Alef Logo
الغرفة 13
              

عن قنبلة سليم بركات الموقوتة

حسين بن حمزة

2020-06-27


لا تحتمل "قنبلة" سليم بركات الموقوتة فحصا مخبريا يجسُ النوايا ويختبر ما وراء القصد، فتلك مهمة إلهية لسنا من يقررها ولا يستطيع غيرنا. هي قنبلة انفجرت في ضريح درويش الحجري وتراشقت آثارها على محبي شعره الذي لم يزل كما كان في حياته وجدان الفلسطينيين والعرب وضميرهم الحي، الجميل والعبقري في التعبير عن قضيتهم التي طالما نجح الشاعر الراحل في تقديمها للعالم باعتبارها تراجيديا العصر وجريمة القرن العشرين وقرننا الذي نعيشه اليوم.
لا يجوز أيضا أخذ القضية بتبسيط ساذج يمكن أن يحيلها إلى ضرورة فصل حياة الشاعر وسلوكه الواقعي اليومي عن نصه، فالأمر هنا يطال تلويث النبع الأساس الذي تقاطرت منه قصائده والذي ينسف صفاءه ويجعله محل مساءلة عن صدقيته ما يجعلني أنفي بالمطلق وبالتفاصيل الجزئية صحَة الواقعة والتهمة برمتها وأنفي معها حكاية أن المقالة كتبها سليم بركات منذ سنوات طويلة ولم ينشرها عام كتابتها أي عام 2012 بل وأشير إلى غرابة نشرها اليوم.
هل أصدق حقا أن بركات ارتكب "غلطة الشاطر" ففعل ما فعل دون تقدير حصيف لأبعاد ما يترتب على تصديق خبره الصاعق عن محمود درويش؟
بصراحة لست ساذجا حتى أعتقد ذلك ولا أظن محبي درويش وقراءه ونقاده سيفعلون ذلك فلا النوايا الحسنة ولا سوء التقدير هما من دفع إلى تلك "الإرتكابة" الرهيبة، وسأقول هنا بوضوح ناصع إن "التهمة" التي توجَه للراحل محمود درويش تصيب بشكل مباشر صدقية الرواية الوطنية الفلسطينية برمتها، فدرويش الإنسان رحل عن عالمنا وترك لنا وللعالم شهادته الجمالية والفنية والتي تتلطخ كثيرا بذلك السلوك المشين والمناقض للإنسانية؛ إذ كيف لمن يتنكر لأبوّة ابنته المفترضة أن يكون صوت الجراح والعذابات لشعب يرزح تحت ثقل تراجيديا غير مسبوقة في التاريخ.

"لم يكن محمود درويش ملاكا كي تندفع "قنبلة موقوتة" إلى تقطيع أوصاله وتحويله إلى نقيضه الإنساني"
أنا شخصيا لا أصدق تلك الواقعة ولن أدخل في جدل "جنائي" عن احتمالاتها فقد تعلَمت من كتابة الشعر أن الكاتب يستطيع أن "يكذب" في الكتابة السردية (شبه العقلانية) وأن يهندسها كما يروق له، لكنه لا يستطيع فعل ذلك في الشعر وإن استطاع فلفترة وجيزة توصله بالضرورة إلى طريق مسدود. صوت القلب هو الشعر، وهو أيضا صوت الروح. عرفت محمود درويش منذ البدايات الأولى لخروجه من حيفا معرفة متقطعة وتصادمت معه في حالات كثيرة ومتعددة، بل كنت طيلة حياته لا أميل لمشاركته سهرة طويلة لأنني أعرف مزاجه الحاد وحتى عصابه الذي أوصلنا معه بعض الأحيان إلى "مناكفات" وغضب جعله يصرّ سنوات ليست بالقليلة على رفض نشر قصائدي في "الكرمل" حتى بداية عام 1987 حتى لقائنا في مؤتمر اتحاد الكتاب الفلسطينيين في العاصمة الجزائرية حين فاجأني بطلب تسليم قصائد لسليم بركات لتنشر في أول عدد قادم من هذه المجلة.
أحب محمود درويش الشاعر العظيم وأحب محمود الإنسان حين يصفو لكنني مع ذلك بقيت منذ رحيله "أتوجس" من أولئك الذين تحلَقوا ولا يزالون حول ضريحه والذين أسميهم "جمعية أحباء محمود درويش" والذي يوشكون أن يمنعوا أي أحد غيرهم من حب درويش، فهو "درويشهم"، بل أذكر أنني كتبت "بوستا" ذات يوم من وحي هذه الفكرة قلت فيه إنني أعرف رأي الراحل فيهم وهو رأي يوصلني إلى أن أصدقاء درويش الحقيقيين هم أشخاص لم "يحلبوا" تلك الصداقة ولم يستمطروها على بذارهم المسموم. هو لم يكن له طيف واسع من الأصدقاء وإن كان وظل له بعض من المخلصين للصداقة بالتأكيد ومنهم إلياس خوري وزياد عبد الفتاح الذي قدم لنا مؤخرا كتابه البديع عن درويش "صاقل الماس".
قال كثر من الأصدقاء والمبدعين آراء وتعليقات عن الواقعة وحولها لفت انتباهي بعضها الذي تمحور حول مصطلحات بنوَة سليم بركات لدرويش، بل إن الشاعر الصديق نوري الجرَاح تحدث عن "نديّة" سليم لدرويش وهو ذاته الذي سبق له – خلال حياة درويش – أن كتب مقالة ضد سليم بركات عنوانها "التابع".
محمود درويش شاعر آخر لا علاقة لتجربته الشعرية وعالمه الفني بتجربة سليم بركات وعالمه الشعري وفضائه، ففيما نهل درويش من حقول الحياة وينابيع الماء غرق بركات في استنطاق عبثي لحجارة القواميس اللغوية والمعاجم، فكان درويش صوت الحياة بما فيها من حيوية وظلت تجربة بركات مسكونة بتركيب الكلمات حتى عجزنا في مرات لا تحصى عن متابعة نصوصه. أقول هذا عن محمود درويش في مراحله الشعرية كلها، فهو في شعره الأخير فاجأ كثرا من النقاد الذين تمترسوا خلف تجربته الشعرية الأولى بوعي وذائقة جمالية باهرة حلق معها إلى فضاءات أخرى تنتمي لفكرة أن الشاعر إنسان من لحم ودم أو هو بكلمات درويش ذاته "يشعر بالبرد".
لم يكن محمود درويش ملاكا كي تندفع "قنبلة موقوتة" إلى تقطيع أوصاله وتحويله إلى نقيضه الإنساني فالشعر لا يخون ركائزه ونبعه حتى لو ذهب مبدعه إلى غايات قد لا يدركها البعض إذ أن حنين محمود درويش إلى حقه في الأبوة ظل دائما حاضرا لكنه في الوقت ذاته ظل مكبلا بظروفه الشخصية وبولعه الخاص بالشعر.
دعوا محمود درويش يسكن هانئا في ضريحه، وهانئا في نفوسنا كما عاش خلال حياته، وأنا على ثقة كاملة وإيمان عميق أن الكلمات التي تمشي في سطور قصائده قد انتقلت منذ لحظات نشرها فمشت في نسغ الشجر وندى الصباحات التي أظنه يحلم معنا أن تكون ندية في فلسطيننا يوما.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

عن قنبلة سليم بركات الموقوتة

27-حزيران-2020

هل أساء سليم بركات إلى درويش حقًا؟

27-حزيران-2020

قصائد دون سنّ الرّشد

27-نيسان-2019

قصائد دون سن الرشد

13-نيسان-2019

قصائد دون سن الرشد

23-آذار-2019

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow