Alef Logo
دراسات
              

آثار المشرق العربي والقانون الدولي نموذج آثار العراق - فلسطين - الجولان

بشار خليف

2008-11-16



/ مقاربة فكرية - حقوقية /
(( انه لمن الواضح الآن ، أن كلاً من سوريا وشمال بلاد الرافدين وفلسطين ، غالباً ماكانت مأهولة من قبل شعوب تتكلم اللغة نفسها وذلك – على الأرجح – منذ نهاية الألف الرابع قبل الميلاد )) .

أرشيف ابلا . الحوليات الأثرية السورية . مجلد 47 – 48 . ص 40



عام 1798 , وصلتْ إلى باريس قافلة مركبات تتألف من 250 عربة مزينة بالأكاليل و اليافطات , و مليئة بالمنحوتات الرائعة و الثمينة و لوحات عصر النهضة و مخطوطات و آلات علمية , قال يومها نابليون " هذا كل ما هو جميل في إيطاليا " و أُطلق على موكب المسروقات ( عيد الحرية ) .
برفقة هذا الموكب كان ثمة جوقة عسكرية تصدح " روما لم تعد في روما .. إنها الآن في باريس " (1) كانت هذه الغنائم نتيجة الحرب التي شنّها نابليون على إيطاليا .
المقاربة بين الحرب و التراث ليست مستحيلة و قد شهد التاريخ الكثير من الفصول المشابهة هنا في المشرق العربي القديم أو في تاريخ الإمبراطورية الرومانية و غيرها .
و لكن ما يستوقفنا هو أننا في عصر يتسم بدور يُفترض أنه مهم للشرعية الدولية و مؤسساتها ذات الصلة , و مع هذا فإن ما حصل لجهة تدمير و سرقة آثار العراق و آثار الجولان المحتل و فلسطين ، تجعلنا ننظر إلى دور تلك المؤسسات بعين الشك , لاسيما أننا نذكر وقوفها الحازم ضد تدمير تماثيل بوذا في أفغانستان عام 2001 .
فإن كنا مع بداية الألف الثالثة قبل الميلاد مع نشوء الكتابة في المشرق العربي لأول مرة في تاريخ البشرية , و مع نشوء المدن بما سمي الثورة المدينية , فإننا مع بداية الألف الثالثة الميلادية شهدنا نظرة إلى هذا التراث الإنساني مشوبة إما بالجهل أو بالخفة وربما الكراهية ، خصوصاً أننا لمسنا الرعاية الحنونة لمباني وزارة النفط و توابعها في العراق في مقابل ترك المتاحف و المواقع التاريخية دون أي حماية من الجيش المُحتل الذي تنكّب هو مسؤولية الأمن !! هكذا يصير النفط أثمن من التراث الإنساني وفق ذهنية الإدارة المحتلة و تُسرق الدلائل الحضارية الأولى في نشوء الحضارة الإنسانية و تُستلب عبر فلسفة الأقوى الذي لا يعنيه التراث الإنساني كما تبدّى .
و بالإضافة إلى المجزرة التي ارتُكبت بحق الآثار العراقية عبر تدمير و سرقة حوالي 170 ألف قطعة و مخطوطة و نقش و منحوتة و قطع فنية (2) , فإن المواقع الأثرية الريادية حضارياً ، لا تسلم بدورها من التدمير .
جان كرتس المسئول عن دائرة الشرق الأوسط القديم في المتحف البريطاني ذكرَ :
أن المركبات العسكرية الأميركية و البولندية سحقت أرصفة عمرها 2600 سنة في مدينة بابل التي تعد مهداً للحضارة ويشير إلى حفر الجنود الخنادق في الموقع و استخدامهم شظايا أثرية لملء أكياس الرمل . كما تم انتزاع أحجار من تسعة من الرؤوس التي تُمثل تنيناً محفوراً على بوابة عشتار , بينما انهار جزء من سقف المعبد (3) .
أيضاً استخدمت بابل كمطار لحوامات قوات التحالف و انتهكت حرمتها بالمجنزرات الضخمة .
و بعد , كيف يمكننا النظر بعين حضارية إلى ما حصل لآثار العراق و مواقعه ؟ هل وفق معايير الحضارة الإنسانية أم وفق ما سمي فلسفة النظام الأميركي الجديد ؟ .
و هنا ينبغي التمييز بين مواقف بعض السادة العلماء الأميركيين و مواقف إدارتهم السياسية و العسكرية , فقد شاهدنا خوف ماغواير غيبسون على مدينة نيبور ما دفعه إلى التحليق فوقها أثناء الحرب و بعدها .
لكن ما يدفع للاستغراب بعد كل ما حصل هو مبلغ الخفة في التعامل مع ما حدث من قبل الإدارة الأميركية :
فنائب وزير الدفاع الأميركي وصف عمليات السلب و النهب بأنها تعبير عن الحرية ؟!.
أما وزيره رامسفليد فقد صرح متهكماً : " إن الصور التي ترونها على التلفزيون , ترونها مرة بعد مرة , بعد مرة هي اللقطة نفسها لشخص ما يخرج من مبنى حاملاً مزهرية , ترونها عشرين مرة و تفكرون .. يا سلام أكانت هناك مزهريات بهذه الكثرة ؟ ثم يصل إلى أن الأحرار , أحرار في ارتكاب أخطاء و اقتراف جرائم و فعل أمور سيئة ! "(5) .
أما الرئيس الأميركي فقد قال أنه راض عن مستوى هذا الشغب لأن فيه تفريج عن النفس ؟! (5) .
إن كل هذا يزيد من شكنا في أن الولايات المتحدة الأميركية هذه الدولة المحدثة منذ عام 1787 م لم تستطع بعد استيعاب أهمية التراث الحضاري للشعوب الموغلة في القدم ، و على أقل تقدير لدى إدارتها السياسية والعسكرية ، رغم امتلائها بمراكز البحوث و الدراسات و المخابر , و هنا تكمن المفارقة .
أنتقل الآن إلى آثار فلسطين – أرض كنعان التي دُمرت و استبيحت عن بكرة أبيها من قبل دولة مُحدثة جديدة عام 1948 , لكننا هنا أمام نمط مختلف حيث نجد أن الدولة العبرية حاولت أن تستمد شرعية نشوئها مستندة على كتاب التوراة حيث أن فلسطين أرض الميعاد لليهود .
حسناً ماذا يربط بين متهودي الخزر الذين هاجروا من أوروبا وسواها واحتلوا فلسطين بيهود الشرق القديم ؟(6) .
ثم أن ما جرى من تنقيبات إسرائيلية أثرية في فلسطين لم يعطِ دليلاً واحداً على تواجد حقيقي فاعل للعبرانيين في فلسطين ، بل بقوا على هامش الحضارة الكنعانية، و جرى في التوراة تضخيم الأحداث و المبالغة فيها .
و هنا يمكننا استعراض آراء بعض علماء الآثار الإسرائيليين فيما توصلوا إليه نتيجة تنقيباتهم في أرض فلسطين لنرى كيف يمكن للحقيقة التاريخية أن تفرض نفسها بمعزل عما جاء في الكتب الدينية :
يسرائيل فنكلستاين : رئيس المعهد الأركيولوجي في جامعة تل أبيب يقول:
" إن التاريخ التوراتي منذ عهد ليس ببعيد كان يملي مسار البحث و التنقيب الذي استخدم ليُثبت الرواية التقليدية ، و نتيجة لذلك اتخذ علم الآثار المقعد الخلفي كتخصص علمي .
أعتقد أن الوقت حان لكي نضع علم الآثار في المقدمة " .ويقول أيضاً :
لقد بينت الحفائر أن إسرائيل القديمة قد نشأت من السكان المحليين للعصر الكنعاني البرونزي، و لم يظهر التنقيب أي أثر مادي يؤكد رواية التوراة عن الخروج .. لقد فقد كتاب التوراة أهميته كمصدر تاريخي ، فهذا الكتاب هو وثيقة متأخرة جداً كُتبت فصولها الأولى في القرن السابع وفق أبكر التقديرات و من خلال منظور لاهوتي و إيديولوجي و سياسي .(7)
البروفسور زئيف هيرتسوغ يقول :
ما يحصل لنا في إسرائيل هو أننا لا نريد علم الآثار علماً مستقلاً , نريد للآثار أن تثبت الرواية التاريخية التوراتية ، و هذا معاكس ليس للعلم فقط بل للحقيقة التاريخية أيضاً . و إذا أردنا أن يكون لنا مكان محترم في الأكاديمية الدولية فعلينا أن نلتزم بأحكام العلم لا بأحكام السياسة و الإيدولوجيا .(8)
الباحث مازار يقول : ليس ثمة بنى معمارية و عمرانية ضخمة أو منشآت هامة يمكن أن نصفها بكامل الثقة ، بالداوودية ، إن البقايا المادية في أرض " إسرائيل " فقيرة و متواضعة إلى حد كبير , خصوصاً إذا ما جرى مقارنتها بما أنتجته الحضارات الكنعانية و البابلية و الآرامية و المصرية .(9)
بعد كل هذا يمكن لنا أن نسأل : لماذا عمدت إسرائيل إلى تدمير المواقع الأثرية الفلسطينية ؟ و لماذا تسعى الآن إلى إجراء حفريات تحت ساحة المسجد الأقصى مدعية وجود هيكل سليمان علماً أن مدينة القدس أثرياً وتاريخياً , لا وجود لها قبل القرن السابع الميلادي في حين أن سليمان يؤرخ ما قبل ذلك بأربعة قرون .
إن هذا يتطابق مع قول الدكتورة هيلغا زيدن أن الإسرائيليين يعمدون إلى تدمير الآثار الإسلامية و جرفها .(10)
ثم من طرائف التاريخ أن تلجأ إسرائيل إلى تقديم أسماء 25 موقعاً أثرياً فلسطينياً إلى اليونسكو لتسجيلها كمواقع أثرية إسرائيلية ضمن التراث الإنساني الواجب حمايته ؟!.
هذا نموذج ثان لدولة مُحدثة تبحث عن مشروعيتها التاريخية في أرض الحضارة الكنعانية .
وأنتقل الآن إلى آثار الجولان السوري المحتل ، فمنذ احتلال إسرائيل له عام 1967 أعملت في أرض الجولان بحثاً و تنقيباً حتى كانت النتائج مشابهة لما حصل في فلسطين و كانت النتيجة تدمير و تجريف أكثر من 200 موقع أثري سوري .
كما أنها استفادت سياحياً من بعض المواقع المهمة مثل موقع رجم الهري و موقع كنيسة الكرسي وغيرهما .
كذلك لجأت السلطات الإسرائيلية إلى الجوَلان بآثار الجولان في معارض عالمية على أنها آثار إسرائيلية كالمعرض الذي أقيم قبل سنوات في جامعة نبراسكا في الولايات المتحدة الأميركية .(11)
ثم وقبل فترة وجيزة جداً ، نشهد مسرحية جديدة جرت في كندا في اجتماع لجنة التراث العالمي ، حيث طالبت إسرائيل بتسجيل موقع تل القاضي في الجولان السوري المحتل ، باعتباره موقعاً إسرائيلياً ينبغي إدراجه ضمن المواقع العالمية ذات القيمة الاستثنائية !! وهذا التل يعود الى العصر البرونزي حيث حوى أوابد مدينة دان الأمورية الكنعانية .
منطقة تل القاضي... خضعت بداية الى حكم الانتداب البريطاني على فلسطين، واثناء ترسيم حدود اتفاقية سايكس بيكو تم اقتطاع الجزء الجنوبي من التل ليبقى تحت سيطرة قوات الانتداب البريطاني ، فيما اصرت فرنسا على التمسك في باقي الأجزاء من التل وبضمنها نبع نهر اللدان، في التعديلات التي جرت على المعاهدة في العام 1923 والعام 1929 وبعد حرب عام 1948 وتوقيع اتقافيات الهدنه بقيت المنطقة بأكملها منزوعة السلاح ، إلا أن إسرائيل احتفظت بكيبوتس دان الذي أسسته الحركة الصهيونية في العام 1939. فيما بقيت مرتفعات تل القاضي مع سوريا .
والمضحك في الأمر أن يطالب المندوب الإسرائيلي بتأجيل البت بالأمر حتى الاجتماع المقبل للجنة ، نتيجة ردود الأفعال المناوئة والرافضة لطرحه ، مما دفعه إلى القول
( لقد صبرنا 1800 عاماً..فليكن عاماً آخر من الانتظار ) !!.
إن مجمل هذه النماذج تقدم لنا دليلاً على انعدام فاعلية المؤسسات الدولية في صون التراث الإنساني من جحافل العسكر و الاحتلالات رغم ما جاء في دستور منظمة الأونسكو حيث نقرأ :
" بما أن الحروب تبدأ من عقول البشر فإن عقولهم يجب أن تبني مبادئ الدفاع عن السلام "
إن الكلام جميل .. لكن الفعل أصعب جمالاً ..
و لعلنا أمام فقرات القانون الدولي في حماية الممتلكات الثقافية و احترامها في زمن الحروب يجعلنا نطالب اليونسكو بتفعيل دورها في حماية الآثار و التراث الحضاري المشرقي العربي في أي مكان في العراق أو فلسطين أو الجولان السوري المحتل ..
فقد جاء في المادة الرابعة من اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح عام 1954 :
1- تتفق الأطراف السامية المتعاقدة باحترام الممتلكات الثقافية الكائنة سواء في أراضيها أو أراضي الأطراف السامية المتعاقدة الأخرى و ذلك بامتناعها عن استعمال هذه الممتلكات أو الوسائل المخصصة لحمايتها أو الأماكن المجاورة لها مباشرة لأغراض قد تعرضها للتدمير أو التلف في حالة النزاع المسلح و بامتناعها عن أي عمل عدائي إزاءها .
2- تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بتحريم أي سرقة أو نهب أو تبديد للممتلكات الثقافية و وقايتها من هذه الأعمال و وقفها عند اللزوم مهما كانت أساليبها .
و بالمثل تحريم أي عمل تخريبي موجه ضد هذه الممتلكات .(12)

إن نهب آثار العراق و الاعتداء على حرمة مواقعه الأثرية يعتبر مسؤولية أميركية ، كونها دولة محتلة تتحمل تبعات أي خروقات تمس آثار العراق و مواقعه التاريخية و الأثرية .
كما أن آثار فلسطين و الجولان المحتل و التي ساهمت الدولة العبرية في تدمير آثارهما و السعي إلى المزيد من التدمير و التخريب يجعلنا نطالب المنظمات الدولية ذات الصلة بإجراء التحقيقات اللازمة لتحميل المسؤولية القانونية لمن خرق الاتفاقات و القوانين الدولية و ضرب بها عرض الحائط .
يقول فرانسوا بونيون :
" إن حماية الممتلكات الثقافية ليس المقصود منها هو حماية الآثار أو الأشياء المراد حمايتها فقط و إنما ذاكرة الشعوب و ضميرها الجماعي و هويتها .. فنقص النظر و تصور باريس دون كنيسة نوتردام و أثينا دون بارتينون و مصر دون الأهرامات و القدس دون قبة الصخرة و المسجد الأقصى و الهند دون تاج محل أليس هذا بمثابة انتزاع جزء من هوية كل واحد منا ؟ ."
وبعد ، إن جزءاً مهماً من التراث المشترك للإنسانية قد جرى نهبه وتدميره في هذه المنطقة الريادية حضارياً ، وهذا التراث أمانة في عنق البشرية التي عليها أن تعي أهمية التراث و مدلولاته في صياغة النظرة الإنسانية للمستقبل بعيداً عن فلسفة العالم الجديد بنظامه الغريب المُحدث بطفرة مادية ، أو دول مستحدثة بقوة العسكر و كتاب ديني، لا يمت للتاريخ بصلة لاسيما في أسفاره الخمسة الأولى .









المراجع و المصادر:

1- كيرستن شايد-الإمبريالية في آخر تجلياتها الثقافية – مجلة الآداب اللبنانية 5-6-2003
2- نبيهة الأمين- قناة الجزيرة- ما وراء الأحداث 12-1-2003
3- حسن غريب – تدمير تراث العراق و تصفية علمائه – شبكة البصرة الإلكترونية .
4- كيرستن شايد – مرجع سابق .
5- خالد الناشف – آثار بدايات الاجتماع الإنساني – صحيفة الحياة 24-11- 2003 .
6-للاستزادة د. بشار خليف – العبرانيون في تاريخ المشرق العربي القديم – دار الرائي 2004- دمشق .
7-8-9- المرجع السابق .
10- انظر كتابنا – حوارات في الحضارة السورية – دار الرائي 2008 دمشق . حوار مع الدكتورة هيلغا زيدن .
11- انظر محاضرتنا في الندوة الدولية لآثار الجولان – نيسان 2007 .
12- د. هشام حمدان – مسألة الحماية الدولية للآثار – مجلة الفكر العربي – العدد 52- بيروت .
13- فرانسوا بونيون – نشأة الحماية القانونية للممتلكات الثقافية في حالة النزاع المسلح – الإنترنت .


* نص محاضرة ألقيت في الندوة الدولية لتاريخ وآثار الجولان . دمشق 10 – 13 تشرين الثاني 2008




تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

أنا فكرة ٌ ... لا أُحبّذها

08-أيار-2021

اختلاق موسى التوراتي ومعجزاته من زاوية الحقائق العلمية

18-نيسان-2020

نايا

27-نيسان-2019

نصوص لها

02-شباط-2019

مصطلح السامية بين حقائق العلم وخرافة سفر التكوين

26-كانون الثاني-2019

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow