Alef Logo
ضفـاف
              

حين‮ ‬يتحول الحجاب إلى حرية‮..!

خالد السليكي

2008-03-04

قبل سنوات، حين صدر القانون الفرنسي الذي يقضي بمنع الرموز الدينية داخل المدارس، طفت إلى السطح معارضة قوية من قبل بعض "المسلمين" الذين يوجدون في فرنسا، وغيرها .

استعدت هذا الحدث لأنني فوجئت مؤخرا بعبارة صحفية تشتغل بإحدى القنوات التلفزية، حيث قالت » :الحجاب حرية كنت أحلم بها وحققتها"! هكذا، من الاحتجاج بحلق الشعر إلى تحقيق الحرية بإحدى الرموز الأكثر خنقا (بالمعنى الرمزي) ، والاختفاء بل الاختباء وراء قطعة قماش ذات بعد إيديولوجي رمزي، أكثر منها قطعة ذات بعد وظيفي..! لذلك فإن السؤال الذي ينبغي أن يطرح، اليوم، هو ليس لماذا يفكر هؤلاء في الحجاب باعتباره هوية، وإنما كيف يفكرون فيه باعتباره هوية ثقافية؟ إن مثل هذا النمط من التفكير بـ»المقلوب«، والمشتغل ضمن منطق معاكس، يدفعنا إلى إعادة النظر في كل تصوراتنا، وإعادة طرح القضية من جوانب أخرى، غير فقهية أو شرعية أو دينية، وإنما من جهة نظر هوية الذات في علاقتها بذاتها وامتدادها، ثم في علاقاتها المتقاطعة مع الآخر . ذلك أن المسألة لم تعد مسألة دينية، بقدر ما صارت قضية وجودية، وصارت نظرة فلسفية ملأى بصور الانتصار والهوية وتحقيق الطموحات، خصوصا إذا نحن قرأنا الجسد المحجب، كمعطى واقعي، فهو جسد تنخره كل التناقضات، ومليء بالمفارقات . ففي الوقت الذي نجد فيه الجسد يلبس الحجاب كرمز للالتزام والحشمة والوقار المقترن بخلفية دينية لها نصوصها المبررة، نجد الجزء السفلي يلبس سروال الجينز مظهرا ومبرزا كل المفاتن الأكثر حساسية في جسد المرأة، أي كل "الطيات"/الجيوب التي اعتبر الخطاب الديني إخفاءها واجبا، إذ هناك إخفاء لما ينبغي أن يظهر وإظهار لما ينبغي إخفاؤه. لأن الأساسي، أصبح هو الإعلان عن انتماء ما، بأبسط الوسائل وأقرب السبل . والأمر الذي يدعو إلى التوقف والإنصات إلى مظاهر هذه الظاهرة، هو درجة شيوعها وانتشارها في الشارع العربي. وكيف صار الهم الأوحد للنساء والشابات هو ستر الشعر، والعمل على تشتيت بل وتغييب مكمن الجمال الذي يمثل رمز الفتنة والغواية بالنسبة للرجل . لذلك لم يعد الحجاب قضية حشمة والتزام، وإنما صار مشروعا مجتمعيا كما تذهب إلى ذلك رجاء بن سلامة حيث ترى أنه »تنتشر الخُمر واللحى تعبيرا صامتا عن مشروع مجتمعي لعل أهم ما فيه هو أنه رد فعل على امحاء الفواصل بين النوعين الاجتماعيين وتحرر الأجساد النسائية من حجبها. وبذلك تكون وظيفة الخِمار التمييزية قد تغيرت من التمييز بين الحرائر والإماء إلى التمييز بين النساء والرجال في عصر أخذت فيه الفوارق الجندرية تضطرب وتمَّحي" (رجاء بن سلامة؛ نقد الثوابت: آراءفي العنف والتمييز والمصادرة، دار الطليعة، 2005، ص 39)
ماذهبت إليه رجاء بن سلامة، يكشف بعمق عن التحولات الاجتماعية التي طرأت داخل المجتمع العربي، الذي ظل محكوما بعقلية الذكورة، كما ظلت »الفحولة« ومركزيتها هي المتحكم في كل العلاقات بين الجنسين، هذا دون أن نغفل حضورها في إدراك كل الواقع، حيث تأسست عليها علاقات لا تُدرك إلا من زاوية »مركزية-اللوغوس-القضيب"
وهكذا حدث تطور في البعد الرمزي لهذه النظرة، وعرف تحولا ظاهريا، بحيث إذا كانت المرأة قد خرجت إلى الحياة العامة، والتحقت بالمعاهد، والمؤسسات، وانتزعت حقها في العمل، فإنها مع ذلك ظلت محكومة بنفس السلط والعلاقة القديمة: الذكر والأنثى. ولعل مدونة الأسرة، في المغرب، أي قانون الأحوال الشخصية في الوطن العربي (نستثني تونس) يشكل تجسيدا واضحا للفحولة، وسلطة الرجل المتحكمة في العلاقات بينه وبين الجنس الآخر الذي لايعتبر إلا كمقابل أقل درجة وقيمة، يظل في حاجة دائمة إلى الرجل باعتباره السيد، والولي. لذلك لم تأت "الثورات" الإصلاحية لقانون الأحوال الشخصية بجديد، بل جسد كارثية السلطة البطريركية/القضيبية المحكومة بعلاقات اللاتكافؤ، وسلطة التمليك والإبقاء على المرأة، كـ"أداة" للاستعمال الجنسي، أو أداة لحماية النسل والنسب. لكن المفارقة التي تدعو إلى الاستغراب، هو قبول المرأة العربية بهذا الوضع، واستمرارها في تكريسه والمحافظة عليه، حتى في بعض الحالات الأكثر تطرفا، والتي تدعو من خلالها إلى التحرر والقضاء على هذه السلطة الرجولية المطلقة! لذا يكون من المناسب، اليوم، مقاربة الكيفية التي تفكر بها المحجبات، اللواتي صار بالنسبة إليهن هذه القطعة من القماش، نموذجا للحرية، والشخصية، والهوية. في عدة مناسبات، كنت أحاول أن أفهم لماذا لجأت بعض الشابات إلى ارتداء الحجاب بعد أن كن متفتحات في أفكارهن، وهو ما استمر حتى في مرحلة ما بعد استعمال الحجاب، فهن يخالطن الذكور، ويختلين معهم، بل منهن من تمارس حياته الجنسية بشكل عاد ومتحرر . وكلما طرحت عليهن سؤالا بهذا الخصوص، يجبن نفس الجواب، وقد صار مقولبا لديهن جميعا: "لأن الحجاب لا نقاش فيه، فستر الرأس أمر إلهي، وكل الفقهاء يؤكدون على ذلك . المهم أن نتحجب، وأما إذا ارتكبنا كبائر أو معصيات، فإن الله غفور رحيم". لعل النقط المركزية في هذه الإجابة/الإجابات، حول اختيار هذا النمط من التعبير عن مظاهر الالتزام، هو الدين الإسلامي. بحيث تشير كل النقاشات الدائرة في المراكز والمنتديات إلى موقع المرأة العربية المركزي في المحافظة على الروابط الأسرية والتماسك الاجتماعي ونقل القيم الثقافية، وهذا مادفع ناديا حجاب إلى اعتبار المرأة العربية تقف في موقع محرج يجعلها تختار بين الحق والاحترام . إذ لا ترغب في فقدان الدفء والأمان اللذين توفرهما تقليديا الأسرة العربية، خصوصا في ظل التحولات السريعة التي لحقت المجتمع والبنية الاقتصادية، وهو ما يجعل النساء أكثر اعتمادا على مؤسسات الدولة وتشريعاتها من أجل حماية حقوقهن. غير أن المساحة الحرجة التي تخص العلاقات داخل الأسرة نجدها مؤسسة على التباين وانعدام المساواة بين الجنسين، ويعود ذلك إلى النقاش حول أدوار النساء الذي ظل يدور ضمن الإطار الإسلامي (ناديا حجاب؛ الإسلام، والتغير الاعي، واقع حياة النساء العربيات؛ ضمن كتاب الإسلام والجنوسة، والتغير الاجتماعي. منشورات الأهلية، 2003، ص 118).
واضح أن الزيادة المطردة في استعمال الحجاب، في السنوات الأخيرة، تعبر عن واقع متعدد الأوجه،و يعتبرها البعض رمزا للتعبير عن الأصالة الثقافية، والبعض من النساء يرين فيها علامة على التقوى، أما البعض فيشكل الحجاب بالنسبة إليهن تأشيرة للتمكن من الالتحاق بالمدرسة أوالعمل خارج البيت، من غير أن يكن مطوقات بالمضايقات . إن المسألة لها ارتباط قوي ومطلق بالإطار الإسلامي، باعتبار الحجاب يندرج ضمن مسألة الهوية من جهة والهيمنة الغربية من جانب آخر، والجدل الدائر حول سبل البحث عن الاستقلال السياسي والاقتصادي. وهذا ما قوَّى التناقضات وزاد من تعمقيها. إذ ليس أمام الإنسان العربي، في ظل توالي الانهيارات السياسية والاقتصادية والفكرية سوى العودة إلى الماضي، في محاولة منه نحو مقاومة "الاجتياح" الفكري القادم من الآخر. وهذا ما زاد من تحامل العربي على الغربي، وزاد من ثبات اعتقاده على أن الغرب ضده، وأن مكمن القوة لديه، هو الدين الإسلامي الذي يقض مضاجع الغربيين، الذين يظل شغلهم الشاغل هو القضاء على الإسلام. ومن الطبيعي أن تكون المرأة منخرطة في هذا الصراع، ومن ثم كان من الضروري -في اعتقادها- المساهمة في إبراز وتجلية الهوية الإسلامية، خصوصا أن المعتقد الديني لدى الإنسان العربي، أمر مقدس لايقبل الجدال، ومن ثم فإن التشبت به لايمكن إلا أن يزداد ترسيخا في بنيات المعتقد لدىهم . وهنا نجد أنفسنا داخل دائرة الصراع الديني في مواجهة الآخر الذي لا ينظر إليه إلا باعتباره عدوا وجبت مواجهته والوقوف في وجهه بإشهار الهوية الإسلامية التي تزعجه. فيصبح -في اعتقاد المسلم- الدين هو الهوية المطلقة التي لايمكن التفكير أو التواصل مع العالم إلا من خلاله. وهذا ما سبق للينين أن تناوله، في مقال يحمل عنوان »حول الدين« . فالمحاربة اللفظية للتشدد الديني لاتزيده إلا تشددا. لذلك يبقى الأساس هو خلق الشروط المادية الحديثة التي تجعل المجتمع صناعيا. فالفرد حين يفتقد لشروط اقتصادية واجتماعية متطورة، فإنه لابد له من البحث عن ملجإ لامادي يأوي إليه، ويحتمي به. وهو حال الإنسان العربي، ذلك أن العودة اللامشروطة إلى الإرث العربي الإسلامي القديم، في صوره اللاعقلانية، يظل أمرا طبيعيا، خصوصا أن هناك إرث تاريخي تجره الذاكرة العربية، المحكومة بنظرة الاستعلاء، والإشعاع اللامنطقي لهذا الماضي الذي يشكل القاعدة التي انطلق منها الآخر/الغرب. في نقد فلسفة الحق عند هيجل قال ماركس »إن الشقاء الديني هو من جهة تعبير عن الشقاء الواقعي ومن جهة ثانية احتجاج على هذا الشقاء، إن الدين هو الزفرة يصعدها الإنسان الذي هدَّه الشقاء، هو الروح في عالم بلا روح والفكر في عصر لافكر له. إنه أفيون الشعوب «. ويفهم من هذه العبارة، التي أنتجت حساسيات وردود فعل على مر الوقت، خصوصا بالنسبة للمسلمين، أنه لم يقصد من وراء ذلك القضاء على الدين، وإنما هو تجسيد لكيفية فهم الوجود والواقع من قبل من يعيشون »شقاء« أو معضلة تخلف وانهيار حضاري وفكري. ليس من حل أمام المجتمعات التي تفتقد لأدنى شروط العيش الكريم، وفي ظل التسلط المطلق للذكورية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، سوى البحث عن الإجابات الجاهزة، في تعمد واضح إلى تنحية أي »سؤال« يبحث عن حقيقة وماهية القضايا التي تتخبط فيها. إذا كانت المرأة، ماتزال تقبل بالدور التقليدي، على الرغم من محاولاتها المتعددة للبحث عن أفق متحرر - بشكل محتشم وخجول-، فإن ذلك يعود إلى طبيعة التفكير الذي يحكم نظرتها للأشياء، وللعلاقات، وللعالم والتي جميعها تبقى تشتغل في إطار ما هو ديني إسلامي، وبالضبط من منظور فقهي معين. وقد دافعت منى فياض كوثراني عن الحجاب، باعبتاره صيغة من صيغ الوقوف في وجه الهيمنة الثقافية والاقتصادية حيث كتبت في مقال بصحيفة السفير اليومية (لبنان، 1985) قالت فيه إنّ "الطريقة المثلى للسيطرة علينا هي تدمير معتقداتنا الثقافية والدينية، بحيث أصبح المؤمن يعرف بـ »المتعصب« وقد تم ذلك لتمكين الغرب من غزو ديارنا واختراقها بالسلعة الاستهلاكية، وتحويل دولنا إلى أسواق. وقد أدى ذلك إلى تبعية سياسية واقتصادية وإلى ضياع الهوية الثقافية التي استبدلت بـ »الحداثة«. إن الشرقي لن يقدم على شراء تلك السلع المتنوعة -من ملابس، وسيارات وأجهزة كهربائي، وأطعمة جاهزة، وأثاث وغيرها- ما لم يقتنع بأنه في حاجة إلى ثقافة غير ثقافته، وبأن هذه الثقافة تمثل "الحداثة" في حين تمثل ثقافته التخلف «. كما يذهب آخر إلى الكشف عن حقيقة التآمر الغربي والقضاء على الإسلام كقوة وهوية، معتبرا بأن »الذين استعمروا الشرق الإسلامي يدركون جيدا هذه الحقيقة. فهم لايخشون شيئا قدر خشيتهم من قيام حركة إسلامية تعيد ربطنا بتاريخنا وتشدنا مباشرة بطبيعتنا وميولنا وتطلقنا لتحقيق واجبنا على نحو يعيد إحياء أيام مجد الحضارة الإسلامية، الأيام التي قهرنا فيها سطوة التتار وأطفأنا نورهم وواجهنا الغزو الصليبي ودمرناه وغسلنا رجسه. " (محمد الغزالي، من هنا نعلم، دار الكتاب الحديثة، 1370 هـ، ص 11)
إذن، لم يتم التعامل مع الواقع العربي الإسلامي، من زاوية نظر موضوعية ذات منحى عقلاني عن طريق المساءلة والنقد، وإعادة افتحاص القضايا، ومحاولة فهم المفكر واللامفكر فيه من قبل الأخر، بل ظل الوضع على ما كان عليه الأمر في السابق، بكون الإنسان المسلم دائما مستهدفا في عقيدته، وتبعا لذلك فإن الدعوة الغربية إلى نزع الحجاب وتقييد الطلاق وتعدد الزوجات ظلت جميعها أمورا تفهم على أنها نابعة من هذا المصدر، أي من الرغبة في امتصاص قوة الشعب المسلم، لذلك فإنه لازال ينظر إلى الغرب كمحتل ومستعمر سابق، لكونه مسكونا بهوس إضعاف المجتمعات المسلمة بأدوات مختلفة عن السابق (انظر إيفون يزبك حداد، الإسلام والجنوسة : معضلات في العالم العربي المتغير)، أي بالحرب الفكرية التي تنصب حول الدين، بعد أن فشلت حملاته العسكرية والمسلحة . وهذا ما يفسر، حاليا، الشكل المتزايد الذي يتم به طرح القيم الإسلامية السلفية المتعلقة بمكانة المرأة ودورها، ودورالأسرة، والنظام الاجتماعي ليس لأنها الحل السماوي للإنسانية وإنما لكونها آخر معالم المقاومة ضد التهديد اللامنقطع الذي برز مع التحولات العالمية التي انتقلت إلى أفق وعي مغاير يصعب مواكبته، و إدراكه أو فهمه، -بالنسبة للعربي-المسلم، فأحرى تطويره وتقويضه. غير أن ما يثير، هو هذا الخلل الذي يتمظهر به الجسد الأنثوي العربي/الإسلامي، فهو مشدود إلى القيم القديمة، معلنا بذلك عن انتمائه إلى دائرة دينية لها مرجعيتها، كاشفا عن السلط التي تخترقه وتعيد إنتاج دلالته، ولكنه في الآن نفسه يطمح إلى الاستفادة من دائرة التحرر التي يستمد منها الجسد الغربي انتماءه. يقول فوكوياما إن المتعصبين الدينيين" يحاربون الغرب، وفي الوقت ذاته يريدون أن يكونوا مثله، وهذا ما سبق لماركس أن سماه »أسلوب الإنتاج الشرقي" الذي يتميز بالهشاشة والذي لاينتج غير النظم اللاعقلانية. ولهذا وجدنا البعض يرى أن" أغطية الرأس والجسم التي تصنع في عواصم الغرب وتغزو أسواقنا وبيوتنا لم تصنع لحماية تراثنا، بل للسخرية من ديننا وإرثنا وعاداتنا"(محمد عبيد، تعليق ضمن كتاب "المرأة ودورها في الوحدة العربيّة"، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1982، ص 258)
لقد اتخذت النقاشات حول المرأة الإطار الديني كإطار مرجعي مغلق لا يقبل أي تجاوز، ولذلك تداخلت معه عدة هياكل لها صلة بالهوية الثقافية، والمحافظة على خصوصيات الذات في مقابل الآخر، فجلّ اللواتي يلجأن إلى الحجاب، يأتين من خلفية لاعقلانية، تنضبط وفق قواعد المنطق الديني البسيط. خصوصا إذا نحن عدنا إلى ظاهرة الدعاة والوعاظ الذين يلجأون في خطاباتهم البسيطة، إلى درجة الصفر في الوعي الديني، بمعنى تغييب كل حس عقلاني ونقدي بالخطاب الديني المتنور الذي يتعالى على قضايا الحجاب. فظاهرة الدعاة والوعاظ الجدد، والذين لا يتوقفون عن التشديد على ارتداء الحجاب، هي دعوة دونكشوتية، تسعى إلى معالجة القضايا الوجودية والحضارية الكبرى، بأدوات صدئة وغير مجدية على الإطلاق. لكن غياب المساحات العقلانية بالشكل الذي يجعل العقل النقدي يشتغل هو الذي جعل نمطا من الخطاب يشيع مشتعلا كالنار في الهشيم . لذلك، نعيد هنا طرح سؤال يظل في حاجة إلى التأمل: لماذا تلجأ النساء إلى ارتداء الحجاب بمجرد ما يستمعن إلى شريط، أو يشاهدن على قناة داعية يدعو إلى ارتدائه، في حين لا يؤثر الخطاب الذي يدعو إلى التحرر من مظاهر الزيف، والعمل على تأصيل قيم إنسانية متزنة؟ الظاهر أن العقل العربي، في مجمله، يتميز بنوع من الكسل والفتور. فهو منذ أن سُد باب الاجتهاد، أنهى معركته مع الواقع، وأنهى قضية "السؤال" وصار تعامله مع الخطاب التراثي بمجمله، تعاملا سلبيا، أي إنه يتلقاه بعماء، من دون أن يناقش أو يجادل. إنها سلطة المقدس، وسلطة التراث. فلا غرابة فيما ينتجه الواقع الراهن من مظاهر التنافر والمفارقات الصارخة، التي تثقل الواقع العربي. وكما سبقت الإشارة، إن الجسد المحجب، في الشارع العربي، يكشف عن العديد من الاختلالات والتناقضات، فهو يعلن عن الالتزام، في الوقت الذي يصرخ في وجه التقليد وينتفض عليه متحررا عن طريق استعماله للجينز، مثلا، الذي يحمل دلالات الليبرالية والتحرر، بل إنه يمثل رمزا للبرالية، مثله مثل الكوكا كولا. وهذا ما حدا بالبعض إلى التوجه باللائمة على الإسلام، باعتباره مصدرا، بل وآلة لإنتاج نمط من الفكر البائس حول المرأة، وهو الذي يكرس السلطوية الذكورية وهيمنتها. وقد تمكنت أميرة الدرة من التصريح مباشرة حول خطورة الدين باعتباره "سلاحا قويا وشديد الخطورة، سيفا ذا حدين. صحيح أن تخلف الفرد العربي ذكرا كان أم أنثى يعود إلى جذور كثيرة، إلا أن الجذر الأساس هو الدين. فمنه جاءت التقاليد، والعادات، والممارسات التي تحكم الفرد العربي، وإن له قيودا قوية تشد إلى وراء المرأة العربية على وجه الخصوص حيث تجد في بعض الأحيان أنها تعتبر مالكة لنصف عقل ونصف دين. وفي حالات أخرى تكون ضلعا من ضلوع الرجل وهي خبيثة في كل ما تفعله، مهووسة بما هو محرم. وما لم نجد تفسيرا حديثا جديدا للدين، وطريقة لإبعاد الدين عن تشكيل الفرد العربي، فإننا لن ننجح في تغيير الهياكل الاجتماعية" (أميرة الدرة، "المرأة ودورها في حركة الوحدة العربيّة، مركز دراسات الوحدة العربية، 1982، ص 82)
فالمنظور الديني جعل من المرأة مرتعا للتناقضات، وهو ما يوحي بازدواجية الثناء والإزدراء، الرفع من قيمتها وإذلالها، وهي ازدواجية يراد منها تكريس وضعها الراهن. والوعاظ حين يتحدثون عن المرأة، فإنهم ينطلقون دائما من أن الإسلام قد كرمها وأعلى من شأنها، وجعل الرجل نصفها الآخر الذي من واجبه أن يتكفل بها، وذلك في سبيل المحافظة على الأسرة وعلى استقرارها، لكن سرعان ما يتراجع هذا التكريم، بمجرد ما يتم البحث في الجوانب الأخرى المختفية من وراءه، لذلك فإن ارتداء الحجاب يقع عند نقطة التقاء بين إنكار الجسد واتهامه، وبين الاهتمام المفرط بالجسد والخطر الذي يمكن أن يلقيه على المرأة نفسها كما على الآخرين... يفترض لها أن تكون ذات مظهر متقشف، وأن تكون متوجسة وعدوانية إزاء الآخرين وإزاء دوافعهم المحتملة وأن تقلل إلى الحد الأدنى الاختلاط بالرجال. إلا أنها في الوقت ذاته يفترض أن تتصرف كأنثى كاملة جنسيا مع زوجها. ويتوقع من المرأة أن تجمع النقيضين: العفة والنشاط الجنسي الرغائبي. عليها باستمرار أن تعاكس مظهرها المتواضع، بل والكئيب وتثبت لزوجها أنها امرأة مرغوب فيها، لهذا تبقى المرأة حبيسة عدة شروط متوارثة، وقد صارت مزمنة، وتدفعها إلى القيام بدور الخنوع، وأن تبقى مجرد أداة، وهي في ذلك تشعر بالراحة لأنها مستعدة نفسيا للعب هذا الدور . لكن وعيها يجعلها غير راضية، الأمر الذي يدفعها إلى الوعي بحقوقها، فيتكلم الرجل عن تحريرها وعن المساواة، لكنه غير قادر على التنازل عما حققه من امتيازات طوال تاريخه الثقافي.

عن موقع الأوان



تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

حين يتعرى الجسد الأنثوي محجبا..

22-كانون الأول-2008

حين‮ ‬يتحول الحجاب إلى حرية‮..!

04-آذار-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow