Alef Logo
ضفـاف
              

الطب والقيم

سلام كواكبي

2020-03-14


في برنامج تلفزيوني، أتاح له أن يستفيض في توضيح وجهة نظره، كما موقفه في ما يتعلق بالحالة الإنسانية الكارثية التي يعيشها مئات آلاف من المدنيين السوريين الذين جُلّهم من الأطفال والنساء والمسنين في منطقة إدلب، كما على الحدود مع تركيا، توقف الطبيب المتخصص في جراحة الحروب والمتقاعد من الجيش الفرنسي، رافاييل بيتتي، لحظات عن الكلام، وبدأت شفتاه بالارتجاف، وبكى بحرقةٍ، وهو ينتقد الموقف الهلامي للرئيس الفرنسي، ماكرون، إزاء ما يحصل قائلاً بصوت دامٍ: "لدينا قيم، ولدي تصور لما يجب عليه أن تكون فرنسا وقيمنا".
هذا الطبيب الجنرال المتقاعد، والذي رفض وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى الذي منحه له رئيس الجمهورية قبل أشهر، احتجاجاً منه على السياسة الفرنسية بخصوص إدارة ملف اللاجئين والمهاجرين عموماً، قضى أياماً طويلة في الداخل السوري، كما في المناطق الحدودية من الجانب التركي، وهو يجري عمليات جراحية صعبة للغاية، لمن وقعوا ضحايا للقصف الأعمى للمليشيات المرتبطة بدمشق من كل الأجناس، كما للضحايا الذين طاولهم القصف الروسي منذ 2015، والذي استهدف متعمدا كل مراكز الحياة من مشاف إلى مستوصفات إلى ملاجئ... وكان رافاييل بيتتي لا يبخل، عند عودته إلى فرنسا، في الشهادة أمام وسائل الإعلام، كما البرلمان، كما الرئاسة الفرنسية في الإليزيه، بما شاهد وعاش، ولكن دائما من دون جدوى تذكر، خصوصا بعد أن صُبِغَت سياسة الإليزيه الماكرونية بواقعية وزير الخارجية السابق السينيكي، هوبير فيدرين، كما اهتمام وزير الخارجية الحالي، جان ليف لودريان، بتأمين صفقات السلاح لفرنسا، ونصائح رجال أعمال من المنطقة، ينتظر رأسمالهم اللحظة التي تتيح لهم الانقضاض على الأنقاض، كغربان الموت، للاستفادة من عملية إعادة بناء مجزية.
ليس الطبيب المتقاعد ساذجاً، ولا يُجَمِّل ما يراه عن كثب، خلال زياراته المتعاقبة، في حديثه عن المسارات المتعرّجة للثورة السورية، ولا ينفي بروز عناصر وجماعات متطرّفة استغلّت المقتلة
"رافاييل بيتتي هو اسم سيُخلّده التاريخ على أنه انتصر للإنسان وللحقيقة وللحرية. أما الطبيب السوري، فسيُخلّده التاريخ، في صفحاته السوداء" والدمار، لتفرض نفسها منقذة/ قاتلة لأحلام ملايين السوريين بالحرية والكرامة. ولكنه أيضا ليس غبياً، لكي يحصر الحراك الاحتجاجي والثورة من أجل الحرية بمجموعات متطرّفة تُرهب مجتمع الثورة، قبل أن تُرهب أعداءه، كما أنها تمارس بحق المطالبين بالحرية سياسات الأنظمة الطاغية بحجج دينية واهية ومشوهة. وعلى الرغم من أن هذه الجماعات قد حازت تعاطف بعض السذّج، أو المشوّهة مفاهيمهم الإنسانية والسياسية، من المعارضين السوريين، إلا أن رافييل بيتتي كان صريحاً في التمييز بينها وبين السوريين المطالبين بحريتهم، ولم يقع في فخٍّ لطالما نادى بعض من السوريين إلى الوقوع فيه.
ليس رافاييل بيتتي وحيدا في هذا المضمار، فهناك عشرات من الأطباء السوريين المهاجرين الذين سخّروا جزءاً كبيراً من وقتهم لكي يقوموا بزيارات متعاقبة أيضا إلى أرض الموت ليساهموا في ولادة الأمل. الفارق ربما هو في رمزية الرجل، والتي تسمح له بأن يكون حاضرا في الإعلام، وتعطيه مجالاً أوسع، لكي يكون ذا مصداقية بعيون الرأي العام الفرنسي.
في يوم مقابلة هذا الإنسان وبكائه الذي أُغْرِقَت بدموعه وسائل التواصل كافة، دعاني لوغاريتم "يوتيوب" إلى متابعة لقاء أجراه طبيب سوري مقيم في حلب، ويمارس عمله، من دون انقطاع، في علاج المرضى في عيادته الخاصة، كما في مشفى خاص، كما في جمعيات خيرية عدة. هذا الطبيب "الإنسان" معروف بإيجابيتين، لا يمكن نقضهما: مساهمته في العمل الخيري دائماً، ومستواه العلمي الرفيع. ابن العائلة الطبية الكبيرة، حيث إن والده كما إخوته كانوا أو هم أطباء، وإثر حادث مؤلم لم تكشف خلفياته، وإنما يُعتقد أن عناصر متطرّفة كانت مسؤولة عنه، فقد أخاه الطبيب "الإنسان" أيضا في بداية المقتلة السورية. ومنذ ذاك الحين، صار "بوقا" مثقوباً للدفاع عن الاستبداد ولترويج المستبد. ولمعرفته المتينة بلغة فولتير، استطاع هذا الطبيب أن يُدعى إلى محافل دينية كنسية في الغرب، عن طريق الشبكات التقليدية التي تعكس مشاعر اليمين المتطرّف الفرنسي كما سواه، والتي تدّعي أن أفضل طريقة للحفاظ على مسيحيي الشرق هي في استدامة حكم الطغاة ومبايعتهم في السرّاء والضرّاء.
وفي المقابلة التي أجبرني اللوغاريتم على متابعتها، كانت المذيعة تسأل الطبيب السوري عن
"ليس رافاييل بيتتي وحيدا في هذا المضمار، فهناك عشرات من الأطباء السوريين المساهمين في ولادة الأمل""ادعاءات المعارضة أن جيش النظام يقوم بجرائم ضد المدنيين"، فرفض الإجابة، قبل أن يتوقف عند كل كلمة وردت في السؤال، كما يفعل مرشده الأعلى في دمشق، حيث عبّر عن شديد رفضه عبارة المعارضة، مرفقا رفضه بوصفهم بالإرهابيين. كما رفض توصيف جيش النظام، مدّعياً أنه جيش الدولة الشرعية والوطن. وأخيراً، هؤلاء المدنيون هم إرهابيون أو هم جزء من الحاضنة الاجتماعية للإرهاب "الطائفي المتطرّف".
طبيبان أدّيا القسم نفسه، وسخّرا حياتيهما لعلاج المرضى والمحتاجين. طبيبان اقتنعا بالعمل الخيري لصالح من هم في أمسّ الحاجة. ولكن رافاييل بيتتي هو اسم سيُخلّده التاريخ على أنه انتصر للإنسان وللحقيقة وللحرية. أما الطبيب السوري، فسيُخلّده التاريخ، في صفحاته السوداء، بوقا إعلاميا تبريريا للموت الأعمى في سورية. تاريخ القيم لا يصنعه المنتصرون، وإنما حَمَلة القيم.
تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

انقلاب عسكري في فرنسا؟

08-أيار-2021

حرية التعبير .. مجدداً

24-كانون الثاني-2021

وكأنها المؤامرة؟

24-تشرين الأول-2020

الطب والقيم

14-آذار-2020

من تحت الدلف إلى تحت المزراب”

24-آب-2019

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow