Alef Logo
مقالات ألف
              

الخيال الفني في العلاقات الحميمة نيفين - ورد كريستينا

صالح الرزوق

خاص ألف

2019-12-08


الصداقة والعلاقة مع الأبوين والأولاد وزمرة الغرباء، في حفل طعام أو في قطار أو طائرة، والعشق من أول نظرة، والتأثر العاطفي العميق بالفن أو بمناسبة تاريخية، والعلاقة بين القارئ والكاتب: في كل هذه المجالات، الفضاء بين الطرفين له أهمية حاسمة، مثل شرارة كهربائية، وغالبا ما يدفع الحبكة نحو الأمام. كتب فورستير يقول: أي اتصال يحركنا نحو الأفضل أو الأسوأ، ونحن ندفع شخصياتنا لتتصرف هكذا.
“من: فن العلاقات الحميمة لستايسي دي إيرازمو”

معظمنا يوافق، في حياتنا اليومية، أن الأمان هدف مطلوب. على سبيل المثال إنه مستحسن إذا فكرت بمحرك طائرة، أو مقعد سيارة للأطفال، أو النوافذ الفسيحة المحمية بالزجاج والتي ينظر منها السياح إذا كانوا في أعلى ناطحة سحاب، وهناك مئات الحالات في الذهن. لكن حينما تأتي للخيال الفني والسرد لا تكون وسائل الأمان مستحسنة أو مطلوبة. ومنذ بدأت كتابة الرواية وأنا أفكر بهذا التعارض. أحد المشرفين على رسالة الماجستير سألني في وقت مبكر:”هل أنت تتهربين من “اللحظة الحاسمة في الحبكة؟”.”.
قلت له:”أنت على حق.أنا أقفز من فوقها”. وعدت إلى طاولتي وبدأت أعمل على اللحظات الحاسمة. ولاحقا، نبهني صديق من الكتاب بقوله:”يبدو كأنك تقتربين من “ركوب المخاطر” في هذا الفصل”.
قلت:”نعم. المخاطر!”. وهكذا ركبت “الصعاب”. كنت أضيف لعمي نقطة الانعطاف، وأقفز بجرأة على محور الأزمنة للخلف والأمام. وفي النهاية، قرأ مشرف آخر قصة قدمتها له، وهنأني على الحوار، والحركة، والنغمة المرحة. ثم أضاف إنه كره المنعطف في الحبكة. وكتب يقول:”يا لها من قصة آمنة”.
وأدركت أن هذا ليس مديحا. ولكن ما معنى كلمة “آمنة”؟.
سألته:”لماذا هي آمنة؟ وكيف يمكنني تنقيحها؟”.
وبعد المناقشة وصلنا لرأي مفاده أن اختياري حبكة آمنة كان في الحقيقة لتفادي تعريض الشخصيات للمصاعب. كانت قصتي آمنة جزئيا لأنني اخترت أن أحمي شخصياتي من لحظات حميمة وفجة. وككاتبة أكتب “السرد الأدبي”، كنت خائفة من مواجهة المستويات الثقافية المتدنية. وكنت خائفة من السقطات غير المدروسة والفظيعة: السقوط في الدراما، السقوط في إظهار العاطفة، أو السقوط في الكتابة عن ممارسة الحب دون تدابير أو رغبة. وهكذا بدأت فترة من التفكر العميق بسرد العلاقات الحميمة. ماذا أعني بالضبط بـ “سرد العلاقات الحميمة؟”. هي في السرد وبالتعريف أي شكل من الترابط البشري القوي والقريب الذي يصلنا من خلال النص. وأوضح طريقة تعبر عن ذلك العلاقة الناشئة بين شخصيتين - سواء كانت رومنسية، بشكل مشهد فيزيائي حميم، أو غير رومنسية، مثل الصداقة المتينة، وترابط الأبوين - والأطفال، وحتى اللحظات العابرة للتجاذب العاطفي بين الأغراب. وأعتقد كذلك أن سرد العلاقات الحميمة يتضمن الترابط العميق الممكن بين أي شخص ومحيطه المجرد - مثل الدخول بعلاقة حب وغرام مع الموسيقا والفن والطبيعة. وأخيرا، وهو المهم، أضيف العلاقة أو الرابطة التي يمكن للحبكة أن تقيمها بين الشخصيات والقارئ - وهذا يعني كشف الشخصيات لنفسها، ليس أمام غيرها من شخصيات الحبكة، ولكن فقط للشخص الذي يقرأ الكلمات المكتوبة على الصفحة. إنه من الممكن لنا نحن القراء أن نشعر بالارتباط مع شخصية متخيلة أو سارد بطريقة نتشارك فيها ببعض التماسك الذي تتصف به العلاقات في حياتنا الإنسانية الحقيقية. وهذا شكل واحد من أشكال العلاقات القوية، لأنه من الواضح أن الشخصيات لا تشعر بالارتباط معنا ونحن نتابع القراءة، وأنا أنظر لهذه العلاقة على أنها شكل من أشكال سرد العلاقات الحميمة. ولسوء الحظ، في بواكير النصوص السردية، كانت هذه اللحظات تأتي بشكل غير نشيط وسطحية وكاذبة وبصورة كليشيهات. ونحن نعمد لغض الطرف عنها وتجاوزها عوضا عن محاولة تصحيحها وتوطينها.
لماذا يميل السرد الفني للكلام عن العلاقات الحميمة؟. التقارب الشديد هو نقطة مشتركة في ثقافتنا المعاصرة - من الاعترافات في وسائط التواصل الاجتماعية، إلى الأغنيات الشعبية التي تهتم بالسيرة الذاتية، وحتى الانفراد مع سلسلة من الأفلام التي ندمن عليها. ولكن أحيانا نشعر، ككتاب روايات، أننا نتحمل المصاعب. (يا لنا من مساكين). كل تلك الوسائط لديها أدوات عديدة للتعبير عن التقارب الحميم: استعمال الصور، الفيديو، توظيف الخلفيات الموسيقية. ككتاب ليس بين أيدينا غير الكلمات والصفحات البيض. وعلينا استعمالها، بقدر ما يمكن من صراحة وصدق، وأن نولي الأهمية الشديدة للعواطف الإنسانية واعتبار أنها جوهر المسألة. إنه لا يسعنا التعبير عن علاقة وحسب، وعلى القراء أن يكونوا فكرة عن المشاعر التي وراءها، ومعناها، وكيف يمكن أن تنشأ. ويجب الإعراب عن العواطف وإظهارها لتبدو حقيقية إلى حد ما - وباستعمال الكلمات المطبوعة واستغلال الفراغ الأبيض.
كيف يمكننا تحقيق ذلك، وبطريقة جيدة؟. يمكن للكاتب أن يعبر عن العلاقات الحميمة بواسطة الاعترافات والانطباعات والإشارات، وسوف أتوقف عند هذه الأدوات الثلاثة. من المفيد أن تكون قادرا على تعريف استراتيجيات الحرفة بطريقة حركية - لكن - وهذا تحذير - تلك الأدوات الثلاثة ليست كافية. كما هو الحال دائما، في السرد المتيز، هناك جانب غامض لا يسعك تحديده بسهولة ويسهم لحد بعيد في نجاح المشهد المرسوم عل الصفحة. لنأخذ ثلاثة أساليب مختلفة لثلاثة كتاب في تناول الاعترافات والانطباع والإيماءة المستعملة في تصوير العلاقة الحميمة. ولنحاول اكتشاف بعض العناصر المضافة - وهي أقل دقة، وأصعب نطقا، ولكنها جوهرية. فالكاتب يلجأ لتيار كهربائي يتخلل شخصياته ويمدها بالحيوية والطاقة. وذلك في كل لحظة من لحظات حياة الشخصات الخاصة حينما يكشف عنها الغطاء.
لنبدأ من قصة “المحور” لأليس مونرو. وهي قصة اثنين بعمر طلاب الجامعات، يعيشان دون تفكير عميق و يرتكبان الأخطاء التي ستترك نتائج تحدد، بكل الحالات، اتجاه المستقبل. ونعلم منذ الافتتاحية أن هذه القصة تعود أحداثها لـ “خمسين عاما خلت” (ربما في أواخر الخمسينات) وأبطالها شخصيتان هما: إيفي، ولها صديق هو هوغو، وصديقتها غرايس، وصديقها رويس. تقف الاثنتان في المشهد الافتتاحي بانتظار الحافلة لتعودا من الجامعة إلى البيت لعطلة نهاية الأسبوع - وهنا نشاهد أول لحظة حميمة من السرد. تصعد البنتان على متن الحافلة وتشرعان بالحوار. وتجهز إيفي نفسها لإخبار غرايس عن حلم يراودها، وتحذر زميلتها بقولها:”إنما عليك أن تكتمي السر”. في الحلم تتزوج بصديقها، هوغو، وتنجب ابنا محيرا وصعب المراس، ولذلك تودعه في قبو معتم وتغلق عليه الباب وتنساه. وبعد سرد الحلم تسأل غرايس إيفي:”ما رأي فرويد بذلك؟. لا عليك. ما رأي هوغو به؟. أساسا هل قمت بإخباره بالحلم؟”. وترد إيفي بقولها:” يا الله. طبعا كلا”. وتصور لنا هذه اللحظة نوعا من الاضطرابات: إيفي تشعر بالعار من حلمها، ولكن هي راغبة بالاعتراف به أمام صديقتها المقربة. وما يجعل هذه اللحظة علاقة حميمة ناجحة شيئان - مكان المشهد: منذ بداية القصة، ودور السرية. فإيفي تقر لغرايس أنه لا يمكنها أن تفشي سر الحلم لغيرها. وهذا يعني أنها لن تخبر حتى صديقها المحبوب. إن الحوار أداة دينامية في كشف أسرار الشخصيات. ويزيد من شدة وكثافة هذه اللحظة الحميمة أنها تحصل من خلال المحادثة. إن قصة “المحور” لمونرو تبدأ من اعتراف شخصية بشيء ما لشخصية غيرها. وهذا يعرف معنى علاقتهما للقارئ بطريقة استفزازية وسريعة. فشخصية تضع نفسها بموضع مكشوف منذ المقدمة، الأمر الذي يلفت انتباهنا. وها نحن نتساءل: ماذا لديها لتكشفه فيما بعد؟. وهناك طبعا اعترافات أخرى مكشوفة في “المحور” ولكن لا تتاح للقارئ بصوت مرتفع. وهنا يبدأ دور العلاقة الحميمة بين الشخصية والقارئ: فالراوي الغائب (ضمير الشخص الثالث) يدخل في حالة الشخص العليم ويكشف شيئا عن شخصياته، وهوشيء لا يعرفه أحد غير هذه الشخصيات بالتحديد. على سبيل المثال، مع أن إيفي تواعد هوغو وتطارحه الغرام، “فالحقيقة هي أن /إيفي/ تفضل رويس صديق غرايس، لأنه كان مقاتلا في الحرب العالمية الثانية”. وهذا سر آخر، لمحة صدق خاطفة، وتتبلور بشكل انطباع حميم. وبعد تلك الجملة، نصل مباشرة إلى مثال آخر عن انطباع يحمل رؤية ووجهات نظر غرايس. ومعظم الحبكة من زاوية إيفي أو رويس، ولذلك نعتبر هذا التحول نقلة مفاجئة: بعكس إيفي، كانت غرايس عاشقة. وهي تؤمن أن عذريتها ورفضها لانتهاك رويس له - وهو ما لم يفهمه - مجرد طريقة للاحتفاظ به وتلويعه. ولكن أحيانا كان يستعد لليأس منها، ولتفادي هذه النتيجة كانت تشغله بالإشاعات والألغاز أو بالنكات التي يتناقلها الناس عن هوغو، وهو شخص يكن له العداوة والبغضاء. وفي الحقيقة، اعتادت غرايس على تلفيق الحكايات عن هوغو ومن المؤكد أنها أبعد ما تكون عن جادة الصواب. مثل أنه وضع ساقين في طرف واحد من السروال، بعد ممارسة متسرعة وعجولة للحب - كان ذلك هراء لا ضرورة له. وكانت تأمل أن إيفي لن تكتشف لعبتها. وهنا يكشف الراوي العليم سرا آخر من أسرار غرايس. وهكذا نكون كأننا تعرفنا على غرايس عن مقربة - تبدو إنسانة حقيقية ولدينا معها أكثر من صلة - وكله يعود لسبب واحد: هذه اللحظات الحميمة والتفصيلية عنها.
هناك شيء يشد اهتمام القارئ حينما يكشف صوت عليم شيئا عن شخصية لا تكشف عما في داخل نفسها، وربما لن تعترف به لنفسها أيضا. وهكذا نعرف شيئا لن يكون بمقدور الآخرين معرفته. وبالرغم من من شكاياتي السابقة بخصوص المشاق التي تواجه الكتاب لنقل علاقات حميمة على الورق، أعتبر هذه النقطة ميزة. نحن في قصصنا نسمح للقراء أن يروا شخصياتهم وأن يرتبطوا معهم، حتى دون أن تنطق تلك الشخصيات كلمة أو تؤدي إشارة. ولذلك لا يمكننا توفير صورة ناصعة ومؤثرة أو صوتا نفاذا. ولكن قراءة الأذهان قوة ساحرة ومقبولة، وهي هبة أو موهبة نمتلكها نحن جمهرة الكتاب ونقدمها لقرائنا. في “المحور” اقتربنا من تفهم شخصية رويس، أيضا، من خلال اللحظات الحميمة العابرة. ولاحقا في القصة، أثناء رحلة صيفية لزيارة غرايس في مزرعة عائلتها، ذهب معها سرا إلى السرير لأول مرة. وضبطتهما أم غرايس ذات المزاج العليل. وهكذا هرب رويس من البيت وهو بحالة حنق وغصب، وكان عليه أن ينتظر سيارة عابرة ليعود للبيت ولكنه كان حانقا جدا. وحالته النفسية لم تسمح له أن يحاول:
لم يعتقد أنه قادر على تبادل الكلام مع أحد. وتذكر كيف همس لغرايس في اليوم السابق حينما كانا يعتنيان بالفريز، ويتبادلان القبلات وتيار المياه الباردة يجري حولهما، ثم استدارت أمها. كان شعرها الباهت يبدو أسود في تيار الماء. كان يتصرف كأنه يعبدها. كيف يمكن لذلك في لحظات معينة أن يكون حقيقيا. مسحته الجنونية، والتهور من جراء أن يستسلم ولا يبادر. يا لتلك العائلة. وتلك الأم الحمقاء وهي تجول بعينيها في أرجاء السماء.
هذه اللحظة من التأمل هي لحظة أنسنة هامة تضفي على الشخصية عمقا معينا، لأنه دونها، يمكن لرويس أن يكون مسطحا، وربما أشبه بشخصية تافهة أو كليشيه: لقد ترك غرايس عارية في غرفة النوم، وتجاهل توسلاتها لأن ترافقه، ولاحقا، في المشهد الأخير من القصة (وهو يسرع إلى إيفي على متن القطار، وبعد مرور خمسين عاما)، قابل شخصية قليلة الإحساس ومعادية للنساء قليلا. ولكن لتلك الرحلة ولحظاتها الحزينة جماليات معينة، صدق وصراحة بلا معنى - ”لقد تصرف كأنه يعبدها. وكيف في لحظات بعينها كان كل شيء حقيقة” - وقد استمر ذلك لفترة قليلة قبل العودة لحالة الغضب. هنا وفي كل مكان آخر، كانت اللحظات الحميمة تتجنب الكليشيهات والسطحية وتعترف بازدواجية عواطف الشخصيات. وحقيقة أن الشخصية كما يبدو تحمل عاطفيتن متعارضتين في نفس الوقت أضافت لها عمقا وحيوية. وبالتخلي عن صديقته، يمر رويس أيضا بحالة من الضعف والحنق. وتستعمل مونرو كذلك الإيماءات لنقل العاطفة الحميمة. وبالإيماءة أنا أشير إلى أي شيء يبدأ من فعل فيزيائي بسيط، مثل اللمسة، إلى مشهد كامل من الأفعال الفيزيائية. وفي كل حال، إنها تبدو للناظركأنها شيء خاص ويفضح الشخصية أو الشخصيات. في “المحور” يأتي المشهد الجنسي في مركز الحكاية ويكون له بالتأكيد دور نوعي. ويفترض رويس وغرايس أن عائلة غرايس ستغيب هذا اليوم بسبب فحص البيانو في بيت الأقارب، وسيوفر لهما ذلك فرصة للنوم معا، وهذه هي علامة أو إشارة على فقدان غرايس لعذريتها. ونحن ننظر لهذا المشهد من وجهة نظر رويس.
تدخل بخطواتها، الخفيفة، كأنها لا تريد أن توقظ أحدا من رقاده في هذا البيت. ثم نسمع صوتا خجولا ينم عن فتح الباب، وكأن هذا الباب دون أقفال، كما لاحظ هو ذاته. يحتفظ بشكوكه، ويفتح عينيه نصف فتحة كأنهما شق ضيق. واعتقد أنها ربما تستلقي في السرير بثيابها، ولكن لا. كانت قد تخلت عن كل شيء أمامه. وأحنت رأسها، وضغطت شفتيها معا، ثم بللتهما بطرف لسانها. تصرف جدي جدا.
ويا لها من جميلة وفاتنة.
كانا بعيدين بما فيه الكفاية ولا يمكنهما سماع السيارة. في البداية قام بمحاولة جاهدة ليلتزم بالهدوء، ليس لأنه يعتقد بوجود مخاطر، ولكن لأنه يريد أن يتم كل شيء ببساطة، وان يكون لطيفا جدا معها. عموما هذه الفكرة كانت على وشك أن تتلاشى وينساها. لم تكن تبدو أنها تتطلب كل هذه العناية. وكانا يصدران ضجة غطت على ما عداها. وتسببت لهما بالصمم.
وهذه عبارة قوية للتعبير عن العلاقة الحميمة، ومع ذلك عمدت مونرو بذكاء لرسم صورة للاثنين وهما بأول علاقة جنسية ولم تصف ولو عضوا واحدا خلال فعل الحب. وعوضا عن تغطية المشهد بشكل ماكر، أو كأنها تتجنب التفاصيل الفيزيائية، حاولت أن تكسب ثقة القارئ: كلنا نعلم ماذا يجري - ولم تكن لها حاجة للوصف المستفيض. كما أنها أيضا حقنت المشهد بالتشويق وبنجاح - كانت صورة الباب بلا قفل خلال اعتداء الاثنين على المحرمات مما أضاف المزيد من التشويق للقارئ. وربما كان المشهد التالي للعلاقة الحميمة في “المحور”، هو الأهم، حينما دخلت أم غرايس من الباب غير المقفول وضبطتهما في السرير معا، وحينما عصف بها الغضب وبدأت تعنف رويس:
دفع رويس غرايس على جانب دون أن ينظر إليها، ومد يده لسرواله الملقى على الأرض، وبدأ يرتديه تحت الغطاء قبل أن يغادر السرير. وركل غرايس بحركاته فابتعدت عنه. ولم يكن بوسعه أن يتجنب ذلك، وبصعوبة لاحظ حماقته. كانت قد دفنت رأسها في الملاءات، ومؤخرتها العارية أصبحت الآن مكشوفة بطريقة ما.
قالت الأم:”ماذا تفعل؟. قبلناك في عائلتنا. ورحبنا بك في بيتنا. لتغدر بابنتنا ---”.
“لم أغرر بها. وكانت تعرف ما تفعل”.
هنا صاحت الأم برأس غرايس المتواري:” هل تسمعينه؟”. وكانت تقبض على أطراف ثوبها الذي ارتدته خصيصا لامتحان البيانو. ولم يكن هناك مكان لها للجلوس، باستثناء السرير، ولم يكن مقبولا برأيها أن تفعل ذلك.
كان رد فعل رويس هو جمع الأشياء التي تخصه، وأن يرتب نفسه حفاظا على كرامة غرايس. ثم قال للأم “آسف” ، لكن نبرته كانت فظة. وحينما سمعته غرايس وهو يغلق حقيبته استدارت ووضعت قدميها على الرض. كانت عارية تماما.
وقالت:” خذني معك. خذني برفقتك”.
ولكنه كان قد غادر الغرفة. وابتعد عن البيت. ولم يكن بإمكانه أن يسمعها.
أولا “المؤخرة العارية” لغرايس كانت مكشوفة أمام أمها، ثم كشفت كامل أجزاء جسمها العاري، وأعقب ذلك تلعثمها اليائس (“خذني معك”). وبسبب العلامات التي قادت لهذه اللحظة - الأم (القاضي الشكاك)، وغرايس (المغرمة برويس والتي تأمل بالزواج منه)، ورويس (الحانق من امتناع غرايس عنه جنسيا) - يمكننا أن نعلم كيف أن هذه اللحظة كانت مزعجة، وكم كانت ضعيفة. إن هذه العلاقات تحمل معنى علاقة حميمة بما تتضمنه من حركات واعترافات، حيث أن جسم غرايس العاري وهو على طرف السرير، جعلنا نتوقع أن “المحور” هي جزئيا قصة امرأة شابة تخسر عذريتها، ولكن تشعر بالعار أمام أمها، ثم تتعرض للإهمال من صديقها المغرم الذي تحبه - وهذا حادث يترك إشكالات تطبع بقية حياتها. ولو كان الكاتب غير مونرو، يمكن أن تتحول الحكاية إلى مشكلة ميلودرامية أو عاطفية أو/ وإلى موقف محرج. ولكن لم يحصل ذلك. لماذا؟. لأن الكاتبة عالجت بمهارة المفاجأة وخيط التشويق والعناصر النقدية في كل المواقف، وكذلك أيضا وعلى وجه الخصوص كانت واضحة فيما يتعلق بسرد العلاقات الحميمة. والاستراتيجية الثانية المتبعة هي الصياغة - تنوعات النغمة والنبرة. فلحظات مونرو عن الحميمية في العلاقات لم تكن بنبرة واحدة. وكانت إيروتيكية ومباشرة، وأيضا حساسة ومحرجة، وفي نفس الوقت مثيرة وبديهية. لقد استعملت مونرو الصور المتقابلة واللغة وووجهة النظر لتحريض المشاهد القائمة على تيار من العواطف المتجانسة. وبصياغة هذه المشاهد صوتيا وبأدوات أخرى، خلقت على الصفحة أقرب المشاعر لتضمن وجودها، ولتكون واحدة من الشخصيات. وهذه الجهود المبذولة لمضاعفة استيعاب مشاعرها سهلت عليها امتلاك عدة أحاسيس في نفس اللحظة، كما فعلت غالبا خلال الخبرات المكشوفة علنا. إن كتابة المشاهد الحميمة، تسهل العودة إلى الأفكار الشائعة، والكليشيهات، أو الافتراضات الثقافية. مجددا، هذا ينطبق على كل الكتابة السردية، ولكنه يكون ممكنا وأكثر احتمالا حينما نصل إلى اللحظة الحميمة، وهو شيء يعود للظهور في كل مكان وغالبا في الحياة المعاصرة. في الثقافة نحن أحيانا نتقبل أفكارا معينة عن الروابط البشرية وكأنها “ظواهر” ولو لم نفهم فحواها. ويمكن هنا أن نسأل أنفسنا: هل أنا ككاتبة، أتبنى دون تفكير أفكارا نمطية عن الشعوب، ومنها الرغبات والعلاقات؟. وهل هناك أية طريقة لأنظر لتلك الافتراضات أو المواقف الحميمة من زاوية مختلفة، إن لم أعيد التفكير بها وبأساساتها؟. وهذا يدخل في نطاق أن تكون أصيلا وأن تكون صحيحا. وفي كتابها “فن العلاقات الحميمة” تناقش ستايسي دي إراسموس هذه النقطة العميقة باستطراد. وتذكر قائمة من الأمثلة عن “فكرة العاطفة الحميمة” مثل: افتراض مسبق أن الحب المنزلي بين الجنسين، وحب الأطفال، هو مثال عن السعادة عند الجميع. أو الافتراض الثقافي أن الأعراق والأعمار وأحجام الأجسام لا تتفق مع بعضها بعضا. وتتابع فتقول:
يمكن للمرء أن يعيد النظر بالأفكار النمطية عن الجنسانية في العلاقة الحميمة: أن المرأة تفكر بالحب فقط وأن الرجل يفكر بالجنس فقط، وأن النساء أفضل من ناحية العواطف بالمقارنة مع الرجال. وأن الصداقة النسوية دائما عرضة للمنافسة الضارة ولا سيما فيما يخص لفت انتباه الرجال. وأن البنات هن تكرار للأمهات. ولكن الآباء يهملون أبناءهم. وأن النساء متطلبات ولجوجات، وأن الرجال يخيبون الأمل وأنانيون وهكذا. وحينما يصل المرء لهذه الأسئلة يمكنه أن يعيد النظر بالهوية الجنسية وبالجنس: مثل فكرة أن الرجال كلاب والنساء ضحايا. والجنس بالزواج مضجر والخيانة الزوجية مشوقة لكنها تنطوي على عاطفة مزيفة. وأن النساء مستميتات للزواج، والرجال المثليون مدهشون ومتقلبون، والنساء المثليات أليفات جدا ومخلصات. والخناث غشاشون وليسوا مدعاة للثقة، وربما الثقة غير موجودة بينهم حقا... والجنس الحقيقي بين العشاق وأي جنس آخر يكون سطحيا وفارغا. وأن الحب لليلة واحدة يدفعك للحزن والشعور بالانطواء في اليوم التالي. وأن الرجال الذين لهم شريكات شابات محظوظون والنساء مع شركاء شباب مدعاة للشفقة وربما أجرين عمليات تجميل فاشلة. والأمهات بلا حياة جنسية. والآباء لا يحصلون على كفايتهم من الجنس ولا بد من أن يفكرون بالمربيات ( الإناث الصغيرات والغبيات وأحيانا المعتدلات بجمالهن). وهكذا....
ومن الواضح أن دي إراسمو تشير أساسا في قائمة الأفكار النمطية إلى العلاقات ذات المضون الرومنسي، ولا يزال يوجد الكثير من الافتراضات الثقافية ومن كل الأنواع والتي يمكننا إعادة النظر بها وإدراجها في أشكال توجيه آليات الكتابة.

كريستينا وارد - نيفين Christina Ward-Niven كاتبة روايات أمريكية تعيش في شارلوتسفيل، فيرجينيا. تحمل درجة الماجستير في فن الرواية من جامعة وارين ولسون.


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow