Alef Logo
ابداعات
              

قصة / موت جميل

ريم طويل

2008-05-07

تشنجت أطرافه المثلجة وتقلصت أنامله دون أن يتمكن من فردها وبدأ يتململ في مكانه وشيئاَ فشيئاَ بدأ باستعادة روحه عبر أنفاس طويلة متقطعة.كان يتنفس وكأنه يملأ صدره بروحه المبعثرة فلم تلفته رائحة البرودة الواخزة إلا بعد أن امتلأ صدره بما تبقى منه وعاد إلى وجوده انتظام الإحساس.
لم تكن رأسه تعمل بعد حين بدأ بفتح جفنيه المثقلين بغبار كئيب, حاول جاهداً أن يبعد للضوء مساحة بين جفنيه لكن ظلاماَ ثقيلاَ كان يملأهما.
حين بدأت رأسه الثقيلة بالعمل بدأ يشعر بآهات الأرض التي ينام عليها تشكو ثقل رأسه و تجمد جسده المتحجر. حاول أن يمسح عينيه بيده إلا أنه لم يتمكن من ثنيها واصطدمت بعد طريق قصير بسقف منزلق أضاع مكانه واستقر تماماً فوق رأسه.
كان الإحساس بالألم آخر الأحاسيس التي مرت .

في ذهنه بعد سلسلة طويلة من التهيؤات , ففي البدء فكر أنه يشعر بالتجمد ثم رفض الفكرة, رفضها حين تمكن من ثني أنامله قليلاً كان يؤمن أن الله لم يحتج في خلق الكون أكثر من إصبع صغير وفكرة, فكرة, جال في باله سؤال عتيق: أي فكرة كان يقصدها الله حين خلق ما خلق؟. لكنه استبعد السؤال سريعاً حين شعر أنه سيمزقه في هذا الفراغ إذا ما استمر يفكر فيه.
كان يحب دوماً أن يمنح الأشياء ما تستحق لكنه كان يهرب دوماً من أفكار الفراغ التي ملأت رأسه على الدوام.
ارتعش فجأةً ثم انتفض بحركة سريعة مباغتة خمدت فوراً, وحين سكن قليلاً أخذه شعور بالقرف, والاشمئزاز, حين أحس بأنه مراقب من كل الجهات لم يشعر بالخوف لكنه أحس برغبة عنيفة بالإقياء حين فكر بأن ما يلامس خده ويلاعب أصابع قدميه ويتسلق قريباً من بطنه هو نوع من فئران الحقول, أحدها اقترب وانتشل لسانه من فمه المفتوح, عض على شفته بألم, بندم لأنه ترك فمه مفتوحاً في مكان لا يعرفه.
شغله دفء الدم الذي بدأ يسيل منه قليلاً, لكنه استعاد ثباته بعد حين وفكر أن هذه الفئران الصغيرة التي أخذ أحدها يلعق أذنه ويصفر فيها تخفف من حالة الوحدة التي بدأ يحس بها, الوحدة أكثر ما كان يكره أن يحس به.
كان يخاف الوحدة أو بشكل أدق كان يخاف أن يحس بالوحدة وهو الإحساس الذي لم يفارقه أبداً حتى حين كان في رحم أمه التي ما عاد يذكرها, فجأة فكر في أنه يذكر ذاك الرحم جيداً.
أغمض عينيه بشدة – رغم أن فتحهما ما كان يغير شيئاً-أغمضهما في محاولة لحصر المكان في الذاكرة و اجتثاثه شيئاً فشيء.
كان الرحم دافئاً لزجاً ويذكر أنه كان أسود أيضاً, وفي زاوية منه كان يتكور على نفسه كدودة.
لم يكن هناك أحد سواه, كان الرحم مملكته لكنه شعر بالوحدة فيه, لم يحبه, لم يحب رحم أمه لذا هجره سريعاً, هجره إلى الحياة حيث الألوان الكثيرة ملأت الوجود وحيث كان يتكور على نفسه كدودة ويشعر بالوحدة.
في هذا المكان الغريب الخارج عن المألوف يشعر وللمرة الوحيدة في حياته أنه متمدد بكامل طوله, مد ساقيه على طولهما وفرد يديه وأعاد رأسه إلى الخلف وما عاد يشعر بالوحدة وفئران الحقل تقاسمه مملكته الحقيقية.
كانت آلام اللسان المقطوع بدأت تزداد حين فكر بالابتسام, وحين شعر بالألم أطلق من صدره زفرة لم يسمعها, امتصتها أصوات الفأر الصغير الذي جلس في أذنه وراح يلعقها بشغف.
في لحظة أراد أن يستجمع أفكاره كلها كل ما فكر فيه منذ بدء حياته, كم من المرات حاول أن يعيد حياته في شريط سريع متسلسل وكان يفشل فالوقت يحاصره والأفكار كانت تقتل الذاكرة, لكنه الآن كان قادراً على تحقيق هذا الأمر.
حين بدأ باستعادة مشاعره الأولى في الرحم حاصرته فكرة جديدة وسؤال عتيق آخر: كم من الأزمنة استهلكت البشرية لتعبر عن أحاسيسها بلغة مفهومة؟.
كان يحاول دائماً أن يضع أسئلته في صيغة علمية محددة واضحة لكي يسهل عليه فيما بعد أن يضيفها إلى قائمة الأسئلة المنسية في أركان الذاكرة.
من أبعد نقطة فيه انتفضت فكرة جديدة , كانت دماؤه بدأت تغمره من كل الجهات وترتفع حتى صارت تضرب أنفه, وثقوب جسده التي أحدثتها الفئران الصغيرة كانت تمتلئ بالتراب الذي خلفته الفئران وهي تحفر أنفاق الهرب.
كانت الفئران قد التهمت كل شيء فيه قدميه, فخذيه, يديه, صدره, وحتى رقبته ولم يبق منه سوى الرأس وبحر من الدم الأسود اللزج.
حين راودته فكرة حلمه القديم أدرك أين هو,فلقد حلم بهذا المكان حين كان في الرحم, المكان الضيق الذي يتسع لجسده الذي كبر فجأة, ولكن متى كبر الجسد؟.
كان يدرك حقيقة أزلية بأن الجسد يكبر حين يكبر الإحساس بالخطيئة فالخطيئة تحتاج إلى جسد كبير ممتد تتمزق الروح في أجزائه ويبقى فيه فراغ عظيم.
في البدء كان يحلم بمكان صغير يتكور فيه على جسد صغير لكنه ومع تمزق روحه بات يحلم بمكان خاص واسع يتمدد فيه ويرجع رأسه للخلف ويميلها قليلاً لليمين.
إنه الحلم تحقق, مكان فسيح اتسع لجسد كبير وفئران لذيذة تلتهمه, مكان يخلد فيه ويغمض عينيه بهدوء ويفكر في كل الأسئلة المستحيلة التي كانت تخطر على باله.
أغمض عينيه بهدوء بعد أن تسرب السائل الأسود اللزج من الخارج إليهما وملأهما تماماً, أغمض عينيه بسلام حين أدرك موته الجميل.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

وجود

17-أيلول-2008

قصة / موت جميل

07-أيار-2008

قصة / جثة دافئة

21-نيسان-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow