Alef Logo
ابداعات
              

فن تشكيلي / الفنان سعد يكن: ما يُشكِلُ علينا هو طبيعة لعبته

منذر المصري

2006-04-08

(إلى حلب /1967-1971/الجافة والباردة والكئيبة، مع حبّي)

1- سيأتي يوم ليس ببعيدٍ يقال فيه: سعد يكن يرسم منذ نصف قرن، هو خريج مركز الفنون التشكيلية في حلب عام /1964/ ولم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره... أيُّ اختيارٍ باكرٍ هذا، في محيطٍ كمحيطنا، في جيلٍ كجيلنا. أن يختار واحدنا الحياة رسّاماً قبل أن تعرض عليه بقيّة الاختيارات، قبل أن يعرف بقية الاختيارات! أيُّ اختيارٍ خاص، وصعب، وشاذ، ويكاد لا يصدق ... إلا أنه، كما يبدوا الآن وبعد كلِّ هذه السنين، كان اختيار سعد الوحيد، وكأنه حقاً لم يكن هناك احتمال وجود اختيارٍ آخر... لأن ما صار سعد يكن إليه الآن، في هذا المحيط، وبعد كلِّ هذا الزمن، هو لا شيء، لا شيء على الإطلاق سوى رسام، لا ينام ولا يستيقظ، لا يحب ولا يكره، لا يبيع ولا يشتري، لا يربح ولا يخسر، لا يصيب ولا يخطئ، لا يحارب ولا ينهزم، لا يحسد ولا يشفق عليه، إلا في كونه... رساماً.

2- أعرفه منذ خمسة وثلاثين عاماً وأكثر، كان أول لقاءٍ لي معه خلال معرضٍ مشتركٍ أقمته مع بسام جبيلي، عام 1969 العام قبل الأخير لدراستي في كلية العلوم الاقتصادية بجامعة حلب. جاء للمعرض بصحبة شابٍ حلبيٍ آخر، حلبيٍ كثيراً ولكن ليس أكثر من سعد، مأمون صقّال. ما أذكره هو تعليق مأمون على رسمي: (منك علمت أن هناك دائماً عالماً آخر!!)

3- والصحيح... أنه بتعرُّفي أنا على مأمون وسعد دخلت عالماً آخر، عالماً مختلفاً عن عالمي وعالم بسام في التفكير في الرسم، وفي التكلُّم عن الرسم، وفي الرسم في الرسم، عالماً جهماً وقاسياً!! عالماً محدداً وواقعياً!! كانا يرسمان بأقلام الرصاص الغامقة (B4 أو B6) وبالفحم. وكان سعد يرسم مناظر ليلية، حيث السواد يغطِّي كل الورقة. النُّجوم، الأبنية، الشُّخوص، الأشياء، تحدد بما يُترك من فراغات قليلة. بقعٌ أو خطوطٌ لم تطلس بالأسود.

4- ما أن اطلعت على رسوم مأمون وسعد حتى تأثرت مباشرةً بها. وكأن ذلك ما كنت أحتاجه، صارت خطوطي أشد حدّة، وما عادت تحيط الأشكال التي أرسمها بتلك اللّيونة والتردُّد، تركت أصابع الباستيل والشمع، وأقلام الرصاص الرمادية HB التي ما كنت أعلم بوجود سواها، ورحت أخطُّ وأظلِّل بأقلام رصاصٍ ذات القلوب الغليظة الفاحمة، وأرسم بالحبر الصِّيني أحياناً بتدرُّجاتٍ رمادية بعد خلطه بالماء وغالباً بدون تدرُّجات، كما تغيرت مواضيع رسومي، من شخوصٍ لهم صبغةٌ شاعريةٌ ورمزية، كتخطيطات جبران خليل جبران ووليم بليك، يعبرون عن حالاتٍ معنوية، شعرية، كالعزلة، والموت، والخوف، والمقاومة أيضاً!! إلى أناسٍ يجلسون في الحدائق، أو ينتظرون في مركز هاتف، أو يقرؤون كتاباً، أو يقفون لا يفعلون شيئاً. ولم تنفع وقتها تحذيرات بسام لي، أو محاولاته لإبقائي بجانبه: (نحن نرسم كبيكاسو ودالي!) كان يقول لي: (إياك أن تدعهما يؤثِّران عليك، نحن أفضل منهما، إنهما يرسمان الإنسان مرتدياً ثياباً عادية، هذا ما يجعله محدوداً في الزمان والمكان. نحن نرسمه عارياً كالحقيقة، خالداً).

5- إلا أن الإنسان فان، والحقيقة دائماً ترتدي شيئاً ما، قميصاً، أو قناعاً، أو قبعة. الحقيقة تذهب وتأتي، تظهر وتختفي، ترتدي واقعاً. من وقتها لم أرسم عراةً، سوى بعض النساء والأشجار.

6- ربّما على الرسام، بطريقةٍ ما، أن يكون باحثاً عن الحقيقة، إلا أنه ليس فيلسوفاً. الرسم فن يعتني، ويركز اهتمامه، بالأشكال، يخطِّط ويلوِّن سطوحاً. أمّا طبقاته التحتيّة، طبقةً تحت طبقة، وصولاً إلى قاعه، فعليك أنت كمشاهد، أن تكون غوّاصاً. أن تتعلم كيف تؤدّي بنفسك قوس الغطّاس؟

7- من بين الاثنين، كان يبدو أن مأمون هو الأرسم، الأشد تمكُّناً في الرّسم، كان يبدو وكأن سعد يمشي خلفه، كان مأمون من يتكلم وعلى سعد أن يصغي أو يزيد وأحياناً يختلف. لكن سعد كان الأكثر انشغالاً، الأكثر تورُّطاً، الأكثر انفعالاً في الرسم. آخذاً رسمه، منذ البداية، على أنه سمة شخصية، كاريكتر، وهكذا كان على سعد أن يبقى رسّاماً، رسّاماً أحادياً، رساماً مطلقاً، أمّا مأمون فقد صار إلى أشياء أخرى كثيرة.

8- كان مأمون يرسم بخطٍ قويٍ قاسٍ صحيحٍ...منظورياً وتشريحياً، كان سعد يرسم بخطٍّ قويٍ قاسٍ، غير خاضعٍ للمنظور أو التشريح، خاطئ...خاص.

9- كنّا نتبارز بالرسم بقلم الرصاص، كما يتبارز الفرسان بالسِّيوف، أن يكون للواحد منّا خطٌّ قوي، هو ما يجعله يحوز على اعتراف الآخرين وإعجابهم. أمّا اللون فيأتي لاحقاً... أخبرني مأمون بإعجاب لؤي بخطّي، وقال لي إنه سرهُ ذلك، وإن علي أن أزيد من اهتمامي بتحسينه وتقويته فلا زال برأيه يعاني رقةً ما. ربما لأنه كان يكرزُّ لي: (عندما يصير لديكَ خطٌّ قويٌ يصير لديكَ لونٌ قويٌ!). آمنت بهذا حتى جاء الوقت الذي شككت فيه بكلِّ شيء.

10- انتسب سعد في عام 1970 لكلية الفنون الجميلة، ويحلو له دائماً أن يذكِّر أنه حصل على الترتيب الأول في مسابقة القبول، لكنه لا يكمل ويقول إنه تركها بعد ذلك بعامين، لأنه وجدها لا تعلمه شيئاً! مع أني أرى في ذلك واحدةً من أهمِّ مآثره.

11- منذ بداية السبعينات، بعمر 21 و22 عاماً، أي لم يستغرق الأمر سوى أعوام قليلة من تخرجه من مركز الفنون التشكيلية بحلب، الذي كان يديره ويدرس به الراحل إسماعيل حسني مع فنانين معروفين، أحدهم الراحل طالب يازجي، المكان الذي أخذ منه سعد عدته الفنية الأولى، وتعرف به على رسامين كعبد الرحيم ططري، وحيد مغاربة، وبالأخص مأمون صقال، صار لسعد يكن اسمٌ، وصار له موقعٌ في واجهة الفن التشكيلي السوري. رغم أنه، أو ربما لأنه، ما أن تمكن من أدواته، حتى استدار، ليس إلى اليمين أو اليسار بل إلى داخله، أي لأن يكون مأساوياً وفاجعاً منذ البداية! أقام معرضين بالأسود والأبيض في عامي /1970و1971/الثاني بعنوان (الرفض) لا أناس لؤي كيالي، الحزانى والمهزومين والوحيدين، ولا شخوص مروان قصاب باشي ذوو الرؤوس الكبيرة والأطراف الرفيعة الواهية، ولا حتى مسوخ فرانسيس بيكون الذين لا حيلة لهم في خضعوهم لتيارات شعورية قوية تسحب وتلفُّ ملامحهم وتقاطيعهم غير الإنسانية، يعادلون واحداً بالمائة من الفجائعية التي يرسم بها سعد أبطاله. الأمر الذي اعتبره البعض تشويهاً زائداً عن الحدّ الذي يسمح أن يبقى فنّاً. ويسمح أن يبقى على أيِّ نحوٍ جمالاً، ولكن هل للفنّ حدّ! هل للجمال نحو!.

12- عرفته منذ البداية شخصاً خفيفاً، مزوحاً، ليس سعد من أولئك الذين يتباهون بكدرهم، وينشرون أينما حلّوا كآبتهم وسوء مزاجهم. في السهرات يعتني بالجميع وأنت تظنُّ أنه يعتني بك فقط، يسألك: هل تأكل؟ هل يعجبك الشّراب!؟ لا يبطل مداعباته، حتى أنه أحياناً يضحكني عندما يتكلم بجدية، لأني عند ذلك أكون في الدرجة الدنيا التي تسمح لي بتصديقه. ولكن خلف ذلك القناع، السطح، من الكياسة واللطف، من الاهتمام الزائد بتقسيم النهار إلى حصصٍ تتوزع بدقةٍ على الآخرين والأماكن والواجبات، والحرص على نظافة السيّارة والثياب والبيت، وطقوس أي شيء، إضافة للامبالاته بالأحكام العامة، لامبالاته بأي نوعٍ من العموميات، عدميته الفلسفية، لا أحد يستطيع أن يخمن ما يكمن في قاعه، ما تكاد لا تستطيع تمييزه، وإن فعلت فسوف تحسبه ميتاً، لولا أنك، بإطالة النظر، تلحظ كيف يحرِّك، من حينٍ لآخر، ذيله.


13- عناوين معارضه: أسود وأبيض، الرفض، الطوفان والنساء، جلجامش، الطرب في حلب! التحرر، متاهات الأسئلة، رجل يسكن على الجدار!

14- ماذا يحيا في داخل سعد!؟ ماذا يربض في قاعه، إنه يرينا إيّاه ولا نراه، أو إنّنا نراه ولا نصدقه. إذن على من تقع المسؤولية في حالٍ كهذه؟

15- في عام 1972 أقام مع وحيد مغاربة و.. لؤي كيالي معرضاً دعوه (ثلاثة فنانين من حلب) في دار الفن والأدب في بيروت. كان سعد هو أعجوبة الثلاثة! خطف الأضواء حتى من لؤي! أذكر أني قرأت وقتها ما كتبته النّاقدة اللبنانيّة لور غريّب، بأنّ لوحات سعد يكن غريبة جداً ولكن الأغرب منها سعد نفسه.

16- أحد موضوعات رسم سعد الأثيرة، المقاهي، الملاهي الليلية بالأخص. كراسٍ بقوائم نحيلة شاغرة أحياناً ومشغولة غالباً بأناس جالسين عليها، أو على حوافِّها، لا يقر لهم قرار، تخت شرقي من عازفين يذوبون حناناً وهم يحضنون أعوادهم ويضعون خدودهم السائلة على كمنجاتهم، ومغنون يتطايرون في الهواء الخانق لملاهي معتمة إلا من مصابيح شحيحة الضوء، وراقصات يتفجرن ويتشظين بألوانهن القزحية، الفوسفورية تقريباً، تماماً في مراكز اللوحات. يسقط عليهم جميعهم، على وجوههم وأكتافهم، حزم ضوءٍ اصطناعيٍ لا أحد يعلم من أين يأتي سعد بها، كأِشعة شمسٍ تخترق وتتسلل من بين غيوم الدُّخان الكثيفة، أو من شقوق غطاء صندوقٍ كبيرٍ يحتوي بداخله هؤلاء اللذين يتكشفون لنا في لوحاته. ملاهي سعد وروادها وموسيقيوها ومغنوها وراقصاتها وكراسيها وطاولاتها ومصابيحها، كانت وما زالت، وهذا حكمٌ يوافقني عليه الكثيرون، أهم ما قدمه سعد في تجربته التشكيلية عامة، وذلك لأنها واحدةٌ من التجارب الشديدة الخصوصية في التشكيل السُّوري والعربي.

17-أَيُّهُما أَشَدُّ أَسَى؟
( إلى سَعد يَكَن في لوحتِهِِ: المتَفَرِّجُ الوَحيد )

تُقارِبُ السَّاعَةُ الآن الثَّانيَةَ عَشَرَةَ ليلاً
وعَلَيَّ قَبلَ أَن أَنام
أَن أَنتَقي إحدى هاتَينِ الخاتِمَتين

لِقِصَّةٍ طَويلَةٍ مُضطَرِبَة
جَرَت أَحداثُها في رَأسي
طَوالَ النَّهار.
/
تُرى أَيُّهُما أَشَدُّ أَسَى
أَن تَكونَ الصَّالَةُ ذاتُ الخَمسينَ مَقعَداً
مُظلِمَةً ولَيسَ فيها أَحَد
أَم مُضاءَةً وصاخِبَةً بالموسيقَى
وفي وَسَطِها
مُشاهِدٌ وَحيد
يَنتَظِرُ الافتِتاح ..

1983/ من مجموعة ( دعوة خاصّة للجميع )

18- الجميع حفاة! الرِّجال بسحنات كئيبةٍ متطاولة يرتدون بزّاتٍ رسميةً بربطات عنق، والنِّساء بثياب سهرة مكشوفة الصدر. ولكنَّهم جميعهم حفاة!! وقد خطر لي كثيراً وأنا أفكِّر كيف لي أن أحلَّ هذا اللغز، بأنّه إذا كان قاطنو ملاهي لوحات سعد قد أرسلوا أحذيتهم لمسحها وتلميعها، فلماذا خلعوا أيضاً جواربهم!؟ أمن الممكن أنَّهم أرسلوها لغسلها أيضاً!؟ أم أنَّهم جميعهم محكومون بعادة انتعال الأحذية صيفاً وشتاءً بدون جوارب؟

19- أو ربما سعد يعتبر الأقدام كالأيدي مجرد وجوهٍ أخرى.

20- هناك شيءٌ من أيدي لؤي كيالي باقٍ في أيدي سعد. تلك الليونة في الرسغ، البساطة في الأصابع ، عدم الحاجة لتحديد الفقرات والمفاصل، بأظافر أو بدون أظافر، لا فرق.

21-أذكر مرّةً انتقدت رسم لؤي لليدين في إحدى لوحاته، ربما لوحة (الشقيقتان) أو (الحامل) فقال لي: (باكراً عليك أن تنتقد كيف تُرسم الأيدي يا منذر). أمّا حين سخرت على مسمعه ممّا ذكره أحدهم بأن كاتبةً زارت مرسم لؤي وبكت أمام رسومه، فقد حملق بي آنذاك طويلاً، وكأنَّه كان متردداً في أن يقول شيئاً أو لا يقوله، ثم قال: (عليك أن تقدر، أكثر، قيمة الدموع!)

22- لم يكتف سعد، بمقاهيه الشَّعبية وملاهيه، ولا بمناظره غير الطَّبيعية الكئيبة، ولا برسوم طبيعته الميِّتة ذات الأزهار الرمادية، بل تنطَّح، ككل تعبيري يصدق نفسه، للموضوعات والمضامين الكبرى، الجنس والموت والخلود. لذا راح يولي كبير اهتمامه للأساطير، واجداً في سلسلةٍ خاصةٍ من الشخوص تبدأ بأسطرة لؤي كيالي، بعد موته المأساوي محترقاً على سريره عام 1978، إلى جلجامش إلى المسيح، ورغبته برسم أيقونةٍ يكنيَّةٍ لدرجةٍ تكاد لا تحتمل. ومركِّباً الثلاثة فوق بعضهم تركيباً شبه طابقيٍ، بناءً ميثولوجياً انتقائياً يستطيع أن يدعيه له وحده فقط. ويسكنه وحده فقط، داعياً من حينٍ لآخر أصدقاءه الليليين.

23- بطله هو ذاته، انظروا إليه، لؤي كيالي، جلجامش، المسيح، أحمر صرفاً، أو أحمر وأزرق بقليل من الخضرة على عظمة الأنف وحول العينين. جميعهم بلحاهم المشتعلة في جهنم أحولهم.

24-15/10/1996: (كتبت في مذكراتي) سهرة عند سعد يكن حتَّى الساعة الثانية ليلاً. كان يرينا ما يزيد عن 25 عملاً عن جلجامش. جلجامشه المجعلك، ذي الساقين القصيرتين المقوستين الضَّعيفتين، الرَّكيك، الدرامي، المضطرب، الأحمر، ذي العلاقة المشبوهة بأنكيدو، صديقه أو حبيبه، يقفان متواجهين متلاصقين، وأحياناً متعانقين، وهناك لوحةٌ تصوِّر أنكيدو جالساً في حضن جلجامش كما تجلس كاعبٍ مدللةٍ في حضن أبيها أو عمها، وغيرها من أوضاع مريبة غير قابلة للتفسير.

25- يكرَّر سعد وجوهه، يكرَّر مفرداته. الفن يتكرَّر، الفن هو التَّكرار. لكنَّه يكرَّر يكرَّر لدرجة الهلوسة. أغلب لوحاته نتاج هلوسات، حالات نفسيَّة فصاميَّة ورهابيَّة!! الضِّياع والعبث وفقدان المعنى معناه الرَّئيسي.

26- في فنِّه، يعطي سعد معنىً لعالمٍ بلا معنى.

21- Pleased
to meet you
hope you guess my name!
But what is puzzling you
is the
nature of my game.
-------------------
The rolling stones
-------------------
سررتُ للقائك
أتمنّى أنّك حزرت اسمي
ولكن ما يشكلُ عليك
هو طبيعة لعبتي .
------------
فرقة الرّولينغ ستونز ( الصُّخور المتدحرجة )
------------

27- ما يشكل علينا (ما يخربطنا) هو طبيعة لعبة سعد. أي ليس سعد كشخص، كما كانت تظنُّ لور غريب، وليس حتَّى لعبته، ذلك التَّكرار، وإصراره على العودة، المرَّة تلو المرَّةٍ، لمواضيعه الأثيرة ذاتها. تلك الملامح الفنية التي جعلت لوحة سعد يكن معروفةً في معرضٍ وهميٍ يضمُّ ألف لوحة لمجايليه ليس عليها تواقيع، سواء كان هذا حسناً أم سيئاً، أم كان لا حسناً ولا سيئاً، كما قلت في تلك النَّدوة التي أقيمت أثناء عرضه الأول لمجموعة (التَّحرر) في حلب. ما يشكل علينا، أعود وأقول، ما يربكنا هو طبيعة لعبته، الطريقة الملتبسة التي يلعب بها. تماماً كالحاوي ... لأنَّه عندما نكشف الطريقة، الأسلوب، عندما نكشف كيف يلعب، حينها ربما، نفهم اللعبة ونفهم سعد ذاته.

28- ولكن كيف لنا أن نكشف طريقة اللعبة، وهل سعد من البساطة بحيث ينكشف هكذا، هل من السهولة معرفة طريقة ذلك العقل الذّهاني الهلوسي في العمل؟ كما أني قلت ربما، لأنَّه لا شيء يؤكِّدُ لنا، لا شيء يضمن أننا إذا كشفنا الطَّريقة نفهم اللعبة، لا شيء يضمن أننا إذا عرفنا الطريق نصل. فها أنذا أعترف لكم أنَّه رغم ادعائي كشف طريقة سعد يكن في الرَّسم، رغم توصيفي لهذه الطريقة هنا وهناك، رغم خشخشتي بمفاتيح تجربته، فأنا لا أستطيع رسم سوى ما يشبه مخططاً طبيعياً لمراحل هذه تجربته.

29- سوداويّ، ساخر، متهكم، يائس، عدمي، قلق، مخاتل، كاريكاتوري، مضطرب، موحش، كئيب، .. الرَّسم عند سعد يكن، كأنَّه أَذى، كأنَّه عذابٌ، كأنَّه صَلبٌ، ومن ثم، لا بدَّ وكأنَّه ... قيامةٌ وخلاص.

30- تريدون أعمالاً كبيرة!؟ هذه لوحاتٌ لم يرسم بحجمها أحدٌ منكم ، 2م – 1.4م لا بل 3م – 2 م !! تكفي أربع منها لتحتل أكبر صالة عرض فنِّيَّة في سوريَّة، لوحات لمشاهد بانوراميَّة لرجالٍ ونساءٍ ومن لا يُعرف لهم جنساً، زبائن المقاهي أنفسهم، المسوخ ذوي الوجوه الممطوطة والسَّواعد المتدليَّة حتَّى تكاد تلمس الأرض، المفتقدون الجذوع والرِّقاب، والنِّساء الممثلات لحالات الهوس الأنثوي المحبط، وأيدٍ معروقةٍ وأرجلٍ حافيةٍ دائماً، وكل هذا معلقٌ بملاقطَ ومتدلٍّ بتهدُّلٍ على حبال الغسيل، أو ساقطٌ ومتكوِّمٌ عند أسفل الجدران السَّوداء والبيضاء التي تشكِّل خلفيات المشهد، والحزمات الضَّوئية القاسية وكأنَّها تنبعث من مصابيح تحقيقٍ مسلطةٍ على اللَّوحات وهي تخصع للاستجواب، حيث تأتي خطوطٌ تعبر اللوحات بالطول وبالعرض، تساهم برسم حدود هاتيك الشُّخوص والأشياء وأحياناً تقوم باختراقهم وقصهم، وكأنَّها مكلفةٌ برسم تيَّاراتٍ وخطوط قوَّة، تقسِّم اللَّوحة إلى مربَّعاتٍ و شبه دوائرَ متجاورةٍ ومتداخلة. ينجح هذا، مباشرةً، في تقديم الإحساس الكامل، الشَّامل، الكلِّي، بتجربة سعد برمَّتها، بكلِّ ما اكتسبه من مهاراتٍ وخبراتٍ خلال العمل الطويل والشَّاق الَّذي قام به، والَّذي لا ينقطع حتَّى يعود وينعقد، لا يتوقف حتَّى يعود ويتابع، على مدار الأيام والشهور والسنين، بكلِّ رغبته الثَّابتة والمؤكَّدة، لأن يصل بعمله وبنفسه وبحياته، إلى ما بعد حدود النِّهايات. سعد من الفنانين الذين، مهما تنوعت تجاربهم، وأثَّرت بها أطوار حياتهم، ومهما تحكَّم بها مزاجه الصَّعب، يعملون على أن يجعلوا منها سلسلةً، ذات حلقاتٍ متَّصلةٍ مترابطة. نهاية كلِّ تجربةٍ بداية ما يليها. كلُّ نقطةٍ بدايةٌ جديدةٌ تنطلق من نقطة نهاية سابقة. وبهذا نستطيع القول أن سعد لا يبتدئ، ما عاد يبتدئ، ابتدأ مرَّةً وهذا يكفي. سعد يعمل، يتابع، يستمرّ. في كلِّ موضوعٍ جديد، مشهدٌ جديد، حلقةٌ جديدة، يستخدم سعد فيها، أدواته ذاتها، مفرداته ذاتها، وجوهه وأيديه وأقدامه ذاتها. ليس على نحوٍ إطلاقي بالتَّأكيد، لأنَّه، من حينٍ لآخر، تطلُّ أدواتٌ ومفرداتٌ وتوليفاتٌ جديدة، هذه الأدوات والمفردات التي اقتضى سعد عمراً وهو يتعلَّمها ويطوِّرها ويشذِّبها ويستنبط ما يلزمه منها. هنا مكمن ما لا يختلف عليه أحدٌ وما لا يتفق عليه أحدٌ بذات الوقت، عند محاولتنا لفهم هذا التَّكرار، هذا التَّراكم، في عمله. طبيعة هذه اللعبة المهلكة، التَّسلق إلى الأعلى حيث لا يوجد حدّ للفضاء، أو على الأصح، فعند سعد الأصح هو العكس، الحفر المستمر، بالرِّيشة والسِّكين، لتحت، للأسفل، دون أن يعرف لحفره قعراً.

31- لكن إشكاليَّة سعد لا تقتصر على هذا فقط، لو كان الأمر كذلك لهانت. ذلك أنَّه رغم تسلُّحه وإعداده العدَّة اللازمة، حيث تحتلُّ نصف مرسمه طاولتان كبيرتان مفروشتان بأنابيب الألوان من مختلف الأصناف والماركات ، فالألوان الزيتية غير الأكرليك، وأزرق (راوني) ليس كأزرق (لوفران بورجوا) وأصفر (فان كوخ) ليس كأصفر (رامبرانت) وكمٍّ متنوِّعٍ لحدِّ الغرابة من الأقلام والرِّيَش وسكاكين الرَّسم، رغم هذا، أقول، يواجه سعد في كلِّ لوحةٍ مشكلة، إنَّه يتعامل مع اللَّوحة وكأنَّها تقف أمامه عارX








تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

في عدم الحاجةِ للموت

20-تموز-2019

السيرة الضاحكة للخوف!

30-أيلول-2017

: هل كلّ السوريين في الخارج خائنون وفي الداخل موالون

03-أيلول-2016

وقت بين الرماد وحديقة قصر الماء في (سيت)

10-تشرين الثاني-2010

منذر يرد.. الشعر العربي الآن لا شيء يموج على صفحته، ولا شيء يغضّن جبينه.

18-كانون الثاني-2010

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow