Alef Logo
ابداعات
              

موت مدرس التاريخ العجوز

أحمد عمر

2021-01-09


كل شيء معتم. لا يمكنني أن أرى. ولا يمكنني أن أتحرك كذلك. وأعتقد أنني أتنفس لكن لست متأكدة تماما. لا يمكن أن أسمع. كان الجو صامتا صمت الأصم. هذا لا بد أنه يشبه الموت. كلا. لا يمكنني أن أكون ميتة. يجب أن أنتقل إلى العالم الآخر أولا. وسوف أعرف أنني أحتضر حينذاك، أليس كذلك؟. هذا على الأغلب حلم. على الأقل أتمنى ذلك، ولكن لماذا لا يسعني أن أستيقظ؟.

الآن أسمع صوتين. ولا يمكن أن أخبركم من أين مصدرهما. ربما هما في رأسي فقط. لهما نغمة كأنهما مني، مع ذلك هما مختلفان. أحدهما أنعم ونسوي. والكلمات تنساب برقة كما لو أنها أغنية وكل صوت يدغدغ حواسي. والآخر جامد وعلمي. محروم من العاطفة أو التأثير. وأتخيل أنه نابع من عقدة مؤنثة. الحوار أصبح مفهوما، وها أنا أصغي له، دون قدرة على التدخل فيه.

سأل الصوت الثاني:" ماذا سنفعل لها؟". إلى ماذا يشير هاء الغائب، هل أنا المقصودة؟.

ويجيب الأول:"حسنا، نحن لم نرد ذلك، أليس كذلك؟. ولكن من المؤسف أن نلقيه بعيدا".

"ولكن لا بد من مبرر لنحتفظ بها".

"وأنا معك. وبالتأكيد له مبرر ما". هل لي مبرر؟ طالما تساءلت عن ذلك ولم أجد جوابا شافيا.

"فعلا. تلك هي المشكلة. لا يمكننا أن نعرف المبرر".

"هل يوجد مبرر؟ وهل يوجد معنى؟".

هل لي معنى؟. أنا غير متأكدة من معنى ذلك. هذا لا يحمل أي مضمون.

خيم الصمت مجددا. وظهر أمامي ثلاثة أشكال. في البداية مجرد أشباح وكلما اقتربوا في كتلة واحدة يزداد الوضوح حتى استطعت رؤية كل واحد منهم بكل تفاصيله. ويبدو أن هذه الأشكال بشرية. كل منها يشبهني ومع ذلك مختلف عني وعن رفاقه.

الأول لبنت صغيرة. وترتدي أفرولا رثا من غير قميص ويداها الصغيرتان وقدماها العاريتان مغطاة بالأوساخ. نظرت لي بفضول بعينيها الواسعتين البراقتين وكانت ببالغ الاهتمام لأن لديها شيئا جديدا ستتفحصه. والتكشيرة البائسة على وجهها مثل السيراميك: عليك أن تكسر وجهها لتمحوها.

ولكن الشكل الثاني مرعب تماما. وأنا مضطرة لأتساءل هل هو بشري أم لا. ربما لرجل من عصر الكهوف. وربما امرأة من الكهوف. بالتاكيد إنها امرأة. صدرها عريض جدا. وجسمها العاري مغطى بكل أنواع الندوب والحروق، ومعظمها ليست متعمدة وكأنها للزينة.. ولها أيضا كلمات منقوشة على وجهها وصدرها. ولم أتمكن من فك شفرتها. وهي مكتوبة بلغة غريبة وأشعر أنه يجب أن أعرفها ولكن لسبب ما لم أفهمها. وكان شعرها طويلا، وغير مرتب ومشوش. وأشك أن المشط لمسه على الإطلاق. وفي كل يد تحمل إناء من الجعة. شربت أحدهما كله وألقت بالآخر في الهواء وهي تضحك. ضحكت بجنون. ولكن لم أسمع صوتها. ليس هناك صوت. حدقت بي بعينين تلتهبان بالنار. يا لها من نظرات مقلقة.

أما الشكل الثالث لامرأة ابتسمت لي بحرارة. وأعتقد أنني أحببتها. كانت فاتنة، ولكن ليس بالمعنى الكلاسيكي. في الواقع، هي مسطحة تماما. ولكن هناك شيء حيالها يوحي.. بالجمال. ولا يمكنني التفكير بكلمة أفضل لأصف ذلك.

إيحاءاتها مريحة جدا. ولأول مرة منذ بدأ هذا الحلم، بدأت أشعر بالاطمئنان. ورغبت أن تضمني بذراعيها. وكنت بحاجة للحماية. وتساءلت هل يمكن أن أطلب منها أن تتبناني وتكون أمي؟. ولكن لا يسعني الكلام. هل هي كذلك؟. القليل من كلمات الحكمة أيتها الإلهة الأم تكفي؟.

غير أنها رفضت أن تلفظ أية كلمة. حدقت بي فقط - بي- ونفدت إلى حنايا روحي، نظرت المرأة الحنونة نظرات ثاقبة. والمرأة المتوحشة فعلت ذلك. والبنت الفضولية الصغيرة حذت حذوهما. ولكن دون أي صوت ماذا بمقدوري أن أفعل؟. ثم في نفس الوقت أغلقت الثلاثة عيونهن، واختفين.

وها أنا وحدي مجددا في الظلام.

نادرا ما كانت تنتابني أحلام طويلة لهذه الدرجة. ولطالما فكرت بواحد من الأحلام التي ترافقها الغيبوبة. وربما هذا هو الحال الآن؟. ولكن كيف يمكن الدخول في الغيبوبة؟.

سمعت صوت أنوار الخشبة وهي تشتعل. والآن أجد نفسي في غرفة أخرى. واقفة. وهي ممتلئة تماما بلون النور الأبيض. والأنوار شديدة السطوع. سمعت صوتا آخر. إنه صوتي!. أعتقد على الأقل أنه صوتي، ولكنه لا يخرج مني. وإنما صداه يتردد في الغرفة.

أنا- أنا أعتقد أن الصوت يقول:"هل أنت جاهزة؟"، عن ماذا يتكلم؟. جاهزة لأي شيء؟.

"لتختاري بين الحياة والموت". ولكن هل حق الاختيار بيدي. القرار يحدده القدر، أليس كذلك؟. كان أمامي طريق واحد للتفكير وهو أن أحدده بيدي وهذا يعني أن أضع حدا لحياتي.

وهل هناك من يريد أن يموت؟. أستطيع أن أتذكر عددا من ليالي الوحدة وخلالها جلست في حالة من الاضطراب والكآبة العميقة وكنت أبتهل إلى الله أن يرسل لي أي كلب يجرني من هذا الجحر لأنه لا يوجد جحيم أسوأ من هذا الألم. ولكن هذه ليست حالي دائما. أحيانا تنتابني السعادة. وأحيانا أشعر بالأمل وأتوسل إلى الله لو أنني أولد من جديد.

"هذا سؤال بسيط. كيف ستكون الأحوال في المستقبل؟". يا إلهي، هذا محير. هل عندي دقيقة للتفكير؟. القرار ليس سهلا.

أنا حقا أمقت حياتي ولكن إذا مت لا يمكنني تحسين مستواها. وربما هذا المقدار القليل من الأمل هو ما حافظ على حياتي لفترة مناسبة. وربما هو الخوف. فأنا لا أعلم ماذا يوجد بعد الموت. ولا أريد في الحقيقة أن أذهب إلى الجحيم، ولكن إذا كان هناك جحيم فأنا أول من سيدخل فيه. وإذا لم يكن هناك نار فأنا محظوظة حتما ولا يمكنني أن أتخيل سعادتي في الفردوس أيضا.

التقمص ليس حلا لحياة أفضل. ربما أكون روحا مكتوبا عليها البؤس والشقاء إلى الأبد. ولكن كل هذه الاختيارات ممكنة. وأعلم كيف يكون الإنسان شقيا وخالدا أو كيف أن الخلود لا يصنع فرقا بهذا الخصوص. وما يرعبني أكثر من سواه أنه ربما يمكن لي أن لا أكون في هذا الوجود. انعدام غير مفهوم للذات. ومع أنني أعلم أن هذا لا معنى له، فأنا أخشى منه أكثر من سواه. وليس لدي وقت لذلك.

"ذلك هو الموضوع. الوقت". يمكنها إذا أن تقرأ أفكاري؟. ومن الأفضل لو أصل لإجابة.. يا إلهي!. أنا لا أعلم!.

"حسنا، أعتقد أن هذا غير مهم حاليا".

"ماذا؟".

"أنت لست جيدة في اتخاذ القرارات، أليس كذلك؟".

اصمتي، ماذا تعرفين؟.

"من الأفضل لك أن تحزري. المشكلة ستعبر عن نفسها في القريب العاجل".

يا إلهي، كم أتمنى لو تسكت!. يا لها من مغفلة متسرعة. وأتساءل هل ينظر لي الناس بنفس الطريقة.

سمعت أسوأ صوت يذكر بزقزقة العصافير عند أبواب الجحيم. إنها ساعتي المنبهة. أنا أترنح للخلف باتجاه واقع مادي. وها أنا أستلقي في السرير لدقيقة من الوقت، وعرق بارد ينضح على جبيني، في محاولة لاستيعاب العالم المضطرم الذي يختلج فيه تفكيري. وعاجلا سيحين الوقت لأبدأ يومي. وعاجلا سيحين الوقت لأتخذ قراري.



نوفا فوكواي Nova Fuquayكاتبة أمريكية، تدرس في كلية التربية، وتخطط للعمل معلمة في حضانة أطفال. تعيش في جنوب الولايات المتحدة مع ابنتها وزوجها وتكتب أولى رواياتها.


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

موت مدرس التاريخ العجوز

09-كانون الثاني-2021

إذا رأيت نيوبَ الديمقراطية بارزةً

12-كانون الأول-2020

علي مملوك "رضي الله عنه"!

20-تموز-2019

كتاب إبراهيم محمود " وإنّما أجسادنا " : غواية قطافها قبل الأوان

17-تشرين الثاني-2015

حادثة تحت المطر

24-تشرين الثاني-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow