Alef Logo
المرصد الصحفي
              

"ليلة طيبة وحظاً سعيداً" لأنّ الاختلاف في الرأي لا يعني الخيانة

يارا بدر

2008-07-21


حين عرضت المؤسسة العامة للسينما بدمشق الفيلم الأميركي (ليلة طيبة وحظاً سعيداً Good Night and Good Luck) بتوقيع الممثل والمخرج والمنتج والسيناريست الوسيم "جورج كلوني"، أثار العديد من الأسئلة كواحد من أكثر أفلام العام (2006) إثارة ً للجدل.
في دمشق، كما في باقي مدن العالم التي استضافت الفيلم، كان رد فعل الجمهور أحد أبرز نقاط الجدل. حيث استطاع اسم النجم الهوليودي اللامع المُصنف كأكثر رجال العالم وسامة ً"جورج كلوني" أن يَشد انتباه الكثيرين، لتجد الصالة شبه ممتلئة- إن لم تكن كذلك- مع بداية عرض الفيلم. لاحقاً تأتي النهاية، إلا أنّ عدد من استطاعوا الاستمرار حتى الموسيقى الختامية لم يتجاوز العشرين مُتفرجاً. ما الذي قدمه فيلم " كلوني" ليفقد مُعجبيه؟ أم أنّ السؤال الأكثر دقة، من هم معجبوه؟ خاصة ً إذا أخذنا في عين الاعتبار الاحتفاء الجماهيري والنقدي العالمي الذي اُستقبلَ به الفيلم، حتى اعتبره أحد النقاد أفضل ما قدمته هوليوود لعام (2006).
(George Clonye جورج كلوني) ابن المذيع التلفزيوني، والحامل للجنسية الأميركية، ظهر بداية ً عبر المسلسل التلفزيوني (-ER طوارئ) لينتقل منها إلى أفلام هوليوود الترفيهية، ونذكر منها (يوم واحد جيّد- سولاريس) وسواها، لاحقاً عام (1999)، ثمّ قدّم مع مجموعة من أبرز نجوم هوليوود، فيلمين حققا ربحاً عالياً، هما (أوشن11- أوشن12)، وأتبعهما بالجزء الثالث (أوشن 13) بإدارة صديقه المخرج (ستيفن سودبرغ) الذي أسّس معه شركة (سكشن آيت) للإنتاج المستقل، وتعنى بمعالجة القضايا الإنسانية في طرحها الفكري، أكثر من كونها شركة ربحيّة. قدّم كلوني من خلالها فيلمه الإخراجي الأول، عام (2002) (اعترافات عقل خطيرMind- Confession of Dangerous) من بطولة " تشاك هاريس"، بتقنيات إخراجية جيدة وهم سياسي واجتماعي ملموس، وإن لم يكن واضح المعالم والأهداف بعد.
عام (2006) تحرّك " كلوني" نحو مستوىً آخر، أكثر تمظهراً لتوجهاته الفكرية والسينمائية. فعملَ مع (غرانت هيسلوف) في كتابة سيناريو فيلمه الثاني إخراجياً (ليلة طيبة وحظاً سعيداً)، ومن ثم مُنتجاً ومُمثلاً.
في لقاء لصحيفة (ساند أند ساوند) البريطانية، تحدّث "كلوني" عن فيلمه الجديد، ونقلت صحيفة (المستقبل) اللبُنانية في عددها الصادر بتاريخ (10/آذار2006/) مقاطع مُترجمة منه:
(- هذا الفيلم تدور أحداثه في الماضي، إلى أي مدى يتناول الحاضر برأيك.
- أعتقد أنه عن اليوم بامتياز ولذلك أنجزته، عندما نستعيد خطابات "مورو- "1954 ندرك أننا في أميركا، في هذا المجتمع الحُر والمنفتح، نصاب بالهلع كل فترة، ونعرّض تلك المبادئ للخطر والمُساءلة. بعد "بيرل هاربور" مثلاً، اعتقلنا كل أميركي من أصل ياباني. ولكن الجميل في هذه البلاد هو أنها سُرعان ما تعود إلى رشدها، لذلك شعرت انه أمرٌ مُهم في مواجهة حملة الوطنية و"غوانتانامو" أن أشدد على ضرورة أن نواجه مُتهمينا، وأن اشدد على أنّ الاختلاف في الرأي لا يعني عدم الوفاء).

*****

فيلم " كلوني" عن حكاية قديمة، أبطالها رمزان قادا الشعب الأميركي في واحدة من أكثر مراحل التاريخ الأميركي حساسيّة، تجربة تحديات الفرد أمام السلطة، والسلطة في مواجهة السلطة.
يُوثق كتاب "تيد مورغان" (الحُمْر- المكارثية في أميركا القرن العشرين) الصادر عن دار (Random House) للنشر، بداية ما عُرِف في أميركا بالمكارثية، حين انقلبت عميلة مزدوجة "إليزابيث بنتلي" على الروس لصالح مكتب التحقيقات الفيدرالي، هذه اللحظة التاريخية من صيرورة الحرب الباردة استغلها حاكم ولاية (وسكونسن) الأميركية، آنذاك، "جوزيف مكارثي 1957-1908" اليميني الجمهوري، ليصل إلى أولى صفوف مجلس الشيوخ الأميركي "الكونغرس"، في مُخطط رآه البعض هادفاً لتشويه سمعة الرئيس الأميركي "ترومان" وآخرون اعتبروه مُخططاً نازياً جديداً.
بدأت حملة "مكارثي" من الخطاب السنوي الذي ألقاه أمام جمهور ناخبيه في ولايته سنة (1950)، الذي قال فيه أنه يملك بياناً يضم اسم (320) شيوعياً مُتورّطاً في عمليات غير وطنية، أو مُشتبه بتورط البعض منهم، وهم من العاملين في اشد المؤسسات الأميركية حساسية.
على أثر هذا الخطاب سارعت لجنة مجلس الشيوخ الفرعيّة الدائمة للتحقيقات، إلى تشكيل (لجنة الأنشطة غير الأميركية) برئاسة "جوزيف مكارثي"، لتحقق وتعاقب على أي نشاط غير أميركي. استدعت هذه اللجنة الكثير من الأدباء والفنانين والسياسيين للتحقيق معهم، إلا أنّ الغالبية كانت من الطبقة الوسطى العاملة. فساءلت حول أي نشاط فكري أو عملي أو أي علاقة بالفكر أو الحزب الشيوعي، وفرضت عقوبات من منع العمل إلى التهجير والاعتقال... كما خلقت ما عُرف ب " اللائحة السوداء"، والحادثة الأبرز في ذاكرة السينما الأميركية والعالمية هي وشاية المخرج المسرحي والسينمائي الكبير "إيليا كازان1909-2003" في عام (1952) ب (16) اسما من أصدقائه وتلامذته الذين صنع منهم نجوماً، ونذكر منهم صديقه الكاتب المسرحي "آرثر ميلر" وتلميذه "جيمس دين"، وصديقه الممثل والمخرج والسيناريست اليهودي، مالك البسمة الحزينة، "شارلي شابلن" الذي هُجّر على أثرها من الولايات المتحدة. ولم تغفر أجيال هوليوود لكازان يوماً هذه الخيانة التي وصمته بالواشي حتى بعد وفاته.
سنة (1953) وحملة المكارثية في قمتها، تنشر احد الصحف خبراً صغيراً، عن حادثة طرد الطيار "ميلو رادوفيتش" من القوات الجويّة المسلحة الأميركية، من دون محاكمته، استناداً إلى حديث "مكارثي" حول امتلاكه لأدلة محفوظة في ظرف مُغلق تثبت علاقة الطيار ووالده بالحزب الشيوعي.
يُثير هذا الخبر الصغير اهتمام الإعلامي "إدوارد. آر. مورو" المذيع التلفزيوني في شبكة (C.B.S) الأميركية. ليبدأ من هنا فيلم " ليلة طيبة وحظاً سعيداً".
فيلم "كلوني" عبارة عن استعراض لحملة "مورو" المضادة، ويستمر من أكتوبر /1953/ إلى ربيع العام نفسه، مواجهات إعلامية عبر برنامج "مورو" الإذاعي (شاهدوه الآن) الذي بثتهُ الشبكة خلال أعوام (1958-1951).

*****

فيلم يغيب فيه الحدث الدرامي بالمعنى التقليدي للكلمة، أو التشويقي، لصالح بُنية درامية سينمائية مُختلفة، قوامها مجموعة من اللوحات المستقلة زمانياً بالدرجة الأولى. في حين يتوّحد المكان تقريباً. فمعظم المشاهد تمّ تصويرها في استديو أعيدَ بناءهُ ليُشابه الاستوديوهات الداخلية للمحطة الإذاعية. في غرفة الإذاعة يُستحضر مكتب الكونغرس كفضاء مُقابل. وما بين هذا وذاك ينسج الفيلم تفاصيل حكايته البسيطة درامياً، فلا وجود لبطل وحيد يسير إلى نهاية مأساوية ترافقه الموسيقى الصاخبة والألوان الباهرة. يكسر "كلوني" شكل التأثير هذا كاملاً، الذي يقود المتلقي للدخول في حالة عالية من التماهي مع شخصية البطل الهوليودي (السوبرمانية) عادة، ويُقيم عوضاً عن هذا علاقة جديدة مع المتلقي، يكون من خلالها هو البطل إلى جانب "مورو"، والكاميرا عينٌ حيادية، توثيقية لا تتدخل في مجرى الأحداث.
يقول "كلوني" في اللقاء الصحفي المُشار إليه سابقاً:
(*- في الفيلم الأول اتخذت الكاميرا وجهة نظر كأنها شخصية داخل الفيلم؟
**- في هذا الفيلم أردتها غير مرئية. حاولت أن أتعلم من "غودار" فوجدت أنه بارعٌ جداً، فانتقلت إلى أفلام وثائقية مثل "Crisis- Primary" لروبرت درو.
ركزت على فكرة واحدة، وهي تصوير كل لقطة بأسلوب وثائقي. العدسات الطويلة المدى، اللحاق بالمتحدث بدل أن يبدأ حديثه بعد أن تستقر الكاميرا عليه...)
هذه البُنية المفتوحة من حيث الناحية التقنية على التجديد وإعادة الاكتشاف. يرسمها "كلوني" بألوان الأبيض والأسود، ويعمل بالتعاون مع مُدير التصوير "روبرت ألسويت" على التركيز الدقيق للوجه، خاصّة وجهي "مورو" و"مكارثي" بعيداً عن الجسد. إذ يكتفي بتعابير هذه المساحة المفتوحة لقراءات مختلفة، الكاشفة عن صور عديدة. يُركز عدسة كاميرته على العيون، نظراتها ومَداها، عُمقها وقسوتها، تقلصات العضلات، نبرة الصوت. ومن دخان سيجارة "مورو" تمتد الكاميرا لتكشف عن أصابع يده الرشيقة.
تنقل هذه العناية بأدق التفاصيل الفنية والدرامية، إصرار المخرج "جورج كلوني" على العقلانية في قراءة مشاهد فيلمه، المبني على مساحات زمانية مُتباعدة، وحكاية تبدأ من المنتصف. هي مجموعة من التقارير التي يعمل عليها الفريق ليُقدّمها "مورو" ولاحقاً يَرد عليها "مكارثي"، مع مشهد لاجتماع لجنة التحقيقات، أو فريق عمل "مورو". يختصر "كلوني" عبر هذا البناء الدرامي عالم الإنسان الجسدي إلى مستواه الفكري، بما يتوافق مع شكل البناء الفني الذي يختاره كحامل لرسالة الفيلم إلى (فكر المتلقي)، آليّة تعمل على تغيّب الأحاسيس الجسدية التي تثيرها أفلام من نوعية أخرى، أحاسيس مُتمثلة بالمغامرة والشهوة أو الخوف والتشويق. لصالح فكر يُعيد بناء الحكاية وربط تفاصيلها، وغايته في النهاية الوصول إلى قراءة جديدة لحكاية قديمة.
إيقاع مُختلف وهادئ، عكستهُ موسيقى جاز الخمسينات وصوت المغنية "ديان ريفز"، صوت ساد في مُعظم الوقت كمؤثر سمعي وحيد على خلفية الكلمات. الكلمات التي كانت لعبة وجوهر الفيلم الأساسية. فحملت صراعهُ وشفت عن طبيعة شخصياته في مستوياتها النفسيّة والذهنية. حتى لحظات الصمت كان لها دور درامي بعيد الدلالة والعمق بآن ٍ معاً. فهي إلى جانب كونها مساحة للمتلقي لاستيعاب كم التفاصيل الكثيف، فإنها تعيد إلى أسلوب التمثيل الخاص بمرحلة الخمسينات، كما يرى "كلوني".
(**- هناك اعتقاد اليوم أنه يجب قص الحواشي بشدّة لجذب الانتباه. الصمت بالنسبة لي بالغ التأثير، التوتر يكمُن في تلك الثانية. وهذا هو مفهوم فيلم الأكشن في الخمسينات.)
تحديدا ًهنا يُمكننا التقاط سحر فيلم "ليلة طيبة وحظاً سعيداً" السينمائي وإيقاعه الدرامي المُشوّق. ليس المهم معرفة ما حدث. فالجميع يستطيع بسهولة شديدة أن يعرف ما الذي حدث تاريخياً. ولكن كيف حدث؟ ولماذا، لماذا إنسانياً وفكرياً هو هَمْ "كلوني" الذاتي والسينمائي.

*****

بكل هذه التفاصيل المشغولة بحرفيّة، يرسم المخرج صورة مُتكاملة لمناخات الخمسينات، وفي ذات الوقت يستفيد منها برؤية إخراجية دقيقة، ليشكل لعبته المركبة (فيلم داخل فيلم) إن صحّ القول.
فيلم "ليلة طيبة وحظاً سعيداً" وحيد ومُستقل بذاته في بُنيته الدرامية وكينونته الفنية، ولكن مع نجاح "جورج كلوني" في إدخال المتلقي كطرف ثالث في العملية السينمائية يتشكل لدينا البُعد الثاني، أو المستوى الثاني إن صح القول، في هذا الفيلم الذي يتحدّث عن اليوم، و(بامتياز) كما ذكر. إذ تغدو الكاميرا ذاك القلم الذي يكتب السؤال التاريخي الجديد، و"مكارثي" يلعب دوره ببراعة "جورج بوش" الرئيس الأميركي الذي امتاز كممثل سينمائي حضرَ في العديد من الأفلام، وأبرزها فيلم المخرج الأميركي "مايكل مور" (فهرنهارت 11). أما حملة مكافحة الشيوعية أو النشاطات المعادية لأميركا فهي اليوم حملة الوطنية ضدّ الإرهاب العالمي على أميركا.
إن كان "مورو" قد استطاع حسم الصراع آنذاك، لصالح الحقوق الدستورية بحرية الرأي والاعتقاد والإيمان والاجتماع، ضد الخوف أو الترهيب من الخوف. فسؤال اليوم عن "مورو"؟ سؤالاً عن دور وسائل الإعلام المُعاصرة التي اتخذت أبعاداً تقنية عالية التطوّر والسرعة والانتشار، ولكن ما هو مدى فاعليتها الحقيقي مقارنة بتلك التقنيات البسيطة في الماضي؟ أم أنّ السؤال يمتد أكثر إلى المتلقي، وحقيقية اهتماماته الفعليّة بمجتمعه ودوره في هذا المجتمع؟!
يبدأ فيلم (ليلة طيبة وحظاً سعيداً) يوم (/25 أكتوبر) من سنة (1958) مع حفل تكريم الإعلامي (إدوارد. أر. مورو) وفريقه الفني. في كلمته التي ألقاها في ذلك اليوم، تحدّث "مورو" عن أمراض التلفزيون، هذه الوسيلة الإعلامية التي دخلت كل منزل في الولايات المتحدة والعالم. الأمراض المُتمثلة بتسمين الجماهير المُستمر من خلال برامج التسلية والمنوعات والأخبار الفنيّة والمسلسلات العاطفية و أفلام التشويق والمباريات الرياضيّة، ممّا يؤدي إلى عزلهم داخل منازلهم، وتضليلهم عن أبسط حقوقهم، وصرف انتباههم عمّا يجري في حياتهم وفي العالم من حولهم. إذ يتم سلبهم بشكلٍ شبه كلّي إلى عالمٍ وهمي بعيد عن أرض الواقع.
ليست غاية "مورو" الرئيسية إسقاط "مكارثي"، فهو كما يُصرّح في الفيلم، عبر خطابه إلى "مكارثي" وجمهور المشاهدين، ليس بشيوعي ولا بمتعاطف مع الشيوعيين، ولكنه يحارب لأجل مبادئ الدستور التي تحمي أيّ مجتمع من أيّة سلطة. حاور "مورو" خصمه " مكارثي" حوار الند للند، هذا الحوار هو الهدف. الحوار الذي استطاع من خلاله أن يتجاوز"مكارثي"، وصولاً إلى الشارع الأميركي أيضاً. كان همّهُ أن يُقدّم الحقيقة التي تقوم عليها لعبة "مكارثي". وقد يقول اليوم كثيرون بأنّ الحقيقة وهمٌ إنسانيٌ عبثي. الحقيقة بالنسبة إلى "مورو" ومن وراءه "كلوني" هي تقديم الوجه الآخر للظاهري من الحكاية. كانت حكاية "مكارثي" هي الحقيقة بالنسبة للشعب الأميركي، و"مورو" لم يفعل أكثر من أن ناقش هذه الحكاية ليُقدّم من خلال نقدها الوجه الآخر لها. وبالتالي نجح في عدم السماح للخوف بأن يدفع الشعب والحكومة الأميركية نحو حقبةٍ من الجنون، كما قال.
كانت هذه هي قراءة " إدوارد. آر. مورو" لدور الإعلام. "مورو" الذي بدأ عمله إبان الحرب العالمية الثانية، عندما كان يُغطي من لندن أولى عمليات القصف لحساب إذاعة (C.B.S) من خلال برنامجه (هنا... لندن)، حافظ دوماً على رؤيته الأخلاقية، إن ابتعدنا عن المصطلحات الأيديولوجية ولم نقل الثورية، لدور الإعلام. فمن خلال هذا البرنامج استمع الشعب الأميركي بشرائحه الاجتماعية المختلفة إلى أزيز القنابل مُباشرة ً عبر المذياع، ابسط الوسائل الإعلامية.
تميّز "مورو" عبر تاريخه الإعلامي بالشجاعة، النزاهة والمسؤولية الاجتماعية. صفات خلقت منه صحفياً خاصاً على المستوى الفكري والوجودي في حياة مجموعة كبيرة من الناس. وصولاً إلى أن يغدو أعظم إعلامي أميركي في الصحافة المرئية والمسموعة، حتى عينه الرئيس الأميركي "جون كيندي" مُديراً لوكالة الإعلام الأميركية لغاية عام (1961). كما تميّز بحدّة نظرته التي تعكس صرامة وجديّة عالية. هدوءهُ وسيجارته التي لم تنطفئ يوماً إلى عام (1965) حين توفي عن (57) عاماً بسرطان الرئة.
ربما يكون ضباب سيجارته الكثيف الشيء الوحيد الذي بقيّ من صورة هذا الرجل. وهو ضباب كثيف يلف وسائل الإعلام ودورها الحالي. يخلق "كلوني" من كلمة "مورو" مساحة حُرّة، ليسأل من خلالها وبشكل ٍ مُباشر، كما يسأل وإنما بشكلٍ موارب عبر رسالة الفيلم الفكرية، عن الدور الأخلاقي والاجتماعي المنوط بوسائل الإعلام. وعن مدى ارتباطه باللعبة السياسية الحاكمة اليوم في العالم عموماً، وفي أميركا خصوصاً.
المستوى الثاني لفيلم "كلوني"، أو فيلمه الداخلي، يقرأ الواقع بمحاولة المحافظين الجُدد برئاسة "جورج بوش" إعادة إحياء المكارثية، عبر استغلال مناخ الخوف السائد في الشارع الأميركي من الإرهاب، منذ أحداث (9/11) يوم إسقاط برجي التجارة العالميين. سؤال "كلوني" في المدى الأعمق من الغبار والدمار الذي كان على السطح. هو سؤال عن الأشياء التي سقطت مع البُرجين تحت راية حماية الأبراج الأخرى والأمن الأميركي، هل يسقط الدستور لنحمي الأمة الأميركية من الإرهابيين؟!
يحاول "كلوني" أن يَفتح باب الحوار المسؤول مع الإدارة الأميركية التي استغلت الخوف الإنساني وعَملت على إسكات الأصوات المناهضة للعولمة، وللنظام الرأسمالي، وربما أكثر، تحت راية الوطنيّة. كما "مورو" ليس هدف "كلوني" تقديم إجابات، أو مُحاكمة أشخاص. بل العلميّة الموضوعية والتاريخية تجاه الأحداث التي ترسم حياة الأفراد والتاريخ. من خلال محاولة فهم الآخر والحوار معه أيّاً كان، وطنياً أم إرهابياً. فالهدف الأعلى أن لا يغيب الإنسان أو يفقد إنسانيته، وبالتالي ألاّ يُهمّش الدستور الذي يَنظم شكل العلاقات وحرّيات الأفراد في أيّ مكان. فقبل أن نعلن الحرب دعونا نسأل: لماذا، وعلى من نعلنها.... (العيب ليس في نجومنا يا "بروتوس"، العيب في أنفسنا.) هذا خطاب "مورو" إلى "مكارثي". وهو خطاب "كلوني" الحُر.
الأمر الملفت للانتباه على الصعيد الأيديولوجي لفيلم "ليلة طيبة وحظاً سعيداً" في بُعديه، هو الرد السريع الذي تلقاه مُخرج الفيلم من قبل الأكاديمية العُليا للعلوم السينمائية في أميركا، حيث رُشحَ الفيلم للعديد من جوائز الأوسكار ونذكر منها جائزة أفضل مُخرج وأفضل سيناريو اصلي، وجائزة أفضل ممثل بدور رئيسي ل "ديفيد ستراثيرون" بدور "مورو". إلا أنه خرج من بريق وضجيج احتفال الأوسكار خالي الوفاض، مُعارضاً توقعات الكثير من النقاد والصحفيين. إذ كانت إدارة المحافظين الجُدد على استعداد لدعم فيلم "بروك باك ماونتن" ليفوز بأكثر من جائزة أهمها أفضل إخراج. فيلم تدور أحداثه حول رجال الكابوي الأميركي وعلاقتهم ببعض. قصة إنسانية رقيقة في السهول والتلال الأميركية عن علاقة شذوذ جنسي بين رجلين!
كما عانى الفيلم من شبه تغيّب إعلامي، مع بروز تصنيفات لا تمت إلى الأخلاق الصحفيّة بشيء، ومنها تقييم شخص مثل "بيلي أوريلي" من شبكة (فوكس نيوز) المحافظة، حين عدّ "جورج كلوني" في قائمة (غير الوطنيين)، حسب تصريح "كلوني" لمجلة (أنترتيمنت ويكلي). كل هذا مقارنة ً بالضجة الإعلاميّة التي يأخذها افتتاح أيّ فيلم من طراز "عودة سوبرمان"، أو "سبايدر مان"، وحتى "11 فهرنارت" الذي يعمل بآليّة تفريغ مشاعر الغضب، وليس إنتاج محاكمة عقلية فاعلة، وهنا لا بُد أن نذكر أنّ الرئيس الأميركي "جورج بوش" خرج بعد مشاهدة الفيلم مكتفياً بالابتسام الساخر!

*****

ختاماً نؤكد على الرسالة التي تجمع بين مستويي الفيلم، وهي ضرورة عدم الخلط بين الاختلاف في الرأي وعدم الوفاء للوطن.
تحيل هذه الرسالة بالضرورة إلى تاريخ الساحة السورية الإعلامي والسياسي، وحاضرها. فتحت شعار (الحرب) نتساءل عن الثمن الذي دفعناه في حربنا الداخلية. نسأل عن مصداقية الإعلام الرسمي لدينا تجاه الوطن والمواطن، وأمام التاريخ، والدور الذي يلعبه في مواجهة الخوف الخارجي. نسأل عن افتقادنا الطويل لرجال من أمثال "إدوارد. آر. مورو". وقد غدت الصحافة لدينا مجالاً للاستعراض الثقافي، أو وسيلة لتتبع الأخبار الرياضية والفنية حين تطفئ الكهرباء أجهزة الانترنيت.
على ضوء هذه الأسئلة يُمكننا أن نفهم السبب الذي دفعَ بفيلم "كلوني" إلى فقدان مُعجبيه السوريين. هذا الفيلم الذي أنتج بميزانية مُستقلة بلغت (8) مليون دولار فقط، مقارنة بالإنتاجات الضخمة حتى حدود الخيال للشركات الهوليودية. وبمدة هي (93) دقيقة، يطرح الكثير من الأسئلة التي لم يرد عليها سياسياً في أميركا، والكثير من الأسئلة التي يجب ألاّ تطرح في العديد من دول العالم الآمنة في سباتها التاريخي وسكونها الحضاري.
فيلم سيبقى طويلاً في الذاكرة السينمائية والإنسانية، يُعيد من جديد، وباستخدام التقنيات الحديثة، صياغة السؤال الشكسبيري قديم العهد: "أن تكون أو لا تكون... هذا هو السؤال!".
ولا يبقى لنا، أكثر من أن نقول:
(عمتم مساءً وحظاً سعيداً. Good Night and Good Luck

عن موقع الأوان

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

تحويل القصيدة إلى معادلة رياضياتية

04-أيلول-2014

المخرج نضال حسن: انطلاقة شبابية نحو الإنتاج المشترك

28-أيلول-2009

"ليلة طيبة وحظاً سعيداً" لأنّ الاختلاف في الرأي لا يعني الخيانة

21-تموز-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow