Alef Logo
دراسات
              

نحو مصالحة عربيّة مع 'الجسد'

سامي دقــــاقي

خاص ألف

2006-06-14


قرأت مرّة في إحدى الصحف ، أنّ ممثلة وعارضة أزياء سئلت لماذا تحبّ أن تتجوّل في أنحاء منزلها عارية تماما، فأجابت : أنّ الله لم يمنحنا هذه الهبة الطبيعيّة( تقصد الجسد) لنخفيها وراء أكوام من الملابس..
في الحقيقة، وجدت نفسي مشدودا لهذه الفكرة الواضحة - قولا وجسدا- أيّما شدود، فالغرب عموما قد حسم – ولعقود خلت- مع "فكرة الجسد" ، فأصبح صريحا معه إلى درجة الشفافيّة والعري – طبعا-، ما نودّ مناقشته في هذا المقال، هو مسألة الوضوح والتلقائيّة في التعامل مع هذه الهبة الخِلقيّة الربانيّة بعيدا عن الدّعوة إلى أيّ نزعة شذوذيّة(استعرائيّة أو ما شابه)، لا يحدونا في ذلك سوى السعادة الروحيّة والذهنيّة للكائن الإنساني، على اعتبار أنّ سعادة الإنسان مرتبطة بهذا الجسد في مفهومه الثقافي الواسع،ف " الجنس (الذي يمرّ عبر الجسد) نقطة لقاء بين البيولوجي والثقافي لذلك لابدّ في تحليل الفكر العربي من ربط الظواهر النفسيّة- الجنسيّة في الحياة العربيّة بجذورها البيولوجيّة من جهة، ومتفرعاتها الثقافيّة من جهة أخرى"(1).

لقد أصبح الغرب – بعد معارك طاحنة مع القوى الظلاميّة المتمثلة في الفكر الكنيسيّ الممتدة جذوره من التاريخ القروسطوي وحتّى القرن التاسع عشر- يتمتّع بحرّية مطلقة إن على مستوى التفكير والتعبير وإن على مستوى الممارسة، هذه الحريّة تدعو في أساسها إلى تمجيد الفرد وتحقيق سبل سعادته وصفائه، وبما أنّ مسألة الجنس أو التعاطي مع الجسد كانت – في اعتقادنا- أبرز أسباب الاختلالات الاجتماعية والسياسية في تاريخ الغرب، بل وأهمّها على الإطلاق كما تبرز ذلك جلّ الأعمال الأدبية، والفنيّة، والفكريّة العالميّة، فقد كان لزاما على المجتمع بكلّ شرائحه ونخبه السعي إلى إرساء ونشر ثقافة تنظم الحياة الجنسيّة، وتعيد إلى الجسد مكانته ورمزيّته باعتباره أقنوما للجمال والمتعة المشروعة والمنشودة دون مواربة أو خجل( إحياء وتحيين عصر الأسطورة والآلهة أي بعث الجسد "المُؤَمْثل" أفروديتيّا/ فينوسيا/ عشتاريّا/ إيزيسيّا، على مستوى الإبداع الأدبي والفني كما على المستوى الواقعي).
وقد أضحى ممكنا – والحالة هاته- للرجل الغربي كما المرأة الغربيّة أن يعبّرا عن رغبتهما بشفافية مطلقة وبالطرق التي تقنعهما باستجلاب المتعة ثم السعادة، دون أدنى هاجس يخلقه " الآخر" أو " الطابو"، فقد " بدأت الحياة على الأرض بمعرفة الجنس"(2) كما ورد في توراة العهد القديم،وهذا الأمر باعتقادنا يرفع أو يذوّب آفة التناقض بين التفكير والممارسة، الاستيهام والواقع، كما يقي من مسألة الكبت العامّ المستمرّ والمحفوف بعقدة الذنب والاختباء، والذي يؤدّي بالضرورة إلى انفجارات شذوذيّة قد تكون- في أغلب الأحيان- ذات أبعاد جريميّة إن توافرت أسبابها في شخصيّة سيكوباتيّة، كما يقي من "تسليع" المسألة الجنسية، و " استغلال غربة الإنسان في الحبّ من قبل مصانع تجاريّة ودعائيّة جشعة ومبتدلة"(3).
إنّ فكرة "الوضوحيّة" – بعد الاقتناع طبعا- هي ما نشدّد عليه ونثمنه في فكر الإنسان الغربي، فيما يتعلّق بمسألة " الجسد" حتّى أنّنا يمكن أن نلمس لديه نوعا من " الحواريّة" مع هذا الجسد قد تصل إلى مرحلة يمكن من خلالها " وصف الجسد بأنّه "الصديق" الأكثر قربا إلى الإنسان، كما يقول أحد الباحثين، والأكثر جدارة بالثقة، بالجسد وفيه يتمّ اكتشاف الذات "(4).
إنّ فكّ عقدة العلاقة بالجسد عند الغربيّ جعلت هذا الأخير يعالج بشكل واضح وفعّال أيضا جميع الاختلالات الأخرى( اجتماعيّة، اقتصاديّة، سياسيّة..) والتي لم تكن لتعالج لو أنّه لم يستطعْ إعادة النظر والحسم في مرجعياته الفكريّة والنظريّة المتعلّقة بالجسد، فالتحرّر لا يكتمل ما لم يأخذ بعين الاعتبار حضور الجسد بشكل حقيقي وفاعل، إذ أنّ " اختفاء الجسد في مجتمع ما، أو إخفاؤه يولّد الشعور بأنّ هذا المجتمع فارغ أو غائب، لذلك لا أهميّة للتحرّر السّياسي وحده، ولا يأخذ أهمّيته إلاّ حين يكون التحرّر كاملا وشاملا، ولا يتمّ هذا التحرّر إلاّ بتحرّر الجسد" (5). كما أنّ الجسد(الجنسيّة La sexualité) هو أساس الحياة الاجتماعيّة والنفسيّة للإنسان كما يؤكّد على ذلك فيلهلم رايش من خلال نقده للأخلاقيّة الجنسيّة التغريبيّة/ الاستلابيّة للطبقة البورجوازيّة، ودعوته إلى الثورة ضدّ مفهوم "الجسد المؤسّس"((Le corps institutionalisé(6). ونوّد أن نشير هنا أننا لا نقصد " جسديّة" الجسد فقط( الجانب الفيزيقي الصرف) بقدر ما ندعو إلى مخاطبة
"روحيّته" على حدّ سواء( الأحاسيس والانفعالات والرغبات المتعالقة مع الحواس الجسديّة)، فلا شكّ أنّ العين تمارس الحبّ والأذن تمارس الحبّ، والأنف يمارس الحبّ، واليد تمارس الحبّ، واللسان يمارس الحبّ، والذهن يمارس الحبّ، والروح تمارس الحبّ أيضا ، أفلا يستحقّ الجنس -والحالة هاته- مقاما أرفع من ذلك الذي يوضع فيه –على الأقلّ- داخل منظومة التفكير العربي ؟ وإلى متى يظلّ " العربي(...) ذكرا وأنثى، يخاف من جسده بوصفه سقوطا؟(7).
إنّ وضوحيّة الغرب في علاقته مع الجسد لم يعد من الصّعب ملاحظتها، بل وحتى محاورتها، فالإعلام الغربي في العصر الحديث يعرض ويناقش مواضيع ومشكلات يمكن أن، نجزم بانتمائها لحقل الثقافة الجنسيّة الحقيقيّة بدون استعارات أو أقنعة. قد يقول قائل إنّ نسبة الظواهر الشذوذيّة أو المشاكل الاجتماعيّة/ الجنسيّة عند الغرب تفوق ما هو عليه في العالم العربي ، وهو أمر قد يكون صحيحا لكنه لا يناقض في شيء مبدأ الوضوحيّة الذي نناقشه-هاهنا- والذي يقتضي التعبير المباشر والجريء عن لذّات الجسد ورغباته من جهة، ومشاكله وشذوذه من جهة ثانية، بشكل تستتبعه النشوة و السعادة في الحالة الأولى، أو العلاج والمتابعة في الحالة الثانية، وهما الخطوتان اللتان لم تتبلورا بعد في عالمنا العربي بشكل فعلي رغم ما قد يشفع لنا في السنوات الأخيرة من بعض الانفتاح الإعلامي العربي على مسألة التربية الجنسية والثقافة الجنسيّة من خلال بعض الفضائيّات، نذكر على سبيل المثال لا الحصر ( القنوات اللبنانية،قناة ال إم بي سي، قناة روتانا، قناة الراي إلخ)، إلاّ أنّها تبقى في مجملها مقاربات وملامسات محتشمة وضحلة تفتقر إلى التحليل العميق والمتابعة الميدانية قياسا إلى ما نشاهده في الطرف الآخر من العالم، وهي عموما لا تكاد تتجاوز ما هو معروف ومتداول لدى العامّة، وإن كانت بعض القوى الظلاميّة والرجعيّة اللائذة أبدا بالفكر الماضوي تحاول حجب الشمس بالغربال حين ترفض الدنوّ من هذه الطابوهات أو مناقشتها، وتنفي وجود الظواهر الشذوذيّة المختلفة التي انفجرت في العقود الأخيرة(زنا المحارم مثلا)، نتيجة سياسة الإخماد وادّعاء الحصانة الدينيّة والأخلاقيّة وإشهار ورقة "المحرّم" في كلّ ظرف وحين، وتجهل أنّها بذلك تكرّس مفهوم "الاغتراب الجنسيّ"(8)، وتضخّم الكبت الجنسي وما يستتبعه من عدوانيّة وانفجار نفسي، وهو الأساس الذي بنى عليه رايش رؤيته النقديّة/الثورية في كتابه " الثورة الجنسيّة" كما في العديد من مؤلفاته ومخطوطاته(Manuscrits)، وكذا نضالاته الميدانيّة وسط الشبيبة العمّاليّة.
ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال إلصاق استشراء مثل هذه الظواهر والممارسات بالانفتاح أو الغزو الإعلامي/ المعلوماتي(الفضائيات، الأنترنيت)، فقد وقفنا على حالات مماثلة داخل أوساط مجتمعيّة بعيدة كلّ البعد عن الحضارة التكنولوجيّة بأبسط مقوماتها (الكهرباء مثلا)، ولو أنّ هذه النقطة تحتاج أكثر من وقفة.
إذن فالمسألة تتجاوز – في عالمنا العربي- مجرّد التأثير والتأثر إلى ما هو أبعد وأخطر من ذلك، أي قضيّة الذهنيّة الجماعيّة واللاشعور الجمعي اللذين يجب أن نوجّه لهما آليات المساءلة والنقد، عن طريق المطارحة العقليّة الواعية والمتحللة من كلّ مرجعيّة ماضويّة أو تخريبيّة.
ونحن إذ نشير إلى ضرورة المصالحة مع الجسد لا ندّعي امتلاك إبدالات محدّدة، إذ أنّ علاقة/علاقات الإنسان بجسده تشكّل تجربة فريدة وخصوصيّة، لا يستقيم معها تمثل أو اقتباس تجارب أخرى، سواء عربيّة أو غربيّة حتّى لا يفهم أننا متأثرون بثقافة الغرب، وأنّه يشكلّ النموذج الكامل، فكلّ شيء يمكن أن نستأنس فيه بتجارب الآخر إلاّ مسألة الجسد والعلاقات الجنسيّة، فهي تعتبر نسيج وحده بين كل اثنين، وبين الإنسان وجسده، ومع ذلك فإنّ أولى خطوات المصالحة تبتدئ – كما قلنا- بالوضوح والشفافيّة في العلاقة مع الجسد، وقراءة هذا الجسد في كينونته كذاتا لها رغبات محدّدة مثلما عليه واجبات محدّدة، وليس موضوعا نمارس عليه/ من خلاله سلطة القمع وسطوة الحظر. وكما يجب أن نقرأ الجسد، علينا أن نقرأ عنه، ونبحث في تاريخه وأركيولوجيته حتّى نكيف علاقاتنا معه وفق ما يحلم به، وليس فقط وفق ما يعطيه، فالجسد مراوغ أحيانا إذا لم نمتلك مقاليد ولوجه بالجمال والسلم، وليس بالعنف والغصب،فقد يخفي في جغرافيته أكثر ممّا نتصوّر، وهو أحيانا أخرى يخون لأننا فهمناه بالمقلوب، أو أهملناه، أو نافقناه " أثناء هدر عمرك في الوفاء، عليك أن تتوقّع أن يغدر بك الجسد، وأن تتنكّر لك أعضاؤه، فوفاؤك لجسد آخر ماهو إلاّ خيانة فاضحة لجسدك"(9).
وتأسيسا عليه، فإنّ أيّ إصلاح أو مصالحة(سياسية، اجتماعية، اقتصاديّة...) لا يمكن أن تفرز جدوائيتها إلاّ عبر إصلاح جذري لمنظومة التفكير في "الجسد"، عن طريق ممارسة قطيعة معرفيّة و منهجيّة مع الذهنيّة القديمة والمتآكلة، والإعداد لمصالحة تاريخيّة مع هذا الجسد. ولابدّ للإشارة هنا أننا نقصد جسد "الأنا" وجسد "الآخر" (أي الأنثى أو الذكر في العكس)، فلطالما كان هذا الجسد بانيا للحضارات حينا، ومقوّضا لها حينا آخر، كم أضرم من الحروب والغزوات وكم أباد من القبائل والشعوب ( غزو يوليوس قيصر لمصر رغبة في كليوباترا / شهوانيّة شهريار وساديته إلخ)، وكم شيّد من الآثار و مظاهر العمران
( حدائق بابل المعلّقة التي بناها نبوخذ نصر من أجل زوجته الحزينة / تاج محلّ الذي شيّده شاه جهان ضريحا لزوجته ممتاز محلّ إلخ).
وهي مناسبة بالخصوص للرجل العربي، كي يعيد النظر في علائقه بجسد المرأة باعتبارها ذاتا وليس فقط موضوعا للنشاط الجنسيّ، و الكفّ عن تضخيم البعد الجنسي فيها، وإقصاء قيمة الأبعاد الأخرى، أي باختصار، اختزال المرأة في المسألة الجنسيّة الميكانيكيّة أو التناسليّة، فقد كان الاعتقاد سائدا إلى حدود القرن التاسع عشر بآليّة المرأة، وهو ما تفضحه القولة التالية من رواية "الأحمر والأسود" لستاندال : " هكذا هنّ النساء جميعا، قال السيّد رينال وهو يضحك،هناك شيء دائما يتوجّب إصلاحه في تلك الآلات"(10).
إنّ اللاّشعور الجمعي عبر التاريخ يفضح السلطة التي كان – ولا يزال- يمارسها " الجسد" وإن في الظلّ على مختلف نواحي الحياة( سياسية، اجتماعيّة،فكريّة، اقتصاديّة..)، وقد آن الأوان أن نبحث في أسباب قيام الدول والأنظمة وسقوطهما على "خارطة الجسد" ، وليسمح لنا مفكّرنا المغربي عبد الله العروي أن نستعير مصطلحه "التاريخانيّة" لنطلب من مفكرينا ومثقفينا التأسيس لمذهب أو فلسفة -هم على الاختيار- "الجسدانيّة" بوضوحيّة جريئة، عوض استمرار واستمراء لعبة "الاستيهاميّة" و"الفصاميّة" التي يمارسها أغلبهم بعد شروق الشمس وبعد غروبها.. ولنا في الموضوع أوبة..







تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

غرفتان.. لذاكرة النّيلَوْفَر

16-أيار-2007

سأترك 'فالانتاين' عاريا من أغصانه..

24-نيسان-2007

سقوط الآلهة/ صعود الإنسان

26-تموز-2006

نقد / تاريخيّة بعيون أدبيّة

24-حزيران-2006

نحو مصالحة عربيّة مع 'الجسد'

14-حزيران-2006

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow