دراجتي الهوائية من المحطة إلى البيت.

وصلت البيت وتفحصت بريدي، وتلقائيا توقفت عن التفكير بالشؤون الجانبية بسبب انشغالي برسالة من بطاقة باركلي، وكانت تلفت انتباهي لإنفاق مبلغ كبير. وكنت نادرا ما أستعمل بطاقة الائتمان، أو أيا من بطاقاتي المصرفية. كنت أمسك أعصابي بالإنفاق، وأتصرف بحنكة وانضباط. في الواقع، لم يكن يبلغ الرصيد المترتب على تلك البطاقة سوى مائة جنيه إسترليني، وهو ما أنفقته مؤخرا لشراء بعض القمصان الخاصة بعيد الميلاد من متجر للملابس في لندن واسمه “فولك/ الشعب”. نظرت لمجموع المبلغ مجددا. 1597.67 جنيه. هل أنفقت مؤخرا كل هذه النقود على أربعة قمصان؟. قلبت الرسالة على قفاها. كان الرصيد في آخر إشعار من المصرف يبلغ: 100.37جنيه. والآن 11 كانون الأول - فولك، لندن. 531 جنيه. 21 كانون الأول، لوفتهانزا، كولن 1167.04 جنيه. وهذا يعادل 1840.70 دولار أمريكي، كان سعر الصرف في الولايات المتحدة الأمريكية 0.6340 أضف له سعر التحويل وهو يبلغ 33.88 في 3 كانون الثاني. الرصيد الجديد هو1597.67 جنيه.

لوفتهانزا.

ولكن لم أشتر أي شيء من لوفتهانزا. اتصلت برقم بطاقة باركلي المذكور في أعلى الإخطار. مرحبا!. قلت. ورد صوت آلي أنه سيجيب على سؤالي إن ضغطت على أزار هاتفي، أو بالكلام خلال الفترة المسموحة على الأسلاك. ولا بد أن الصوت يعود لشخص من شمال إنكلترا، كان وديا، مثل صوت كوميدي غير منهك. ذكرت له رقم بطاقتي وقدم لي بعض الخيارات. ولكن لم أجد أي خيار يسمح لي بالشكاية من محاولة تزوير، ولذلك لم أتمكن من الرد بسرعة كافية سواء بضغط الأزرار أو بالكلام، ثم طلب مني الصوت الآلي أن أعلن له بصراحة ووضوح عما أريد. قلت مجددا: أود أن أتكلم مع شخص ما، آسف، لم أفهم مرادك، قال الصوت الآلي بلهجته الشمالية. يرجى المحاولة مجددا. وحاولت أن أفكر بشيء مباشر مثل: لدفع فاتورتي. ثم قلت له: أريد أن أكلم أحدا. رد: آسف، لم أفهم. تمسكت بالصمت. وقال المجيب: آسف، لم أفهم. يرجى الانتظار. سأحولك إلى عضو من طاقمنا، وربما يتمكن من المساعدة. للعلم بالشيء كل مكالماتنا مسجلة للتدريب ولأغراض قانونية. واستمعت لعزف الموسيقا لقليل من الوقت.

مرحبا. أنت تتكلم مع شخص غير محدد. كيف يمكن أن أساعدك؟. قال لي ذلك شخص بشري من مكان ما في الهاتف ولكن قدرت أنه بعيد جدا. وسألني بعض الأسئلة للتأكد إذا كنت هذا أنا فعلا. قلت أتكلم عن تحويل نقود لم أقم بها شخصيا ولم أفوض أحدا بها. قال: لا تقلقي آنسة سميث. شكرا يا آنسة سميث. بمقدوري يا آنسة سميث أن ألاحظ ما حصل. نعم يا آنسة سميث أشكرك مجددا. وحولني واستمعت لمزيد من العزف. وبعد عدة دقائق ردت امرأة. كان يحيط بصوتها شيء من التردد. وحصلت على الانطباع التالي: مع أنها هنا تسكب كلماتها في أذني، لكن ربما أنا أكلم بالهاتف شخصا غريبا ومن كوكب آخر. سألتني نفس أسئلة الأمان. وأخبرتني أن هذه البطاقة كانت أمس فقط تقوم بتحويل كلفته جنيهان - جنيهان!. قلت وهذا ما نفذ في رأسي. ثم قلت: لم أستعمل البطاقة لغرض بسيط بهذا القدر. ويبدو الأمر كأنني أطلب إثباتا أنني لم أستعمل بطاقتي مع أنني على دراية تامة أنني لم أستعملها مطلقا. وفي نفس الوقت تابعت المرأة كلامها وقالت - ولكن البطاقة تم سحبها فقط قبيل تنفيذ التحويل. قلت لها: لم أفعل ذلك. ووددت بتوضيح ذلك. فأخبرتني أن بطاقة باركلي ستتصل بي، وسأسمع منهم خلال الأسابيع الثلاثة القادمة، ويجب أن أتأكد من التجاوب والرد في المهلة القانونية المحددة وإلا اعتبروا الموضوع محلولا وسيتغرمون البطاقة بناء على ذلك. قلت: مقابل تحويل لم أفعله؟. قالت: آنسة سميث عليك التأكد من الرد في المهلة القانونية المعمول بها. قلت لها: مهلا. كان المبلغ بالدولار. ولكن لم أسافر إلى الولايات المتحدة منذ 2002. وأريد أن تسجلوا شكواي، أنني لم أحول المبلغ وبطاقتي كانت عرضة للاحتيال. وأنا أطالب بإلغاء هذا المبلغ من حسابي لأنني لم أصرف هذه البطاقة ولم أقم بهذا التحويل. وأطلب إلغاء هذه البطاقة فورا. قالت المرأة: نعم، يمكنني ذلك، يا آنسة سميث. لحظة فقط. الآن. تم إيقاف البطاقة. ومن فضلك أتلفيها يا آنسة سميث. وسترسل بطاقات باركلي لك بطاقة جديدة بغضون الأيام الخمس القادمة أو ما يقارب ذلك. قلت لها: لا أريد بطاقة جديدة. ربما حصل شخص ما على التفاصيل واستغلها أيضا. كيف حصلت لوفتهانزا على تفاصيلي الشخصية؟. ولماذا تصدق اللوفتهانزا أنني أنا من اشترت البطاقة مع أن هذا غير صحيح؟. قالت المرأة: سنتابع تحقيقاتنا ونتأكد مما جرى معك، شكرا لك آنسة سميث. قلت مجددا: لم أكن أنا. وكان صوتي حادا. مثل طفل. قالت: شكرا لاتصالك ببطاقة باركلي يا آنسة سميث. أتمنى لك أمسية جميلة. وضغطت على زر انهاء الاتصال في الهاتف ورأيت أنني في الغرفة الأمامية. وأعني: مع أنني كنت هنا كل الوقت، كنت في آخر نصف ساعة في مكان جعل غرفتي الأمامية غير موجودة، ولا علاقة لي بها. وقفت بجانب الموقد وكنت كأن رتلا من النمل يدب في داخلي. وبدأت أتجول بشرود في أرجاء المنزل من غرفة لغرفة لحوالي نصف ساعة. ثم توقفت، ووقفت عند النافذة الداكنة، وجلست على ذراع الكنبة. وأخبرت نفسي أنه لا شيء يمكنني أن أفعله حيال ذلك سوى أن أهزأ منه. هذا يتكررحدوثه كل الوقت. وأخلاق الناس تتدهور باستمرار. إنها الحياة. حملت كتابا ولم أتمكن من التركيز على القراءة.

وبدأت أتساءل من يكون هذا الشخص، الشخص الذي زعم، في مكان آخر من العالم، أنه أنا. وكيف هو أو هي يبدو؟. وهل هو أو هي جزء من جماعة اعتادوا على هذا الصنيع؟. أم أنه إنسان منفرد يعيش بعزلته في غرفة في مكان ما؟. ولكنه شخص من الأشخاص في هذا العالم ويعرف ما يكفي من الأرقام المسجلة على بطاقة أحتفظ بها في محفظتي. وهي موجودة في جيبي في الظلام. مع ذلك خدع شركة طيران معروفة واشترى بها بطاقة مرتفعة الثمن. وتأملت الإخطار مجددا. ولم يرد فيها أي تفاصيل عن مكان المغادرة والوصول. 21 كانون الأول . لعل الآخر الذي تصرف عوضا عني كان مسافرا إلى موطنه من أجل عيد الميلاد. هل لتلك الإنسانة عائلة؟. وهل تعلم عائلتها أنها محتالة؟. أو لعل الجميع عائلة من المحتالين؟. ويمكنني أن أتصورهم جميعا حول طاولة عيد الميلاد. وقفت مثل شبح عند مائدتهم أراقبهم وأذرعهم تستريح على أكتاف بعضهم بعضا انسجاما مع تقاليد العام الجديد ولا سيما بالعناق والارتماء في الأحضان. كيف يمكن لتلك الإنسانة أن تكون هي أنا؟. فأنا لم أنتظر في قاعة المغادرين ومعي نسخة مطبوعة من بطاقة ومدفوعة الثمن. ولم أعبر من النفق الذي يقود إلى باب الطائرة، وكذلك لم أتسلق السلالم في برد الشتاء الذي يعصف بالمطار. يا للمسيح. تذكرت جواز السفر. وهرعت على السلالم. وفتحت باب الخزانة. ولكن جواز سفري كان بمأمن هناك على رف الثياب الداخلية ومطمورا تحتها. أعدته إلى مكانه. وأغلقت الباب. وضحكت. حسنا. هبطت السلالم وضغطت على زر إبريق الشاي. وأنا أفكر بشيء ألتهمه. ولكن كانت الساعة بعد التاسعة وإن تناولت الآن الطعام لن أتمكن من النوم. جلست على كرسي المطبخ حتى بدأ الماء بالغليان وتذكرت كيف أنني منذ سنوات تعرضت للنشل في منتجع إيطالي على الشاطئ وعلى يد طفلة. كانت الطفلة ذات شعر أسود مع أكورديون صغير معلق على كتفها. وكانت تمشي أمام المطعم الذي قررنا تناول الطعام فيه. وكانت تعزف افتتاحية لحن شعبي. وربما كنت أبدو هدفا سهلا. اقتربت مني وطلبت النقود وعندما رفضت تكلمت معي قليلا وبحياء وهي تنشل مني بيدها الخفيفة. ولم أنتبه لما حصل إلا بعد نصف ساعة حينما وضعت يدي في جيبي بحثا عن النقود السائلة التي أحملها لدفع الفاتورة واكتشفت أن جيبي فارغ. لقد فعلتها بحذق حتى أنني لم أندم على ما سرقت. بالعكس، شعرت بالامتنان الإلهي. كما لو أنني إنسانة مختارة بعناية. كم كان هذا مختلفا؟. ترك عندي شعورا مختلفا. شعرت كأن ما حصل جرى لإنسانة لا علاقة لي بها. لم تتشكل انطباعات فعلية. وإنما أحسست كأنني أصبحت مشبوهة. ومهما تكلمت بالهاتف من مركز مكالمات لن أستعيد براءتي.

أخرجت بطاقة باركلي من محفظتي وطويتها طيتين. ثم طويتها باتجاه معاكس. وكررت ذلك عدة مرات بسرعة حتى تبخرت الحرارة من الطية. ولم يعد بمقدوري أن ألمسها بطرف أصبعي لأنها أصبحت ساخنة. وهكذا كسرت البطاقة إلى نصفين، نصف يحمل عبارة صالحة من..، والثاني يحمل عبارة تنتهي في...

بعد خمسة أسابيع وصلني من بطاقة باركلي بطاقة جديدة تحمل رقما آخر وعليها اسمي. وبعد عشرة أيام من ذلك وصلتني استمارة. وكان المطلوب أن أختار مربعا وأضع عليه إشارة لتأكيد احتمال من اثنين: أنني أوافق أو لا أوافق على صحة التحويل في شركة اللوفتهانزا. وطبعا وضعت إشارة أمام عبارة لا أوافق. وكتبت في الأسفل بحروف طباعية كبيرة ما يلي: لم أتعامل في كل حياتي بحوالة مع اللوفتهانزا سواء باستعمال هذه البطاقة أو غيرها. ووقعت الاستمارة باسمي.

بعد أسبوعين من ذلك التاريخ، وصلت رسالة من بطاقة باركلي وتخبرني أنهم أضافوا لرصيدي في بطاقة باركلي المبلغ المذكور، وأجروا تحقيقات إضافية. وفي نفس الوقت، إليكم حكاية ما يمكن أنه جرى لبقايا د. هـ . لورنس. بعد موته عام 1930 عن عمر أربعة وأربعين عاما، تزوجت زوجته فريدا من عشيقها، أنجيلو رافاجلي، وانتقلا إلى نيو مكسيكو. في عام 1935 أرسلت زوجها إلى فينس في فرنسا، مكان وفاة ودفن لورنس، ومعه تعليمات أن يحرق جثمان لورنس ليمكنها الاحتفاظ برماده في آنية زهور أنيقة. حمل رافاجلي آنية إلى فينس. وعاد إلى نيو مكسيكو مع آنية مليئة بالرماد. وأودعت فريدا الرماد في ضريح تذكاري بديع التصميم داخل مكعب من الإسمنت منعا للسرقة. وعندما توفيت عام 1956 دفنت بجانب الضريح. وهناك صورة للضريح في ويكيبيديا. ويعلوه منحوتة لفينيق يستيقظ وحروف د هـ ل محاطة بصور زهور عباد الشمس وبألوان ناصعة. مع أوراق نباتات في المقدمة. لكن السيرة التي قرأتها، وهي لجون وورذين، تقول أنه بعد موت فريدا، أعلن رافاجلي:”تخلصت من بقايا حريق د هـ”. لقد زعم أنه أحرقه كما طلبت منه، ولكنه تخلص من الرماد - ربما في مرسيليا، ويعتقد وورذين، لعل ذلك في المرفأ، حيث ألقاه في مياه البحر. وحينما وصل إلى نيويورك، ملأ رافاجلي الآنية برماد لا يعلم إلا الله رماد ماذا أو من. وأعطاه لفريدا، التي دفنته بتشريفات واحترام وماتت وهي تعتقد أنها ستدفن مع ما تبقى من لورنس.

ويبدو أن ويكبيديا أيضا ترى أن الرماد في ذلك الضريح هو فعلا للورنس. من يعلم؟. ربماهوكذلك. وسواء كانت له أم لا، تخيل الزوج المخلص والمستلقي والمطمئن والمنتصر، آمنا دون أن ينتبه للخدعة التي استمرت عشرين عاما كاملا حتى وافى الزوجة أجلها. وتخيل حاجته المفهومة، ورضاه، وتحوله من د هـ لورنس إلى رماد د هـ لورنس. تخيل رماد لورنس تذروه الرياح، ويذوب في مياه المحيط. “من سمكة إلى سمكة / مسألة بسيطة”. وهذا الكلام من قصيدة تسمى “سمكة”. وفي قصيدة أخرى يسمي البعوضة التي يطاردها “المونسنيور”. ثم “المنتصر المجنح”. “ألست أنا بعوضة تكفي لإبعاد بقية البعوض؟”. وفي أخرى يعلن أنه يفضل أن ينفطر قلبه، وينشطر مثل رمانة تسقط منها بذورها الحمر. وفي واحدة من أشهر قصائده، يراقب ثعبانا يشرب من حفرة مياه ثم يرميها بلوح خشب ليثبت لها من هو الأقوى هنا.

ولحظة فعل ذلك انتبه لضعفه، فهو يعلم أنه يغش نفسه. لقد بدأ هو العلاقة الغرامية. لقد دخلت مهاراته الأدبية إلى المحكمة وربحت. لقد انتقلت الرواية الإنكليزية لمكانة أرقى على يديه. كانت أمه فقيرة، منهكة من العمل، وقذرة وجائعة، الجوع، هل يمكن إشباعه بباقة منسقة من ورود الربيع، هذا على الأقل ما قالته فريدا في مقالة كتبتها عام 1955 للنيو ستايتمان، وكانت ترد على سيرة جديدة نشرت في الخمسينات عن لورنس، وحسب أقوالها، كانت حافلة بأكاذيب مضحكة وانحرافات عن الحقيقة. وقال في قصيدة تسمى “لا شيء لتستبقيه”:”ليس هناك شيء تستبقيه، كل شيء الآن ضاع/ إلا القليل من الهدوء في القلب/ مثل عين وردة البنفسج”. وفي القديس ماور، وهي رواية حول الكائنات البشرية وكيف لا يمكنها أن تكون أبدا طبيعية تماما أو حرة لأنها تستسلم لضغط الحضارة وتوقعاتها، وكذلك حول كيف أن النساء لا تفهم أبدا بعضهن بعضا، ولا سيما إذا كانت المرأة تعاني من العجز والإعاقة بسبب ذكائها، يقول:”عاليا في السماء نجمة تبدو كأنها تمشي. إنها طائرة مضيئة. وهديرها يئز في الأعالي. لا مكان ولا بقعة من هذا البلد لم يتأنسن، أو تسيطر عليه مزاعم البشرية. حتى السماء”. وصديقته النبيهة كاثرين مانسفيلد اقترحت عليه أن يسمي الكوخ الذي يعيش فيه “الفالوس /القضيب”. ورسائلها وملاحظاتها مليئة بالغضب والحنق منه. وفي نفس الوقت كتبت لأصدقائها ما يشبه ذلك وبطريقة روتينية. تقول:”هو الكاتب الحي الوحيد الذي أهتم به حقا. ويبدو لي أنه مهما كتب، بغض النظر عما يمكن أن “لا أوافق عليه”، يبقى هاما. وفي النهاية حتى أن ما يعترض عليه المرء هو إشارة على الحياة التي تدب في أوصاله”. و“ما يجعل لورنس كاتبا حقيقيا هو عاطفته. بلا عاطفة يكتب الإنسان في الهواء أو على رمال الشاطئ”.

وكتب هو نفسه في رسالة عام 1927 إلى غيرتي كوبير، صديق وجار من موطنه في شمال إنكلترا (4)، وكان على وشك أن يبدأ علاجا من السل، وكان يعاني منه وتغلب عليه في النهاية وتسبب بموته:”خلال حياتنا علينا أن نلعب. وعندما نقترب من الموت، سنموت ونحن نلعب أيضا”. هناك غضب، وطاقة لاهبة تعكس علاقته بالسل. بعضهم يرى أنه قوة دافعة تتحكم بمزاج لورنس وعلاقاته. ويمكن قول الشيء نفسه عن كاتبة مثل مانسفيلد، والتي توفيت في ريعان شبابها بظروف مماثلة، ظروف يمكن الشفاء منها لو عاشت عدة سنوات إضافية. بينما، أقل من مائة سنة لاحقة، كنت أجلس على طاولتي وأنا أفكر بغضب ويأس من جهة، وأنا أقرأ آخر رسالة وردتني من بطاقة باركلي من جهة ثانية. حسب قول بطاقة باركلي، تدعي لوفتهانزا أنني اشتريت تذكرة منهم وهم من أصدر التذكرة، ولكن لم تستعمل، وذلك في 21 كانون الأول من العام الماضي. وهكذا، هل يجب أن أوافق على كلام الشركة التجارية (لوفتهانزا) وأقر بشراء هذه التذكرة؟. إن لم أوافق، يجب أن أكتب ردا أبين فيه لبطاقة باركلي ذلك وأمامي مهلة عشر أيام من التاريخ المذكور في أعلى هذه الرسالة.لكن واستغرق وصول الرسالة ثمانية أيام. ولم يبق لدي سوى يومان للرد وبينهما يوم أحد. بخ. آه. بخ. مسألة بسيطة!. هل هنا أي رابط، بين الحياة، والموت، ونهاية لورنس ومعركتي مع المزاعم المزورة بما يخص إشعار بطاقة المصرف؟. كل ما أعرفه، أنه أسعدني التفكير بلورنس، والذي كانت شخصيته المستقلة تعني لي أنه مستعد لمحاربة أي شخص ويداه مقيدتان وراء ظهره ، وأن انجذابه المغناطيسي الذي يجره كل مرة نحو نوع من التعاطف يعني أنه يوجه كلامه لبعوضة بالفرنسية ويقارنها بعمل فني قديم من اللوفر قبل أن يطردها.

تخيلت لورنس في العالم المحايث. صورته معروضة في موقع إنترنت خاص بالتعري. ويصيح على النت وألعاب الكومبيوتر لأنها ليست مسلية بما فيه الكفاية، وهذا يعني أنني نسيت الرسالة التي بيدي من بطاقة باركلي. وبالعودة إلى غوغل إيرث، بحثت بالغوغل عن عنوان مكتب اللوفتهانزا في لندن. وكنت أفكر أنه ربما يمكنني الدخول، شخصيا، والتوضيح لهم وبالذات أنه ليس أنا من اشترى أو حجز بطاقة منهم، سواء استعملت أم لم تستعمل، في 21 كانون الأول أو أي وقت غيره. ورد الغوغل أن مكتب لندن لشركة لوفتهانزا في باث رود، ورمزه البريدي UB7 0DQ. بحثت عنه في خريطة غوغل. كان قرب هيثرو. وأشارت خريطة الشوارع في غوغل أنه مستودع أو مخزن ضخم ويقع وراء المطار، متفرعا من شارع هو أساسا للعربات، من النوع الذي لا يفكر شخص بزيارته على قدميه. كانت الصور لشارع غوغل مأخوذة في الصيف الباكر، الأشجار مورقة وربما هناك أغصان مزهرة في غابة تمتد على طريق ذهاب وإياب يقود إلى الهوليداي إن. في بعض اللحظات كان يمكن أن تشاهد الموجودات داخل السيارات العابرة. لكن خريطة شوارع غوغل محمية بتشويش أرقام لوحات السيارات. وفي لحظة من اللحظات كانت هناك سيارتان متوازيتان في تقاطع طريق ورأيت رجلا في إحداها، وامرأة في الأخرى، وعابر سبيل على قدميه وحده ينتظر خلفهما عند موقف للحافلات. كان من دواعي سروري أن أشاهد أناسا بالصدفة، حتى دون أن أعرفهم، وهم في طريقهم لمكان ما، ولكن كاميرات المراقبة تطاردهم وترسمهم على الإنترنت (حسنا، حتى تجدد خريطة غوغل نفسها). رؤيتهم جعلتني أتساءل لفترة قصيرة ماذا يجري في حياتهم في اليوم الذي التقطت به هذه الصورة. وتساءلت ماذا جرى لهم بعد ذلك. وأملت أنهم على ما يرام في مكانهم. وأنهم وصلوا بأمان إلى المكان الذي يسعون إليه. ثم تساءلت إن كان أي منهم سيزور لوفتهانزا ليشكوها من شيء ما. طبعا لن يكون هناك أي تأثير. طبعا من المستحيل أن تشاهد أي شيء له قيمة على خرائط غوغل يفضح شركة لوفتهانزا ومكتبها في لندن مع أنها تحتل نقطة من الخريطة ولكن لا يمكن للإنسان المتخيل الآخر أن يتورط بالذهاب إليها. ولذلك نظرت نظرة شاملة على باث رود لقليل من الوقت، أولا باتجاه واحد، ثم بالاتجاه الآخر، حتى نبهتني لوحة العنوان فوق الصورة أنني لا أزال في باث رود، ولكن في منطقة ويست درايتون، ثم أصبحت في هارموندزووردث. في داخلي انطلق جرس يدل على التفاهم. واستغرقت دقيقة، ثم تذكرت لماذا: كان هارموندزوورث هو المكان الذي تذكر كل الطبعات الشعبية من بنغوين أنها طبعت فيه. هو مكان النسخة الأصلية من أعمال مشهورة، ولنأخذ على سبيل المثال، عشيق الليدي تشاترلي، والتي تسببت بكل الاهتمام المعروف مع تهمة الإباحية، لذلك لم تنشر قبل عام 1960، وهو كذلك مكان آلاف النسخ التي طبعت وبيعت بعد المحاكمة. وكلها في بنغوين. نظرت أين يمكن أن يكون ل. على رفوف مكتبتي. كل ما لدي من مؤلفات لورنس هي طباعة بنغوين. تماما كل ما قرأته من لورنس، جاء بطريقة أو أخرى، من هذا المكان بالضبط والذي أنظر إليه. وقفت، ودفعت الكرسي إلى الخلف. وحملت من الرف نسختي من سانت ماور / العذراء والغجري. كلام فرنسي. قلبت الصفحة. هارموندزوورث. كان الارتباط سخيفا لكنه قوي، وجعلني أكثر اهتماما وشعرت بصدقه. فهو لا يمكن أن يكون ادعاء مزيفا لا معنى له. وموجه لإلحاق الضرر بي. ودفعني ذلك للضحك. ضحكت بصوت مجلجل. أديت رقصة بسيطة في أرجاء الغرفة. وعندما توقفت، أغلقت الكتاب وأعدته لمكانه على الرف. وقفت عند طاولتي للحظة. وقرأت الرسالة. ثنيت خصري. وجلست للرد. عزيزي بطاقة باركلي، هذا لتقديم الشكر لك وللوفتهانزا لتذكيري أنه لا شيء بأمان دائم في هذه الحياة. وشكرا أيضا لأنك سمحت لي أن أجد كم هو من السهل أن تبدو كاذبا بينما أنت لست منهم. شكرا كذلك، لأنك أغرقتني بجو من التوتر والحنق الملتهب واليائس والذي أعتقد أنه ساعدني حقا على فهم، ولو لوقت قصير، القليل من المشاعر التي انتابتني حيال كاتب أو اثنين أنا معجبة بهما وهما من النصف الأول من القرن العشرين وعانيا من المرض الفتاك. هذه التجربة أضافت لي طبقة جديدة من المعاناة مع العالم الذي يضغط علي.

المخلص

أ. سميث.

ملاحظة. إذا أخبرتك لوفتهانزا ما هي الغاية من تلك التذكرة التي لم اشتريها، أود بدافع الفضول، أن تبلغني.

وشعرت بالراحة بعد أن كتبت ذلك.

حينما قرأها بعد نصف ساعة أخرى انتبهت أنها مقرفة جدا. مثل رسالة كوميدية بذيئة أزمع أحدهم على إرسالها إلى برنامج “حق المستهلك” في محطة الإذاعة 4. ولذلك حذفتها. وكتبت رسالة أعتقد أنها من النوع المفروض أن أكتب مثله، وبها أنكرت ببساطة علمي بالتحويل إلى لوفتهانزا والذي ادعت الشركة أنني قمت به. أغلقت الظرف ووضعته على طاولة الردهة لإرساله بالبريد المسجل في الغد. ثم ذهبت إلى السرير، وأطفأت النور، ونمت. في الحلم انفصلت لعشرات الأشخاص وقمت برش الطلاء على باب ونوافذ المصرف، أشباحي أغرقوا الباب والنوافذ بالطلاء وتبولوا علنا على المرايا الصغيرة العاكسة الموجودة فوق آلات استلام النقود. وأفرغوا الآلات من نقودها، وألقوا الأموال على الأرصفة. وسرقوا الخيول البدينة من المسالخ وسمحوا لها أن تعدو على طول الشوراع الأساسية في كل البلدات الصغيرة. وتجاهلوا إشارات المرور. زبدأوا بتلويح الأيدي لكاميرات المراقبة. واقتحموا كل مراكز الهواتف. وتسللوا إلى حاملات المصاعد وتسلقوا عليها للأسفل والأعلى وعبثوا بالنظام. وألغوا ديون الناس عشوائيا بغاية اللهو. واستبدلوا الرسائل المسجلة بتغريد العصافير. وهمسوا في أذن العاملين على حل مكالمات الشكاوي بكلمات خافتة تدل على الاعتراض والطمأنينة والحماس والحب والنغمات البشرية غير المكتوبة ولكن المرحة. وكان هؤلاء العاملين يكسبون أقل من مدرائهم بألوف المرات. وهاجموا متن الطائرات وتسببوا بمطبات جوية في كل رحلة قام بها أشخاص أبرياء. وبدلوا ألحان الموسيقا في كل هاتف وآي باد وآي بود مزور بأغنية “بنت حديثة” لشينا إيستون. وعبثوا بأفلام التعري وأجبروا البنات والنساء على الضحك. كانت أشباحي عنيفة وحساسة. وكانت مجنحة مثل بذورالجميز. كان هناك المئات مني. وسريعا أصبحت بالآلاف. كنت أتكاثر كالفطور. وأتكاثر كالأبواغ. ولم يكن هناك قدرة على إيقافي. في تلك الأثناء حينما رمى لورنس منذ فترة بعيدة لوح الخشب على الثعبان وهو في حفرته ، لم يسبب له الضرر، وتابع طريقه، ونسي القصيدة وتركها وراءه.

والآن، يمكن لرماد لورنس أن يكون في أي مكان.

وبضغط من الحسميات، المفروضة لأسباب سياسية قاسية، لم تحب المجالس البلدية أن تعترف أن المكتبات التي تغلق أبوابها تغلق أبوابها فعلا. وأقروا أنها “عبء”. والآن هم يسمون ما كان مكتبات عامة “مكتبات محلية”. وهذه طريقة مخففة للكلام عن ما يدار ويمول بالتبرعات. وفي الأسابيع القليلة التي كنت خلالها أطلب وأعيد تحرير القصص الاثنتي عشرة المنشورة في هذه المجموعة، أغلقت ثماني وعشرون مكتبة في عرض وطول المملكة المتحدة، أبوابها. أو أصبحت بإدارة المتطوعين. وخمس عشرة مكتبة متنقلة أصبحت في ظل هذه المخاطر. وهذا يرفع الرقم إلى أربع وثلاثين مكتبة - في غضون أسابيع. وخلال عدة سنوات، الوقت الذي استغرقته بكتابة هذه القصص، عانت ثقافة المكتبات من مصاعب لا يمكن تخيلها. وتبين الإحصائيات أنه في وقت نشر هذا الكتاب سيقل عدد المكتبات بما يعادل الألف في أرجاء المملكة المتحدة بالمقارنة مع عددها عندما باشرت بأول قصة. وهذا ما أخبرتني به ليسلي برايس عندما سألتها عن المكتبات: مكتبة كورستورفاين (5) العامة كانت مكانا مقدسا بالنسبة لي. فهي بناء قديم، صامت ومعتم، مثل كنيسة، بنوافذ مرتفعة يرشح منها الضوء المغبر على رفوف الكتب الضخمة المصفوفة تحتها. وكان للمكتبة طقوسها: البطاقات الثمينة،( فقط ثلاث لكل شخص)، وألم المرور علىصفوف الكتب بغاية الانتقاء، وتاريخ الخاتم. وحتى أمناء المكتبة أنفسهم كانوا مخيفين، ولكن طيبي المعشر، ويسمحون لي و أنا طفلة باستعارة كتب الكبار، وحتى دون إبداء دهشة أو تأفف. كان والداي من القراء، ولكن ليس لدينا كتب كثيرة في البيت، ولذلك كانت المكتبة بوابة لعالم أرحب، وطريقة في الحياة، ومصدرا هاما، وكهفا للعجائب. وبلا مكتبة عامة في طفولتي، سيكون عالمي خانقا، وفقيرا بشكل لامحدود. وكل تلك الثروة المتاحة بلا مقابل، لكل إنسان وأي إنسان يحمل بطاقة مكتبة. كان كل الأطفال محظوظين جدا. الآن هناك مكتبة ممتازة للأطفال في نهاية الشارع الذي نعيش فيه الآن، في نوتنغ هيل، ولكن ستباع عما قريب، مع مكتبة البالغين، غير أنهم يزعمون أنها ستنتقل إلى مكان مجاور .



1 - نسبة لهيبريد. مجموعة من الجزر في اسكوتلاندا.

2 - مدينة في مرتفعات اسكوتلاندا.

3 - لغة سلتية حية في اسكوتلاندا.

4 - لورنس من إيست وود التابعة لنوتنغهام. وهي مدينة من شرق وسط إنكلترا وليس من شمالها.

5 - قرية في إدنبرة.
































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow