ترجمات ألف ليلة وليلة وسؤال الرغب
ميشرافي عبد الودود
خاص ألف
2020-04-24
تصدر المجلة المحكمة "أوروبا" سبع مرات في السنة. بالنسبة لقرائها، كل عدد هو وعد باكتشافات جديدة، ومتع جديدة في القراءة. تنوع الموضوعات المطروحة للنقاش والإضاءات النقدية يشكل دائماً قاعدتها الذهبية... ومع ذلك، لا يقتصر إصدار العدد من "أوروبا" على هذا الملف الكبير! حريصة على ربط التفكير النقدي بالإبداع المعاصر، تعمل المجلة في الواقع على نشر "دفاتر الإبداع" بانتظام، مفسحة المجال للقصة القصيرة، والنثر، والقصائد غير المنشورة، بأقلام فرنسية وأجنبية. كما يقدم كل عدد من المجلة سلسلة من "الأعمدة" المكرسة للرواية والشعر والمسرح والموسيقى والسينما والفنون التشكيلية. وأخيراً، يكمل باب "قراءات الكتب" هذه الصورة البانورامية الواسعة للحياة الأدبية والثقافية.
بريد مجلة "أوروبا" لم يتأخر عن موعده الشهري، وعن أجيال من قرائه الأوفياء منذ عام 1923، سوى فترة قصيرة إبان الحرب العالمية. في عام 2012، أصدرت المجلة العدد 1000.
يحمل العدد 1089 - 1090، ما قبل الأخير في 2020 عنوان "ألف ليلة وليلة"، اخترنا منه ترجمة هذه الدراسة.
إدجار ويبر: أستاذ فخري للغة العربية في جامعة تولوز وستراسبورغ، بعد أن أمضى عشر سنوات في لبنان. يدرس اللغة والحضارة العربيتين في فرنسا. كتبه تناضل من أجل فهم أفضل ومعرفة متبادلة بين أوروبا والعالم العربي والإسلام. في هذه المرحلة المضطربة من المواجهات التي يثيرها المتطرفون الدينيون والقوميون، تدخلاته النقدية هي دعوة للإنسانية الضرورية، وهو مؤلِّف لعديد الأعمال حول الإسلام والعالم العربي والأساطير. من بينها: "سرّ ألف ليلة وليلة"، 1987، "المتخيل العربي والحكايات الجنسية"، 1990، "ألف ليلة وليلة، القراءة والمعنى"، 1991، "القاموس المصغر للميثولوجيا العربية والمعتقدات الإسلامية"، 1996، "حرب لبنان"، 2000.
***
سحرت ألف ليلة وليلة الذاكرة الجماعية لأكثر من ألف عام. مخطوطاتها الأولى المعروفة حتى الآن تعود للقرن التاسع، وأول ترجمة إلى الفرنسية قام بها أنطوان غالان ما بين 1704-1717 تستند إلى مخطوطة من القرن الخامس عشر. بفضل هذه الترجمة، اكتشف الغرب هذه المجموعة الرائعة من الحكايات بجذورها البعيدة الممتدة إلى التقاليد الهندية البعيدة التي يمتدّ تاريخها إلى القرن الثالث قبل الميلاد. ستظهر بعض هذه الحكايات في كتاب "هزار أسفانة"، وهو تأليف فارسي يعود للقرن الثالث، قبل ترجمتها إلى العربية، وإثرائها في دوائر بغداد والقاهرة.
مصير هذا الكتاب غريب. بينما تقوم دول الغرب بترجمة هذه الحكايات، وتجد فيها مصدر إلهام للأوبرا والموسيقى والمسرح والفن التشكيلي والرسوم الإيضاحية، لا تزال بعض دول
"بينما تقوم دول الغرب بترجمة هذه الحكايات، وتجد فيها مصدر إلهام للأوبرا والموسيقى والمسرح والفن التشكيلي والرسوم الإيضاحية، لا تزال بعض دول الشرق الأوسط تكافح لتنقيح بعض الفقرات"
الشرق الأوسط تكافح لتنقيح بعض الفقرات التي تعتبرها مخلة بالآداب للحد من التأثير الذي يمكن أن يفسد أخلاق الشباب. تكررت الهجمات ضد هذا المصنّف. في الثمانينيات، في مصر وحدها، حاولت السلطات الدينية، لحسن الحظ بلا جدوى، حظر إصدار وانتشار الليالي. في عام 2010، استناداً إلى مادة في قانون العقوبات تعاقب بالسجن لمدة عامين كل شخص يرتكب "بالتحديد" جريمة مخالفة الآداب العامة، دعت مجموعة من المحامين إلى مصادرة هذا المؤلف بشكل نهائي، وعدم التهاون في متابعة الناشرين قضائياً. إن عدم الثقة في "ألف ليلة وليلة" من طرف السلطات الدينية، التي ترى في الجنس الشر المطلق، ليس مفاجئاً. ومن المؤسف أن الأكاديميين العرب لم يتمكنوا سوى منذ عهد قريب من وضع الدراسات العلمية لهذه الحكايات في مناهجهم الدراسية.
كيف نفهم هذا الوضع؟ دعونا أولاً نلاحظ أنه في الشرق، كما في الغرب، كان الجنس خاضعاً للحظر، ولقواعد تنظيمية، منذ ظهور التوحيد. فقط في الأزمنة المعاصرة، في الغرب أكثر من أي مكان آخر، تمت المطالبة بحرية جنسية علانية. ومع ذلك، لا تزال تيارات تقليدية كثيرة تعارضها وتدين هذا التطور في الأخلاق. يتمثل أحد جوانب الصراع الدائم بين القانون والرغبة في قمع النشاط الجنسي المشتبه في كونه مرتعاً للشر والخطيئة.
لا يوجد مجتمع بشري من دون قانون يحدد القواعد ويحدّد المباح والمحظور. من دون القانون، ستعمّ الفوضى. عرفت المجموعات البشرية الأولى هذا أيضاً. أي تجمع بشري من الذكور والإناث استطاع البقاء على قيد الحياة بإباحة القتل والاغتصاب وزنا المحارم، إلخ.. داخله؟ الثقافات التوحيدية برّرت القانون ومحظوراته، من خلال ترسيخه في نص مكتوب، يعدُّ ترجمة للإرادة الإلهية. وبالتالي كان تنظيم المجتمع في المقام الأول مسألة هذه الإرادة الإلهية.
بين عصر النهضة وعصر الأنوار، ظهرت تدريجياً رؤية مغايرة للمجتمع في الغرب. لن يتم التفكير في تنظيم المجتمع من خلال إرادة إلهية، ولكن من خلال إرادة بشرية متطورة ديمقراطياً. أصبحت الحرية بالمعنى الواسع، حتى في مجال الجنس، ممكنة الآن وفقاً للخيارات التي تضطلع بها الديمقراطيات.
لا تزال بعض دول الشرق الأوسط تكافح لتنقيح بعض الفقرات من ألف ليلة وليلة
إذا كان المجتمع لا يمكن أن ينوجد من دون القانون، فمن الصحيح تماماً أنه لا يمكن أن يعيش من دون رغبة. يمكن توسيع هذا المفهوم الذي يحتوي على تعقيد ثري ليشمل الاشتهاء والتوق والجاذبية والحب واللذة، وكل هذه القوى التي تدفع البشر إلى التعايش والمشاركة، وربط مصيرهم بمصير الآخرين. في مجال الجنس، لا ترتبط الرغبة فقط باللذة والاستمتاع بها، بل في كونها مصدر الحياة ذاتها واستمرارها. كمصدرٍ للحياة، فالرغبة جزء لا يتجزأ من العلاقة الحميمة التي تتطلب الاحترام المطلق. الإنسان الذي لم تعد تُحترم خصوصيته، ذكراً كان، أو أنثى، يتردّى إلى مجرد حيوان، أو شيء. كما أنه يخضع لجلاده الذي ينفيه، باعتباره موضوعًا. يخبرنا عالم الاجتماع، أو اختصاصي التحليل النفسي، أن الإنسانية استغرقت زمناً طويلاً لبلوغ مرحلة الموضوع، ولم تظل مجرد عضو في حشد، أو جماعة، يتعين خضوعه لها بشكل أعمى. في هذا المستوى، لا يمكن الخلط بين الرغبة والنزوة، أو الهوى المفاجئ، ولا أي شذوذ في خدمة أنانية لم تعد تحترم القانون في الغالب. قد يكون المجتمع المثالي والمتناغم مجتمعاً لا يَسحق فيه القانون الرغبة، ولا تنتهك فيه الرغبة. وبما أن هذا التوازن لم يتحقق أبداً، فسيظل إلى الأبد يتم تحديده والسعي وراءه.
مجمل النشاط البشري يحدث داخل الإطار الذي ذكرناه للتو. إلا أن النشاط الجنسي يوجد بامتياز في هذه الدينامية المنافسة والمتضادة مع القانون والرغبة. يعكس الأدب بالمجمل هذه التضادية التي يواجهها كل فرد في حياته. يمكننا الإضافة أن ثمة أدب القانون في الوقت نفسه الذي يوجد فيه أدب الرغبة. إذا تم اختزال الأول في نصوص قانونية، فإن الثاني، من ناحية أخرى، يتشكل من أنواع متعددة من الشعر والرواية والمسرح ورواية الحكايات. ماذا سيكون الشعر، أو الرواية، أو المسرح والحكاية، من دون استحضار وتمثيل الرغبة التي تنقلنا، خارج حدود القانون، في فضاءات الخيال والحلم والاستمتاع، والانفلات والحرية؟ الحكاية هي بامتياز النوع الأدبي الذي يسمح لهذه الحرية المطلقة، وهذا الانفلات من الحياة اليومية من خلال إدراج السرد، منذ الكلمات الأولى، في زمن آخر غير الحياة اليومية تحديداً. إن افتتاح الحكايات
"الثقافات التوحيدية برّرت القانون ومحظوراته، من خلال ترسيخه في نص مكتوب يعدُّ ترجمة للإرادة الإلهية. وبالتالي كان تنظيم المجتمع في المقام الأول مسألة هذه الإرادة الإلهية"
بالجملة "كان يا ما كان" يدل على الفور أن الراوي والمستمع أصبحا الآن خارج التسلسل الزمني للحياة اليومية، في مكان ما حيث كل شيء ممكن، وحيث يتحرك المرء كما في الحلم، بشكل تلقائي ومن دون قيود. وبالتالي يتم نشر شكل من الحرية المطلقة خارج هذا المنطق الذي يمارس باسمه القانون.
بقراءة الحكاية الإطارية فحسب، من الواضح أننا في هذا النص بإزاء مواجهة دقيقة بين القانون والرغبة. دعونا نتذكر بإيجاز محتوى القصة التي تعلن وتبرر تدخل امرأة شابة، شهرزاد، التي ستسرد لاحقاً القصص على امتداد ألف ليلة وليلة. لكن دعونا نحدد أكثر أن ألف ليلة وليلة ليست حكايات اخترعتها شهرزاد. إنها ليست سوى الفم الذي يلفظها، وتبقى الحكايات في الأساس منتجاً ذكورياً، وخطاباً ذكورياً يكشف بالدرجة الأولى كل مخاوف الذكور.
في الحكاية الإطارية لألف ليلة وليلة، يتعلق الأمر قبل كل شيء بملكين. لقد كانا شقيقين وعاشا منفصلين لمدة عشرين سنة، حتى اليوم الذي شعر فيه الملك الأكبر شهريار برغبة كبيرة في رؤية أخيه الأصغر شاه زمان، الذي سيغادر قصره دون تأخير لتلبية هذه الرغبة. حالما يخرج هذا الأخير "طالباً بلاد أخيه، تذكر حاجة نسيها في قصره، فرجع ودخل قصره. فوجد زوجته راقدة في فراشه معانقة عبداً أسود من العبيد، فاسودت الدنيا في وجهه"، "ثم استل سيفه وضرب الاثنين فقتلهما في الفراش، ورجع من وقته وساعته وأمر بالرحيل". عندما يصل شاه زمان إلى قصر شقيقه، وفي "باطنه جرح"، سرعان ما سيكتشف أن شهريار تخونه زوجته أيضاً. علاوة على ذلك، رفقة "عشرين جارية وعشرين عبداً وامرأة أخيه تمشي بينهم، وهي في غاية الحسن والجمال، حتى وصلوا إلى فسقية، وخلعوا ثيابهم، وجلسوا مع بعضهم". فلما أبلغه شقيقه بما جرى، "طار عقل شهريار من رأسه، وقال لأخيه شاه زمان: قم بنا نسافر إلى حال سبيلنا، وليس لنا حاجة بالملك حتى ننظر هل جرى لأحد مثلنا، أو لا، فيكون موتنا خيراً من حياتنا".
على الشاطئ حيث يترقبان الموت، لأنهما لم يلتقيا بعد برجل أكثر شقاء منهما، رأيا عفريتا "يخرج من بين الأمواج، على رأسه صندوق، فطلع إلى البر، وأتى الشجرة التي هما فوقها، وجلس تحتها، وفتح الصندوق، وأخرج منه علبة، ثم فتحها فخرجت منها صبية". يجيء هذا العفريت مرة واحدة في السنة لتحريرها على هذا الشاطئ. بمجرد أن تصير الفتاة في الخارج، تبصر الملكين المتخفيين بين أوراق الشجر. وتجبرهم بدورهم على مضاجعتها بالتناوب، في غفلة من العفريت النائم. هذا الاجتماع غير المتوقع يجعل الملكين يفهمان أن هناك بالفعل شخصاً على الأرض أكثر شقاء منهما. بالعودة إلى القصر، لا يعاقب شهريار الملكة الخائنة والعبيد المتواطئين فحسب، بل يأمر وزيره أن يحضر له كل مساء فتاة عذراء يفض بكارتها، ثم يسلمها إلى الجلاد مع شروق الشمس. الوقت يقترب عندما لن يكون هناك مزيد من العذارى في المدينة، وستتعرض حياة الوزير للخطر. لكن هذا الوزير لديه ابنة اسمها شهرزاد، التي تشعر بمحنته. وعندما أجبرته على كشف السبب، طلبت منه أن يعرضها على الملك من أجل إنقاذ بنات المملكة. تبلغ شهرزاد على الفور أختها دنيازاد بأنها ستحضرها إليها بمجرد وصولها إلى منزل الملك. وعندما ترى أن شهريار قضى وطره منها، سيتعين على دنيازاد أن تطلب من الملك السماح لأختها برواية حكاية. هكذا تستطيع شهرزاد الآن أن تسرد حكاياتها على امتداد ألف ليلة وليلة.
لا يخفى على أحد أن النقطة المركزية في هذه الحكاية الإطارية هي مسألة جنسية. يتم خداع الملكين من قبل زوجاتهم عندما يذهب شاه زمان في رحلة، وشهريار للصيد. من خلال الابتعاد عن القصر، بشكل رمزي، يترك كل منهما مكاناً فارغاً خلفه، حيث يمكن للآخر أن يشغله. في الواقع، بعد مغادرته مباشرة، لاحظ شاه زمان أنه تم استبداله بالفعل في سرير الزفاف بعبد أسود. هذه التفاصيل ليست مجانية، كلاهما يمثل التطرف في المجتمع؛ الملك مقابل العبد. ويتم تعزيز هذا المعطى بلون بشرتهم. العبد يرمز للمغاير الكلي للملك. في مخيال الليالي يتصف السود بطاقة جنسية فريدة. مما يوحي بسهولة أنه لا ينطبق الشيء نفسه بالضرورة على الملوك. كيف نتفاجأ عندما ترغب النساء في معرفة هذه الطاقة الجنسية؟ لأنه، دائماً في مخيال الليالي، النساء متطلبات بشكل خاص، ومن الصعب إشباع رغباتهن. يصبح الضعف الجنسي،
"لا يخفى على أحد أن النقطة المركزية في هذه الحكاية الإطارية هي مسألة جنسية. يتم خداع الملكين من قبل زوجاتهم عندما يذهب شاه زمان في رحلة، وشهريار للصيد"
أو العجز هنا، في نظام رمزي، استعارة للعجز السياسي. هل يمكننا الآن تخيل ملك بدون قوة؟ يواجه شهريار ذات المعضلة، والأسوأ من ذلك، بينما يذهب للصيد، يظل شقيقه شاه زمان حبيس شبابيك القصر، يسمع فجأة الملكة تصيح "مسعود!" يا مسعود! فجاءها عبد أسود فعانقها وعانقته وواقعها، وكذلك باقي العبيد فعلوا بالجواري ولم يزالوا في بوس وعناق و(...)، ونحو ذلك، حتى ولى النهار". هناك تأثير مكبّر يضخّمه السرد مرة أخرى عندما يلتقي الملكان الفتاة التي أطلق سراحها العفريت على الشاطئ. في الواقع، لقد أجبرتهم على الخروج من مخبئهم في الشجرة بمجرد أن رأتهم: "انزلا ولا تخافا من هذا العفريت... بالله عليكما أن تنزلا، وإلا نبّهت عليكما هذا العفريت فيقتلكما شر قتلة!"، "فخافا ونزلا إليها"، "فقامت لهما وقالت: ارضعا رضعا عنيفاً وإلا أنبه لكما العفريت". يتم التأكيد على الشبق الجنسي للفتاة بشكل خاص عندما تطلب من كل من الملكين خاتمهما لإضافته إلى عقد مكون من 570 خاتماً! شارحة لهما السبب: "أصحاب هذه الخواتم كلهم كانوا يفعلون بي على قرن هذا العفريت، فأعطياني خاتماكما أنتما الاثنان الأخوان". يمكن للملكين أن يستنتجان من الآن فصاعداً: "إذا كان هذا عفريت وجرى له أعظم مما جرى لنا، فإن هذا شيء يسلينا".
وفقاً للنص، فإن الملكين تأسيا وهان عليهما سوء حظهما من خلال تناوبهما على خداع كائن خارق أقوى منهما! وبالتالي، فإن العفريت أحرى بالشكوى منهما، لأنهما تمكنا من التلاعب بقوته. ولكن هل أقتنع شهريار حقاً؟ بعد مشهد العفريت، يعود إلى قصره ويقتل ليس فقط المتواطئين المذنبين، ولكن أيضاً الفتاة التي يحضرها الوزير كل ليلة.
لقد أشرنا حتى الآن، أن شاه زمان وشهريار يواجهان مشكلة العجز الحقيقي، أو المتخيّل. لا فرق بالنسبة للحكاية التي تتخفى وراء القانون لتبرير قتل الزيجات والفتيات في سن الزواج. ولكن ماذا عن شهرزاد "التي قرأت الكتب والتواريخ وسير الملوك المتقدمين وأخبار الأمم الماضين"، ويقال "أنها جمعت ألف كتاب من كتب التواريخ المتعلقة بالأمم السالفة والملوك الخالية والشعراء". وكانت "تتميز بالفصاحة وإمتاع المستمع إليها"، ومن الملاحظ أن الرواية لا تقدم لنا أي وصف مادي لشهرزاد. هل كانت تمتلك جسداً جميلاً؟ هل كانت رائعة كنساء ألف ليلة وليلة في كثير من الأحيان؟ لا نتوفر على أية معلومات مفصلة. من ناحية أخرى، تشدّد الرواية على فصاحتها العظيمة وذكائها الخارق ومعرفتها الواسعة. إن ذكاءها الخارق يتجاوز مقدرة الدهاء الهائلة التي يفترض أن تمتلكها النساء. ألا يرد في القرآن نفسه بخصوص النساء: "إن كيدهن عظيم"؟ في العديد من الحكايات، تلجأ المرأة بشكل خاص إلى الحيلة، مثل دليلة المحتالة، لتحقيق الهدف المنشود، وغالباً ما يكون هذا الهدف سلبياً. شهرزاد تسعى باستخدام الحيلة المتفق عليها سلفا مع دنيازاد إلى تحقيق هدف إيجابي، لأنها تريد إنقاذ بنات المملكة من القسوة الوحشية للملك. وتتعامل مع فن الخطاب، بشكل رائع. لكن هل ينبغي علينا أن نستنتج أنها تجسِّد المماثل الأنثوي للمتحدث البارع؟ لا يمكن لهذا التساؤل أن ينقذ بنات المملكة بأي حال من الأحوال، لأن المسألة تتعلق بخلاص بنات المملكة، إزاء خطر التعرض لوحشية الملك التي كشف لها عنها والدها. لكن لا يبدو أن خطر الموت يؤثر في شهرزاد. "بالله يا أبتي، زوجني هذا الملك، فإما أن أعيش أو أكون فداء لبنات المسلمين وسببا لخلاصهم
"يقال إن شهرزاد "جمعت ألف كتاب من كتب التواريخ المتعلقة بالأمم السالفة والملوك الخالية والشعراء"
من بين يديه!". لقد وضعت شهرزاد سيناريو دقيق للغاية. كانت تعي أن الملك سيفضّ بكارتها بالتأكيد، ثم يتم تسليمها للموت، لكن بمعرفتها أيضا بسحر وقوة الكلمة، تتفق مع أختها دنيازاد التي أوصتها: "إذا توجهتُ إلى الملك أرسل أطلبك، فإذا جئت عندي ورأيت الملك قضى حاجته مني، فقولي يا أختي حدثينا حديثاً غريباً نقطع به السهر، وأنا أحدثك حديثا يكون فيه الخلاص إن شاء الله". الملاحظ أن ترجمة ماردوس هنا تحترم النص العربي بشكل مثالي.
كل الدلائل تشير إلى أن شهرزاد تعدّ استراتيجية فعالة من خلال وضع نفسها على خشبة المسرح بحضور أختها الصغيرة التي لم تبلغ سن الزواج بعد. هذه الأخيرة، بسبب صغر سنها، لا تفهم نوعية الرغبة التي سيتوافق عليها الملك وشهرزاد قريباً. تترفع شهرزاد عن كل احتشام من خلال إعادة إنتاج المشهد [الجنسي] البدائي (فرويد) ومن ثم تقديم نفسها كمثال متفرد للفجور. هل يتعلق الأمر بمشهد تلصصي، حيث يستدعي استمتاع البطلة وجود متفرج ليس سوى أختها في هذه الحالة؟ في جميع الأحوال، يمكن أن نتساءل عن رغبة شهرزاد. ماذا لو أثارت الحياة الجنسية الفظة للملك رغبتها الخاصة؟
ثمة إشارة ينبغي تسجيلها على الفور. جميع العذارى اللواتي تمت التضحية بهن لم يتفوهن بكلمة واحدة، وفقاً للنص. وحدها شهرزاد تتكلم. إنها تعرف أن حميمية الجنس ليست كافية للرغبة. هنالك شيء آخر مطلوب لشحذ الفنتازم بمجرد تعانق الأجساد واستنفادها واستهلاكها في متعة عابرة. مفتاح اللغز الذي يعيد تنشيط دورة الفانتازم هو الكلمة في الأساس. الكاتب دانييل سيبوني عرف كيف يختزل ذلك في بضع كلمات في كتابه "الأنثوي والغواية": " الكلام يشحذ الرغبة، والرغبة تشحذ الرغبة في الكلام".
في هذه الديناميكية الجديدة للنص، فإن دنيازاد ليست مجرد طرف في إخراج مسرحي، إنها ذريعة الكلام مثلما الحكاية الإطارية ذريعة ألف ليلة وليلة. لو لم تطلب دنيازاد من الملك حكاية شهرزاد، لما سمع الملك شيئاً من فم راوية القصص. كان يمكن أن تكون مجرد جسد آخر شبيه بالجسد الذي اختُزلت فيه العذارى. لكن من خلال طلبها من الملك إذناً لشهرزاد لرواية حكاية، تلعب دنيازاد دوراً أساسياً، مما سيتيح الفرصة للملك لسماع آلاف الحكايات التي لن يشك فيها الأبطال في مقدرتهم. لا تحوّل دنيازاد أختها إلى موضوع رغبة قابل للاستهلاك ومنتهي الصلاحية بعد الاستعمال، بل إلى محل رغبة، حيث يتم اكتشاف شيء جديد، والاستماع إليه، في جميع الأوقات. وبالاستماع إلى الحكايات، ليلة بعد أخرى، يستمع الملك لقصته فقط، وحياته، ومخاوفه، وأوهامه والواقعي.
من خلال سماع قصتك، بشكل رمزي، كيف لا يمكنك أن تظل يقظاً، وأن تكون مفتوناً بكل شيء يقدم نفسه على أنه خارج زماننا ومكاننا؟ بلا شك، لأنه هنا حيث يحدث ذلك بالفعل. ومما لا شك فيه أيضاً أنها مجرد أجزاء من وجودنا، حيث تعيدنا الرغبة بلا هوادة إلى خصوصيتنا. إنها حميمية غامضة تنجذب إلى التي لدى الآخر، لا كجسد أخرس يتم اختزاله إلى عضو تناسلي مفتوح، ولكن ككلمة مشحونة برغبة مليئة بالأحلام.
بالكلمة تتمكن شهرزاد في نهاية المطاف من إنقاذ الأرواح بالفعل، من خلال حمل الملك على التعرف على شيء آخر غير الجسد الأخرس الذي لا يمنح شيئاً للرؤية. تفتح آذانها ووجدانها للكلمة؛ مفتاح الرغبة الأبدية التي تنقذ شهريار من أوهامه القاتلة التي لا تروي عطشها سوى من القانون.
لا تزال شهرزاد تمارس مهمة إنقاذ الأرواح منذ ألف سنة وسنة، ولا سيما القارئ، أو المستمع، الذي يتهدده الملل وتعب الحياة. كما تتيح له الحلم بإمكانيات لن يسمح بها القانون أبداً.
ترجمة: ميشرافي عبد الودود.