Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست ــ ترجمة

صالح الرزوق

2007-11-10

وقف روبرت بمواجهة بيته ليتأمل عمل يديه ، ثم قال : " حسنا ، بإمكانك استخدامها الآن !".ضغطت زوجته الزر المثبت وراء باب المرآب مباشرة ، و على الفور تسببت هذه البانوراما الساحرة من الأضواء بخروج صيحة استحسان من ولديهما الصغيرين . صفق بريان بيديه الضئيلتين ، و هو يقفز إلى أعلى و أسفل ، و لكن تيم شرع يركض على طول الباحة ذهابا و إيابا ، ليتأكد أن كل مصباح يعمل.
و قال : " هل ستتركها مشتعلة حتى وقت العودة يا أبت ؟".
نظر روبيرت لابنه البالغ من العمر ست سنوات ثم نقل بصره لزوجته.
اقتربت الزوجة منه ، و وقفت بجواره ، ثم نظرت إلى البيت بتمعن ، و تبادلت معه نظرات اتهام ، و قالت على سبيل الرد : " نعم ، سوف نغادر بعد وجبة المساء على الفور. كما تعلم الأولاد يتوقون لرؤية الجدة ".
" أعلم ذلك. و لكن لم يعد بإمكانها أن تتعرف علينا ".
" نعم. و لكن أنت تعرف من هي. إلى جانب ذلك ، هي التي اعتنت بك ، يا للمسيح !. يجب أن تشعر بالخجل من نفسك ، يا روب ".
و هو ينظر بعين ثاقبة ، فيما كانت تعود إلى البيت ،أدرك أن لدى كيت الحق في الغضب. لقد توقف عن زيارة بيت الرعاية من حوالي عام. و إن حادث السيارة الذي مات فيه والداه عندما كان له من العمر إثنا عشر عاما ترك لديه عقدة الخوف من الرحيل ، و هذا شيء لا يستطيع التخلص منه.
لقد فتحت له جدته ( أم والدته ) ذراعيها على وسعهما ، و قدمت له مأوى دائما. كانت تدعوه روبي ، و تسليه برواية الحكايات العجيبة ، و كانت تثني عليه كلما أتقن العمل في المدرسة. و لم تعاقبه بعد أية علامة منخفضة ، بل كانت تحثه على أداء أفضل.
و بعد عدة أعوام . خلال عطلة الجامعة ، لاحظ أنها دخلت في طور النسيان. بدأت تنسى دفع الفواتير ، أو التخلص من النفايات المنزلية لأيام متعاقبة. و هكذا اضطر أن يطلب من الجيران العناية بها. و لكن لم يكن بوسعهم تخطي الأٌقدار المكتوبة . و حينما كان في العام الأخير من الدراسة ، دمرت النار المنزل. فقد تركت الجدة الموقد مشتعلا بعد أن أوت إلى الفراش. و كان الرعب من فقدانها عظيما و لا يحتمل. و مع أن قرار نقلها إلى بيت للمسنين لا يعود إليه ، كان روبيرت يعلم أنه غير قادر على رعايتها. فدمار البيت ، على ما يبدو ، أعادها إلى عالم من سنوات خلت ، إلى أيام أبيها.
و قد أخبره عدد من الأشخاص أن دار الرعاية التي ذهبت إليها مثالية ، و لكنه لم يتوقف عن كراهية المكان .. إن الرائحة ، و الأصوات ، و كل شيء هناك يرتبط بالموت ، أو بانتظاره . ثم ، هذه هي قشرة المرأة التي اعتنت به ، و إن كانت لا تتذكره.
و بعد أن ظهرت كيت في حياته حفلت أيامه بالمتعة و السرور. ثم جاء الولدان. غير أن زيارة تلك الدار كانت تنغص عليه مزاجه. و بهذا الخصوص ، كانت كيت دائما ، تحاول أن تقف له بالمرصاد. و إذا كان في العام السابق ، تستر وراء العمل أو مشاغل أخرى كوسيلة لتحاشي الزيارة ، لم يكن محظوظا في هذه المرة.
بعد زفرة قوية استسلم لدواعي رحلة الزيارة ، و عاد على عقبيه إلى البيت.
في غضون دقائق حزمت كيت ابنها بريان في مقعد الأطفال ، و وفرت للولدين أسباب الراحة. و قالت للآخر : " تيم ، هذا هو دفتر الرسم. لا تزعج شقيقك . نحن على وشك رحلة بعيدة ".
" قد تستغرق فترة أطول من المقرر ، فالثلوج تهطل ".
نظرت إلى وجه زوجها و هو يدخل إلى السيارة و يسحب حزام الأمان. و قالت : " حسنا ، إذا ، لنجد موسيقا مناسبة تعزف ألحان عيد الميلاد ".
أدار روبيرت زر التشغيل ، و بحثت هي في محطات الإذاعة ، بواسطة المؤشر ، على برنامج مقنع. و ما أن أصبحا خارج نطاق المدينة ، حتى انصبت الثلوج بغزارة وفيرة ، و لكن حركة المرور كانت خفيفة على طرفي الطريق الضيق. كانت جدته تعشق الضواحي ، و قد وضع ذلك في حسابه كعنصر أساسي لاختيار موقع دار الرعاية.
أصبحت الأشجار متراصة على طول طرف الطريق ، و لكنها كانت تنتفخ بأثر الثلوج المتراكمة. و لدى تخفيف السرعة عند منعطف ، شاهدوا جثمان كلب في عرض الطريق. قالت كيت بصوت منخفض : " يا له من حيوان مسكين". ثم أخذت نظرة من الخلف ، لتتأكد أن اهتمام الولدين ينصب على موضوع آخر.
و في ساعة الوصول إلى الدار توقف روبيرت بالسيارة أمام المدخل. سبقته كيت و الصبيان في العبور إلى المبنى. و انشغل هو بالبحث عن موقف سيارات. عصفت الريح بوجهه حينما غادر السيارة ، و اتجه إلى الباب. استقبلته هناك باقة الورود التي يعتبرها إشارة على مشهد مـألوف و متكرر ، و كذلك في الداخل ، حلقة القهقهات و أصوات الزوار كانت تختلط في الفضاء مع رائحة البول النفاذة كالعادة. لمست معطفه امرأة مسنة في كرسي متحرك. نظر إليها ، فقدمت له قصاصة من الورق عليها أحد الأرقام. و قالت : " سيدي ، هل بوسعك أن تطلب لي هذا الرقم ؟". و مدت يدها بربع دولار ، ثم أشارت إلى الهاتف العمومي القريب في الزاوية. أضافت تقول : " عيناي ليستا قويتين بعد الآن. بودي لو أتكلم مع عائلتي ".
قال : " بالتأكيد ". تخلص من معطفه ، و ذهب إلى الهاتف و طلب الرقم. أخذت يد المرأة سماعة الهاتف لحظة جاء الصوت من الطرف الآخر قائلا : " هنا مركز الشرطة ".
" لحظة من فضلك. أعتقد أنني طلبت الرقم الخطأ ".
و هنا صاحت المرأة العجوز في سماعة الهاتف بأعلى صوتها : " النجدة . النجدة ! أنقذوني من هنا !".
و قبل أن يتصرف ، حضرت ممرضة مسرعة و قالت له : " سأتولى موضوع الهاتف يا سيدي . هذه هي هاتي. إنها دائما تخدع الأغراب ليطلبوا لها الشرطة ". بعد أن اعتذرت الممرضة للمتكلم في الهاتف ، وقف هو ببلادة. كانت الممرضة تدفع الكرسي المتحرك بعيدا ، و المرأة تقول : " ليس لدى أحد جرأة ! هنا لا توجد جرأة ! ليس لدى أحد هنا أية جرأة !. لو أن أحدا طلب الشرطة سوف يطلق سراحكم جميعا !. و لكن ما من جرأة ! ليس هنا أية جرأة !".
جاءت كيت من طرف الردهة الآخر ، و بين يديها بريان ، و قالت : " روب ، ماذا يحصل هنا ؟". كان تيم في أعقابهما.
" حسنا. على ما يبدو أنني تورطت في طلب الشرطة لسيدة مسنة ".
" ماذا ؟".
" لا بأس. أين الجدة ؟".
و هي في غمرة حيرتها ، ردت كيت : " إنها ترتدي ثياب عيد الميلاد. قالت الممرضة إنها تتابع الموضوع و سوف تأتي بها إلى هنا حالما تكون جاهزة ".
بعد أن علق معطفه ، أخذ روبيرت يد تيم. ساروا جميعا إلى ردهة أخرى ، إلى منطقة استقبال. في الزاوية رأى رجلا عجوزا يعزف ترنيمة عيد الميلاد بالبيانو.. و وراءه جوقة من المنشدين. رسمت إحدى العجائز ابتسامة على شفتيها للولدين ، و هو بدوره ابتسم و أومأ لزمرة من المعارف.
في زاوية أخرى جلست امرأة عجوز ، و يداها معقودتان في حضنها ، و لاحظ روبيرت أن عينيها مغمضتان . و في نفس الوقت كانت تحرك شفتيها بكلام خافت . كانت تقول : " أخبرتهم أن الملفات ليست مرتبة... الملفات غير مرتبة. كنت دائما أعتني بالملفات. أخبرتهم بشأن الملفات. أخبرته أن الملفات غير مرتبة ".
و في الطرف المقابل. كان أحد الرجال المسنين ينهض من كرسيه المتحرك ، و يمسك ببنطاله و هو يسيبر نحو الباب . و لكن كلما نهض كان جرس الإنذار ينطلق و ينبه ممرضة تأتي بسرعة لتعيده إلى مقعده. و حينما كرر المحاولة للمرة الثالثة ، و قف عازف البيانو على قدميه ، و نظر إليه شذرا. في النهاية اقتيد الرجل العجوز و كرسيه بعيدا.
بعد غياب هذا الهارب ، وقعت عينا روبيرت على جدته ، كانت تسير في كرسيها. و على الفور لاحظ كم هي جميلة و ضعيفة. إن الضوء ، في الظاهر ، يلهب شعر رأسها بخيوط مشعة ، و كانت هي تنظر إليه ، مع ابتسامة.
سألته و هو يحتضنها برقة : " روبي ، أين كنت ؟".
" هل تعرفينني ؟".
" و لم لا أعرفك ؟".
جلس قربها بارتباك تخالطه السعادة ، و قال : " آه. لا أعلم. مضت فترة طويلة منذ رأيتك لآخر مرة . هذا كل ما في الأمر ".
" و لكن كنت هنا بالأمس !".
" هذا صحيح . هذا صحيح ".
بعد نهاية الاحتفال اجتمع روبيرت و زوجته و الولدان في غرفة الجدة.كان يراقبها و هي تروي النكات و تبتسم. و كان يصغي باستغراب و هي تسليهم بإحدى قصصها. كانت من قصصه المفضلة. لقد كانت تسردها بنفس الطريقة القديمة التي مضت عليها سنوات. و في وقت لاحق ، ودعت كيت و الولدان الجدة بقبلة ، و تركوه معها وحيدا. جلس على طرف سريرها ، و نظر مباشرة في عينيها الزرقاوين و البراقتين ، ثم قال : " جدتي ، أزف وقت الرحيل ".
ربتت على رأسه و هي تبتسم و تقول : " أعلم ذلك ، أعلم ذلك . و أنا يجب أن أرحل أيضا ".
" إلى أين ؟".
" مع والدتك . حضرت في هذا اليوم لتقابلني. و سألت إذا كنت مستعدة لمرافقتها".
" و لكن يا جدتي ...".
" آه ، قلت رأيي بصراحة . أنا غير مستعدة للرحيل قبل رؤية ابني روبي ".
من وراء الدموع الغزيرة في عينيه تشكل نوع من التفهم لما يجري. عانقها لفترة مطولة، فأغلقت عينيها ، و غلب عليها النوم. مددها بهدوء على الوسادة. أخذ منها نظرة أخيرة ، و ذهب إلى الباب ، و هناك كانت العائلة بانتظاره.
و ساعة المغادرة ، لاحظوا أضواء مصابيح الشرطة و هي تشتعل و تنطفئ على التناوب. كانت الممرضة تشرح لهم ملابسات المكالمة الأخيرة. ابتسم لنفسه في طريق العودة إلى السيارة ، و قال : هاتي ارتكبت خدعة أخرى.. و حينما كانت الممرضة تعود إلى مكان خدمتها ، سمع أصداء تلك الصيحة في أرجاء الفضاء . كانت تردد : " ليس هنا شجعان ! هنا لا يوجد شجعان !".


** كريستال أربوغاست : كاتبة أمريكة من أصل إيرلندي. ولدت عام 1954 . متزوجة من فرانك و لها أربعة أولاد. تنشر في عدد من المطبوعات الدولية الشعر و القصة القصيرة. و تعمل حاليا مديرة أعمال لمكتب محاماة.


** المصدر :

** December, by : Crystal Arbogast, CyberWit magazine, India, 2007 .

** الترجمة باتفاق خاص مع الكاتبة.









تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow