Alef Logo
ابداعات
              

الرجل والعادة الزرّيّة / قصة

سهير فوزات

2021-04-10

وقف أمام المرآة يضع اللمساتِ الأخيرةَ على أناقتِه قبل خروجه إلى دوامِه، حين حدثَتْ تلك الحادثة التي أرقته زمنًا. كان قد اغتسل وجفف شعره وصففه وحلق ذقنه ولبس ثيابا نظيفة وتعطر كما يفعل كلّ يوم بلا استثناء منذ سنتين، منذ دخل معهد الالكترونيات وتحددت ملامح مستقبله المشرق.
لأول مرّة -بلا سبب علميّ واضح- تواجهه مشكلة كهذه: بينما كان يرفع ذراعيه ليرتب شعره من الخلف، انقطع زرّ قميصه الورديّ قميصه المفضّل الذي اشتراه –بالكاد- منذ بضعة أشهر وكان يخطط أن يبدأ به حياته المهنية بعد أشهر، حين يتخرج ويبدأ عمله الذي ينتظره مسبقًا ككل طلاب هذا الاختصاص.
غيّره بسرعة كي لا يتأخر وعلقّه على علّاقة ثياب ثم على مسمار في الحائط كما نعلق جدول أعمال الأسبوع أو موعدًا مهما، كي يحل تلك المشكلةَ حين يعود بعد الظهر.
في المعهد أثناء النهار أخذ الزرّ من تفكيره حيّزًا مهمًّا، كلما سها عنه مع الأصدقاء والصديقات أو خلال الحصة الدراسية، عادت به خلوته أو صمت قصير ممن حوله إلى حدث الصباح ومشكلته.
فكّر أولا -وهو المعروف عنه حل مسائل الرياضيات والفيزياء المعقّدة- لماذا انقطع هذا الزر بالذات في منتصف القميص في نقطة لا تشكل مركز ثقل! لماذا انقطع في هذه المرحلة بالذات، حين رفع ذراعيه عاليا! وبدأ يحاول أن يتذكر إن كانت هناك في مراحلَ أخرى من حياته حادثةٌ مشابهة، أو إن كان قد طبق عليه ضغطا غير منطقي خلال الشهور السابقة بحركة أو بأخرى!
فكّر أيضًا في سرّ انقطاع زرّ بهذه الأهمية: في منطقة الكرش. فهو زر جوهري في حياة القميص انقطاعه يوحي بسمنته وترهّله أو عدم رشاقته. زر لا يمكن تجاهله، فالأزرار في القميص كالبشر في الحياة، بعضهم محوري وأساسي لا يمكن للمحيط تجاهل غيابه أو متابعة الحياة دونه وبعضهم أقل أهمية ويمكن التغاضي عن دوره، بعضهم احتياطيّ وقد تمضي الحياة من حوله دون أن تلتفت أصلا لوجوده.
حين عاد إلى المنزل توجه مباشرة إلى علاقة الثياب أخذ القميص ثم ذهب إلى مقر والدته في المطبخ حيث رائحة الأكل الشهيةُ تملأ الفضاء. قبّلها على خدها فابتسمت دون أن تنظر إليه، وهي تحرّك الوجبة فوق النار.
-أمي انقطع زر قميصي الجديد. ألقت نظرة سريعة ثم ردت وهي تشير إلى طاولة التلفاز في غرفة الاستقبال التي ترى جزءًا منها:
-ضعه هناك لأخيطه لك، الآن وقت الغداء.
-سوف تنسَينه كجَوْربي الذي رميتُه بعد أن أخذ قيلولة شهر جنب التلفزيون!
أطفأت صنبور الماء وأبقت يديها المبتلّتين فوق المجلى وحدجتْه بنظرة هي بين العتب والغضب. بتلك النظرة تلت عليه خطاب الأمهات التقليدي في مثل تلك الحالات.
ابتسم ابتسامة صفراوية وانسحب هو وزرّه نحو غرفة المعيشة. بحث عن أخته الكبرى (سميرة) فلم يجدها. أخته الأخرى التي تكبره بعامين تمسك كتابًا لا ترفع بصرها عنه إلا للضرورة. فكر قبل أن يتكلم "سأعطيها فرصة ذهبية لتنطلق في محاضراتها عن المساواة الجندرية وعن سخافة تقسيم المهام المنزلية بين رجولية ونسائية وعن استقلالية المرأة وعن مفهوم الفرق بين الخادمة أو الأخت والأم والزوجة... و..و.." لكنه قرر أن يغامر، فقميصه الوحيد في أزمة زرّيّة وعليه تشكيل خلية أزمة عاجلة...
-"سليمة"
نادها فرفعت بصرها نحوه دون أن تحرك رأسها، وحين لوح تلويحًا خفيفا بالقميص بيد وبالزر في اليد الأخرى، اتّخذت ملامح وجهها خلطة استنكار واندهاش وقرف وتحفّز، ففهم مجمل الجواب و رفع يديه مستسلمًا وانسحب.
ليس له إلا (سميرة) أخته الأخرى التي تكبره بأربع سنوات، حبيبة قلبه وأمُّه الثانية. واصل البحث عنها ومناداتَها فوجدها تنشر الغسيل في الشرفة. اعتذرتْ منه بلطف لأنها الآن مشغولةٌ ووعدته بإصلاح الزر فيما بعد. أنهتْ نشرَ الغسيل ودخلتْ. وتركتْه واقفا على الشرفة مع قميصه حائرًا. اتكأ بمرفقيه على سور الشرفة، وترك بصره يسرح بعيدًا يفكر في حلّ. بعد قليل لاحت حركة في الشرفة المقابلة فالتفت: كانت (سلام) ابنةُ جيرانِهم الفاتنةُ، طالبة ال(بكالوريا) قد أخرجت كرسيّها وكتابها لتدرس على الشرفة. حين لمحته ابتسمت وحرّكت أصابع يدها محاولة ألا يراها أحد ما في الداخل. ابتسم بدوره وهزّ رأسه هزّا خفيفًا حتى لا يلفت الانتباه من جهته. تظاهرت بالتركيز في الكتاب، وهو ثبت بصره عليها بينما أطلق تساؤلاته حول قدرتها أو رغبتها في تركيب زر القميص وصار يتخيل نفسه يطلب منها ذلك وكيف يمكن أن تكون ردة فعلها. فكر: "النساء الجميلات لا يحببن أعمال المنزل، هل عليّ إذن حين أفكر في الزواج أن أختار امرأة قبيحة؟ وماذا لو كانت قبيحة ولا تعرف أن تخيط زرًا كأختي (سليمة)؟! كيف لي أن أتأكد قبل الزواج أنها تجيد الطبخ والغسيل والكوي ...وخاصة خياطة الأزرار!" هنا انتبه إلى أنه يشتت تركيز (سلام) التي كانت تسترق النظر إليه بين حين وآخر، وتتصرف بطريقة توحي بأنها مراقبة.
لملم قميصه ودخل فقد كانت أمه تنادي الجميع إلى الطعام. بعد الغداء تسلّل إلى غرفة الجلوس وسرق من الدرج إبرة وخيطًا بعد أن يئس من استجداء النساء. دخل الحمام وأقفل الباب ثم شغل صنبور الماء ليوهم من في الخارج أنه يستحم. وبدأ يحاول إدخال الخيط في الإبرة. لم يكن الأمر سهلًا، يبدو أنه وقع على خيط أثخن من اللازم أو إبرة صغيرة، بعد عدّة محاولات نجح في إدخال الخيط فشعر بمتعة الانتصار. المتعة التي شعر بها جعلته يفكر في مرّات قادمة؛ هل تصبح خياطة الزر عادة يحتاجها من وقت لآخر ليتغلب على صعوبات الحياة ويستعيد توازنه؟ وماذا لو عرف أصدقاؤه أو أبناء عمومته وأخواله أنه يقوم بأعمال النساء ويخيط أزراره بنفسه؟ وماذا لو ضبطه (منذر) أخوه الأصغر يمارس (العادة الزرّية). هنا دق أخوه الصغير الباب معلنا حالة طوارئ في حاجة المرحاض. لملم قميصه والإبرة والخيط بسرعة، وبلل شعره ببعض الماء للتمويه ثم خرج.
بقي القميص معلقا عدّة شهور على الحائط أمامه. ماثلا فوق المسمار كخيبة مريرة وتحدّ مبطّن، يشكل بوصلة خفيّة لمستقبله.
يوم حمل نتيجة تخرجه من المعهد وعاد إلى المنزل ليفرح قلب والديه؛ كان ينتظر من أمه الكلمة التي قالتها: " الآن نستطيع تزويجك لتتحمل مسؤولية بيت" فأجاب كما لو أنه أعدّ هذا الجواب منذ الأزل: " المهم ألا تكون عنيدة ومسترجلة كأختي (سليمة)...والأهم أن تعرف كيف تطبخ وتخيط الأزرار" ضحكوا جميعا ما عدا سليمة التي كشّرت واكتفت بالصمت -على غير عادتها- كي لا تخرب فرحة الجميع.
كان قد أمضى الشهور الماضية في دراسة أشكال النساء ومواصفاتهن وفي الوقت القليل الذي كانت تتيحه له كثافة الامتحانات حاول الاطلاع على بعض المقالات في علم الفراسة. كان إذ يمشي في الشارع يحاول تطبيق ما يقرؤه ويحاول تحليل نفسيات النساء حسب أشكالهن وتقدير أيِّهِنّ الأقرب إلى النموذج الذي يستطيع إسعاده. فمثلا ذات الأنف النحيل عصبية المزاج ومتكبرة، ذات العينين الصغيرتين دقيقة الملاحظة وماهرة في الأعمال الدقيقة. أما ذات الورك العريض مع أكتاف عريضة فهي جيّدة الخصوبة وتتحمل الإنجاب، لكنها قد لا تجيد خياطة الأزرار، وهكذا...
******
بعد سنتين وبضعة شهور من حادثة الزر. و سنة واحدة فقط من زواجه السعيد من عروس اختارها بدقّة بالغة في المنطقة الوسط بين الجمال والقبح وبين قوة الشخصية والخضوع التام واختبر في خطبتهما القصيرة مهارتها في الأعمال المنزلية واهتمامها بتفاصيله الصغيرة من أكل ولباس وما إلى ذلك.
وقف أمام المرآة يضع اللمسات الأخيرة على أناقته قبل خروجه إلى دوامه. كان قد اغتسل وجفف شعره وصففه وحلق ذقنه ولبس ثيابا نظيفة وتعطر كما يفعل كلّ يوم بلا استثناء.
فجأة، بلا سبب علميّ واضح، بينما كان يرفع ذراعيه ليرتب شعره من الخلف انقطع زر قميصه السماويّ، زر الكرش. خلع القميص بسرعة وتوجه إلى غرفة النوم، كانت زوجته تغطّ بجانب طفلهما ذي الثلاثة شهور الذي أرقها طوال الليل. كانت تبدو بثياب النوم أضخم من ضخامتها التي أحدثتها الولادة في جسمها. وكانت تبدو مع الإرهاق الذي يكسو وجهها أكثر قبحا من أي وقت. خاصة وقد تخيّل نظرتها إن طلب منها إعطاءه بعضًا من الاهتمام الذي تعطيه لطفلها وطلب منها إصلاح زر القميص.
تنهّد تنهيدة عميقة، تناول من الخزانة قميصًا على غير تعيين لبسه. ثم طوى قميصه السماويّ بعناية وحذر وأنزل صندوقًا أسود من الكرتون من فوق الخزانة.
فتح الصندوق فأطلّ قميصه الورديّ القديم مطويًّا بعناية، بزرّ مقطوع في الوسط وزرّين أعلاه وأسفله وكأنه يحدق فيه بعينين باردتين ويسخر.


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الرجل والعادة الزرّيّة / قصة

10-نيسان-2021

عتاب ...أنثى

19-آذار-2011

هي هجرة أخرى ...

12-آذار-2011

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow