Alef Logo
ابداعات
              

صندل الشقيىة

جنان الحسين

2021-01-16

كان صبحًا باردًا من صباحات ذات شتاء، حيث شمس شباط تشرق خجولة، خالية من الدفء.
رفعت رأسي عن الوسادة، ورحت أفرك عينيّ كي أطرد النعاس بعد أن سمعت جدتي وهي تنادي أبي بأعلى صوتها في اليوم الأول من زيارتنا لها لمرافقتها إلى حقل الشمندر.
بدأت التّقافز قُبالة والداي، وتوسلاتي تمتد مع الريح لتعانق أصوات الدّيكة حتى آخر زقاق بيت جدي: أريد الذهاب معكما لحقل الشمندر، فلم أعد صغيرة وبعد عامين سأجلس على مقاعد الدراسة.
كانت أمي غارقة بصمتها، فلها مزاج بارد من طلباتي اللامتناهية، أما أبي فمشغول بارتداء ملابسه الكثيرة. منذ صغري كنت أقرأ ملامح وجهه الهادئة، وأرى فيض الحنان كله في عينيه.
غير أن ما أثار انتباهي والذهول، قلبه المزدحم بأغاني الغجر، وعاصفة حبه لي وما يخالطها من شفقة خفيفة، ربما لكوني أنثى، وربما لأنه عاش يتيمًا دون أب كون جدي قد توفي باكرًا بذبحة صدرية تاركًا جدتي تعارك الصعاب مع صغارها، معتمدين على أنفسهم بالتقاط لقمة العيش، منبوذين من أعمامهم غير الأشقاء، والذين كانوا مُلّاكًا وقُساة.
قرأت في ابتسامة أبي الخفيفة الموافقة، فهو يعرف طول رغبتي من رائحة جنوني.
"جهزيها لترافقنا وخليها تشبع برد!"، قال أبي لأمي.
ألبستني أمي فوق ثيابي سترتها الصوفية، كانت واسعة جدًا، وذراعاها طويلان، قامت بعقدهما خلف صدري، ولفّت رأسي بمنديل أزرق من مناديلها، حوافه محلّاة الجوانب بخيوط ذهبية، خوفًا عليّ من البرد، وجزمة سوداء بساق طويلة، كنت قد جززت فروها الناعم في الليلة السابقة، احتجاجًا لعدم اصطحابي معها لبيت عمي، كي ألعب مع بنتيه اللتين انتظرتا قدومي أمام باب دارهما لوقت طويل.
تقول أمي إنني وفاطمة ولدْنا في يوم واحد، لكنها تكبرني بعام.
دار جدي الواقعة بين حقول خضراء تمتد إلى نهايات النظر، كانت مرتعًا لألعابنا، وشقاوة طفولتنا، نخبئ ضحكاتنا بين حجارتها، وخلف جدران قبابها المطلية بالطين.
على حائطها الشرقي الواطئ تتكئ عريشة العنب متاخمة لأغصان الزيزفون التي احتضنت أزاهير الزنبق بعدما تشظّت منها كل الألوان، وعلى حواف نوافذها العتيقة تطاولت شتلات الريحان التي تسكرك بعبقها وزهور الليلك.
كان لا بد أن نقطع مسافة طويلة خارج القرية كي نصل حقل الشمندر الواقع في الجهة الشمالية منها، فالطريق غير معبدة وفي وسطها حفر كثيرة، تغدو في الشتاء موحلة وتعيق من يسلكها فهي قرية صغيرة ومنسيّة، وفي الصيف تتشقق وتتحول إلى كدر.
ومن أراد اختصار الطريق عليه أن يرتقي لسفح التل، ويلتف من جهته الشرقية منحدرًا إلى قلب الحقول المجاورة لوادي القَيّل.
التل الذي شهد معارك المسلمين والروم في تلك البقعة من ذاك العهد، وكانت بقاياه شاهدة على فظائع داعش لاحقًا.
جَنْي الشمندر والمزروعات الشتوية يحتاج للكثير من الوقت والصبر والخبرة، لذلك غابت جدتي ووالداي عن ناظريّ لوقت طويل حتى الانتهاء من الجني.
في منتصف طريق العودة تلتف النسوة حول بركة "عزيز"، وهو أحد فلاحي القرية الطيبين.
كانت بِرْكَته المركز الرئيس للالتقاء والدهشة، بعد أن يضعن أحمالهن جانبًا، ويبدأَن بسرد القصص المضحكة المبكية.
البِرْكَةُ مبنيّة من الإسمنت، تظللها شجرة التوت المعمّرة، إلى جانبها بئر مغطاة بلوح من الصاج الصدئ، مثبّت عليها مضخة تسحب الماء من جوف البئر إلى أعلاه عبر أنبوب معدني يتكئ على حائط البركة ليصبّه بداخلها.
تتفرع من أسفل البركة ساقية تُروى من خلالها الحقول التي تقع على جانبيها، كانت تلك أجمل لحظات السعادة لهؤلاء النسوة، ومصدر مسرّتي بملاحقة الضفادع، ومحاكاتها بالقفز والنقيق.
مع مغيب الشمس بدأت خيوط العتمة تطارد حمرة السماء الخفيفة، وبدأت ألتفُ على نفسي من شدة البرد، وأقاوم النعاس واصطكاك أسناني وأنا أرقب الطيور البريّة الهاجعة وهي تطير فزعة من بين الكروم حيث تتطاير أرياشها مطاولة قوس قزح كلما أطلق الصيادون عليها طلقة.


ما تزال تسكن ذاكرتي قبل أربعين عامًا عجوز من بين جموع النسوة اللاتي كن يزرن المقام كل ليلة خميس حيث كانت تضع البرغل المطبوخ على حواف قبة المزار
من الأعلى لتلتقط حبّاته بومة لا تفارقه وقوافل من العصافير والطيور.


الصبايا من النسوة لا يتوقفن عن الغناء في طريق العودة وهنّ يغنين العتابا والميجنا بصوت شجي وحنون، حتى أني كدت أحفظ جميع أغانيهن.
وكنّ يصمتن عند وصولهن مقام "الشيخ محمد" القريب من وسط الطريق حيث يعتبره أهل القرية مقامًا مقدسًا وهذا ما حُفِر في ذاكراتهم منذ القِدم.
كان الشيخ الولي يرقد داخل قبة طينية لها باب صغير من الجهة الشمالية ضيق وواطئ حيث لُفّ الضريح بالشاش الأبيض ورأسه بقماش أخضر.
ما تزال تسكن ذاكرتي قبل أربعين عامًا عجوز من بين جموع النسوة اللاتي كن يزرن المقام كل ليلة خميس حيث كانت تضع البرغل المطبوخ على حواف قبة المزار من الأعلى لتلتقط حبّاته بومة لا تفارقه وقوافل من العصافير والطيور.
أما باقي الصبايا فكنّ يدخلن المزار حاملات بأيديهن كؤوسًا من زيت الزيتون ليملأن بها السُرُج المعلقة على جُدُرِ المزار لطرد عتمته بعد أن يتركن أحذيتهن بالخارج.
في الصيف تقوم المتطوّعات بطلي جدران المقام من الداخل بالكلس، وبالطين المخلوط بالقش الناعم من الخارج منعًا لتهالكه.

ثم تبدأ طقوس تبليل أقفية الفخار بريق المتمنيات ولصقه على الحيطان علها تمسك وتتحقق الأماني والرغبات وهن يرددن: "يا شيخي جيتك زايرة كشكوشة راسي طايرة كل البنات اتجوزوا وأنا ظليت بايرة".
لم يكن للصبايا أحلام كبيرة آنذاك إلا شغف الزواج المسربل بضجيج الصغار، حيث كنت أسمع توسلاتهن والوصايا تُلوّح وحيدة بشال القلق المعتّق بزفراتهن نحو تخوم السماوات، مختلطة بالخوف الممتد عبر عنوسة تاهت فيها السنون وعند الخروج من المزار تكون وجوه النسوة باتجاه الضريح وظهورهن نحو الخارج.
طالت الأدعية والابتهالات وطال التّمني وطال عشب انتظاري ومن شدة بردي رقدت بزاوية المزار عند قدمي الضريح في ذاك المساء الطويل وتحسست الشاش الأبيض ثم سحبته لأغطي جسدي الملتف على بعضه من البرد دون أن تراني إحداهن، وعند الانتهاء من دعواتهن وتوسلاتهن قالت النسوة بحنان ونجوى: "بخاطرك شيخي نحن رايحين" فقلت بثرثرات طفولة شقيّة: مع السلامة أبوي! ثم انبريت منتصبة على قدماي ورحت أجر خلفي نزقي وأمتار الشاش منادية أمي.
فوجئت النسوة واختلط الخوف بالذهول والصراخ ورحن يتدافعن نحو الباب، موليات ظهورهن للضريح، حافيات، دون أن يكترثن لوحل الطريق، ودون أن يلتفتن للخلف، متفرقات بكل الاتجاهات.
لم تتجرأ إلا جدتي بالعودة إليّ وهي تصيح بي: "أسكتِي جنّنتِ الناس يا شيطانة" حيث حملتني بين ذراعيها وأنا أصرخ بنزق أريد حذائي المغروز بالطين.
غدًا سأشتري لك غيره قالت جدتي.
لم أجد في صباح العيد إلا حذاء أمي المتأنق بفراشتين سوداوتين على طرفيه للطواف مع بنات عمي على بيوت أقربائنا، بخطى بطيئة ومتعثرة.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

البغاة

20-شباط-2021

صندل الشقيىة

16-كانون الثاني-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow