Alef Logo
ابداعات
              

قصة / هدوء القمر

جلال نعيم

2007-04-19

رُفعَ أذان العشاء في مدينة بغداد وضواحيها فاستعاذ أبوه بالله من الشيطان الرجيم ذي العين المفقوءة والأصابع الطويلة ، وتقاطر أخوته إلى المغاسل للوضوء .. شهد" حسام " الصغير كلّ ذلك بعينين يقظتين وقلب مرتجف ..
( الله أكبر ) صرخ المؤذن في التلفزيون ..
( الله أكبر ) يتردّد الصدى ، وحسام الطفل يشعر يوميّاً بالحرج وهو يراقب هذه الطقوس الغريبة التي طالما حلُمَ بالمشاركة فيها .. ماذا يفعل ؟ الجميع يُصلّي إلا هو .. قالوا له " مازلتَ صغيراً " قال لهم " وماذا في ذلك ؟ " قالوا له " مازلتَ تبول في فراشكَ " قال " وماذا في ... " ولم يدعوه يُكمل . قالوا له بلهجة واحدة " عندما تكبر ستعرف ... " .
ودّ كثيراً لو يكبر سريعاً .. برمشه عين .. قال لأمّه " أريد أن أكبر .. " قالت له " لا تخف يا بني ستكبر يوماً .. " قال " الآن .. أريد أن أكبر الآن
" . قالت له " سيُكبّركَ ألكبّار يوماً " . " مَنْ هو ألكبّار يا أمّي ؟" . أجابته بخشوع " الله .. إنّه الله يا ولدي " .
مرّة حاول أن يرسم - بخياله طبعاً - ملامح الرب الرحيم الذي طالما سمع عنه وتمنّى لقاءه فتخيّل في ذهنه أشكالا عديدة .. وجه أمه البيضوي المطل من فوطتها البيضاء عندما تخرّ ساجدةً بحزن أبدي ، ملامح شيخ الجامع الذي زارهم مرّة فذبحوا شاة تحت قدميه ، وبعض الوجوه البيض التي أبدعها خياله بالاستعانة بأفلام الرسوم المتحرّكة .. إلإ إنّه ما أن فتح فمه متحدّثاً عن ذلك حتى تصدّوا له بعيونهم المخيفة وأصواتهم الزاجرة " إن الله ليس بشراً ولا يشبه البشر .. " قال " أريد أن أراه ؟" فقالوا له غاضبين " إن الله سبحانه وتعالى لا يُرى .." أراد أن يسأل بملء فمه الصغير " لماذا ؟ " لكن الوجوه الغاضبة جعلته يتراجع ويفرّ حزيناً لأنه لن يستطيع رؤيته وإنه خالف توقعاته ولم يكن يشبه وجه أمه أو سحنة شيخ الجامع .. " ماذا يشبه إذن ؟ "
وعاد إلى محاولته مرّة أخرى فتخيّل الرب شجرة .. " نعم شجرة عيد الميلاد المضيئة كما تظهر في التلفزيون " . ولم يُطق صبراً فقال ذلك لأخيه ، الذي يتظاهر بأنه يكبره بقرون طويلة ، فزجره بقوّة ، وسدّد سبّابته مشيراً إلى رأس حسام ، وقال بخشوع ، وكأنه ينطق بنبوءة " هذا الولد يسكن في رأسه شيطان قوي " . ارتجف حسام . أرتجف بعنف وكأنه يعاني من نوبة صرع ، فقد شعر لوهلة بأن الشيطان الرجيم ، ذو العين المفقوءة والأصابع الطويلة ، يعشش في دماغه ، ولم يعجَبْ كثيراً عندما رآه في الحلم يفتح أذنه اليمنى بسبّابته وكأنه يفتح باب غرفة ويدخل إلى رأسه .
ولكن ، رغم ذلك ، لم يتخلّ حسام عن تخيّلاته ، فقد أراد بكلّ صدق ، أن يعرف ، أو على الأقل أن يتخيّل صورة الرب الذي خلقه ومنحه الحياة ، الرب الذي منحه الأكل والشرب والملابس والحقائب والدراجات والحلويّات والمدرسة والمعلمة التي تضمّه إلى صدرها بحنان كلما رأته .. كما إنه أراد أن يعاتبه لأنّه خلق كلب الجيران الذي عظّه مرة ، وزرقته ، على أثرها ، جارتهم حقنة آلمت مؤخرته .. أراد أن يراه كي يبكي بحجره ، ويسأله لماذا قبض على روح صديقه " هيثم " في تلك الظهيرة اللاهبة .
عاوده الحزن مرّة أخرى ، ولكنّه الحزن المقرون بالإصرار هذه المرة .." لا بدّ أن أعرف السر .. لماذا يخفونه عنّي ؟ .. لمَ لا أستطيع رؤيته ؟ لابُدّ وإنهم يلاقونه سرّاً .. ؟ " ظنّ بأن أبيه وأخوته يلاقونه خارج البيت ، فقرّر مراقبتهم قدر استطاعته ، خاصة عندما يخرجون معاً .. وصادف نهار الجمعة أن خرجوا ، فانفلت وراءهم ، وعندما وصلوا الجامع تسلّل خلفهم ، فالفى الجامع غاصّاً بنسخ مكرّرة عنهم ، نفس اللحى ، نفس "ألدشاديش" البيض ، وحتى عند سجودهم .. سجدوا وكأنهم رجل واحد ، له هيئة واحدة ، تعكسها مرايا لا نهائيّة ..
وتكرّر النداء ( الله أكبر ) .
وتكرّر الصدى ( الله أكبر ) ..
وحسام لا يدري لماذا تنتابه الرعشة كلما سمع الاسم الذي طالما اشتاق للقياه . وفجأة لاحت له فكرة أضاءت في أعماقه بنور داخلي مفاجئ .. " أيكون ذلك الشيخ الذي يتقدم الصفوف ؟ .. هل كذبوا عليه عندما قالوا إنه ليس من البشر ؟ " . وما أن تقدم خطوات وحدّق في وجه الشيخ حتى خبا النور الذي سطع في أعماقه وزايله الأمل ، فلم يكن غير الشيخ "جبّار " الذي بصق في فمه مرّة التماسا لشفائه من مرض ألمّ به .. والله لا يبصق في أفواه الأطفال ، بلا شك .. !
عاد حسام لممارسة حياته اليوميّة المعتادة . عاد للقفز هنا وهناك مقلّداً السندباد وساسوكي وعلي بابا ، وأستأنف لعبه مع أبناء الجيران ومتابعة أفلام الرسوم المتحركة والعصابات ، ولكن هذا الموضوع لم يغب عن باله أبداً ، يذكره مع كلّ أذان ، ويتحسّر ، لأنه لم يُسعد بلقاءه ، ويطلب منه ما يريد .. وفي إحدى الليالي رأى أمه تلهج بالدعاء ، وقد تخلّت عن فوطتها البيضاء ، وأخذت تضرب صدرها بحرقة دامعة . كانت تنظر إلى القمر الذي توسّط عباءة الليل ، وتهتف " يا إلهي " . في تلك اللحظة انفتحت ألغاز السرّ أمام عينيه ، وظنّ بأنه قد وصل إلى النهاية السعيدة التي كانت تطالعه عند نهاية الأفلام .. فإما أن يكون الله هو القمر نفسه أو يسكن هناك ، فوق ذلك القمر العظيم الذي يضيء الليالي الموحشة ..
عرف السر أخيراً ..
طار فرحاً ، وقرر بأن يحتفظ به لنفسه .. وقضى الليالي مناجياً ربّه شاكراً فضله إن مَنّ عليه بحلوى لذيذة أو ابتاعت له أمه ملابس جديدة ، وعاتباً عليه إن خسر في لعبة أو اعتدى عليه أحد .. وفي ليلة رعب مجهولة أستيقظ على صوت صراخ الأطفال وبكاء الأمهات وصلوات الآباء . في تلك الليلة التي لن يتمكن من نسيانها أبداً ، خرج من باب الدار وقد اختلطت في أعماقه مشاعر الفزع والغضب ، فرأى السماء مُلبّدة بطائرات كانت تقذف حمماً مختلفة الألوان .. أنفلت حسام راكضاً في الساحة الواسعة ، أمام الدار ، غير عابئ بصوت أمه الباكي وتوسلاتها الخائفة . أخترق الساحة الفارغة وما أن قارب منتصفها ، حتى مادت الأرض تحت قدميه ، وأضيء الكون بسحابة نار دوّى أثرها انفجار عنيف لقنبلة دكّت الأرض فأسقطته أرضاً ، انكفأ على وجهه ، وامتزجت دموعه بتراب الأرض التي شعر بها رخوة تحت قدميه وكأنها إسفنجة متهرئة .
في تلك اللحظة ، أزاح حسام التراب الذي أمتزج بدمعه ، ورفع عينين غاضبتين إلى السماء ، نظر بحقد إلى القمر .. القمر الذي بدا مكتملاً ، مضيئاً و .. هادئاً .. هادئاً تماماً .

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

قصتان

31-تموز-2007

قصة / أنهم يقتلون الجياد

11-تموز-2007

( طيف البنفسج )

17-أيار-2007

قصة / هدوء القمر

19-نيسان-2007

شعر / للحب وقت

13-شباط-2007

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow