Alef Logo
يوميات
              

مختارات من ديوان الفساد العربي

عمار سليمان علي

2008-11-21


دعونا نتخيل لو كان الفساد شاعراً! كيف سيكون شعره؟ هل سيكون يا ترى منظوماً على أوزان الخليل بن أحمد الكلاسيكية أم شعر تفعيلة أم شعراً حراً أم منثوراً؟ ثم ما هي المواضيع والأبواب التي سيطرقها بشعره؟! هل يمكن مثلاً أن يفتخر بنفسه على عادة الشعراء الفحول, فينفش ريشه مثلاً بأسلوب عمرو بن كلثوم:
ألا لا يفسدنْ أحد علينا فنفسد فوق كل الفاسدينا
مع إمكانية قراءتها يَفسُدنْ أو يُفسِدنْ, وتحميل هذه الأخيرة معنى "الوشاية" الشائع بين الناس!.
أم تراه ـ ذلك الفساد الشاعر! ـ على النقيض مما سبق, يهجو نفسه هجاء مراً مقذعاً كما فعل الحطيئة:
أبت شـفتاي اليـوم إلا تكلماً بسوء فما أدري لمن أنا قائله
أرى ليَ وجهاً أفسد اللـه خلقه فقبّـح من وجه وقبّح حامله
مع تفضيل أن تضم الخاء في خُلقه.
أم تراه يرفع يديه إلى السماء ويدعو على نفسه وعلى طائفته بالهلاك, على طريقة أبي بكر العيدروس (شاعر يمني 1447 ـ 1509م):
باللـه يا رب السماوات العلا يا رافع الدرجات يا متعالِها
عجّل لطائفة الفسـاد هلاكها فلقد تزايد ظلمها وضـلالها
أم تراه يبّرئ نفسه ويرمي اللوم على سواه, كما فعل ابراهيم الأحدب (طرابلس لبنان 1824 ـ 1891م):
حذرتهم عقبى الفساد فما ارعووا فكأنمـا تحـذيرهم إغـراء
أم تراه يتفلسف وينظر للفساد على طريقة فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة أبي العلاء المعري الذي عزى شيوع الفساد, بمنتهى البساطة, إلى كثرة الناس:
إِذا كَثـُرَ الناسُ شاعَ الفَسا دُ كَما فَسَدَ القولُ لَمّا كَثـُرْ
كما ادعى جازماً أن أجدادنا الأوائل مطبوعون على الفساد:
وَنَحنُ في عالم ٍ صيغَت أَوائِله عَلى الفَسادِ فَغَيٌّ قولنا فَسَدوا
ولذلك ـ على رأي أبي العلاء ـ فمن الضلال السعي إلى تهذيب الناس ومحاولة تخليصهم من الفساد:
وجبلّة الناسِ الفساد فَضَلّ من يسمو بحكمته إِلى تهذيبِها
وعلى هذا المنوال يمضي ابن بسام البغدادي (230 ـ 302هـ):
أيرجى بالجراد صلاح أمر وقد جُبل الجراد على الفسادِ
هذا ولا بد للفساد وللفاسدين من كبير أو شيخ أو قائد أو قادة, على حد تعبير المفتي فتح اللـه (بيروت ؟ ـ 580 م):
كبيرهم ذلك الكلب العقور غدا شيخ الفساد إلى أهل الفساد صغى
أحيا الفساد ببيروت وأفسـدها بعد الصلاح وفيها قد طغى وبغى
وبعد حوالي ألف وأربعمائة سنة يصرخ شاعر لبناني آخر هو حسن قشاقش (1881 ـ 1948):
رمنا صلاحاً فأبت قادتنا إلا سلوك منهج الفساد
على أن لابن قيم الجوزية (من أركان الإصلاح الإسلامي) رأياً مختلفاً في أصل الفساد, فهو يعزوه إلى فساد الكتب والعلوم, وأظنه لو عاش إلى أيامنا هذه لأضاف إليها فساد وسائل الإعلام بكل أطيافها:
فسدت تصانيف الوجود بأسرها وغدت علوم الناس ذات هوان
وغدا التخاطب فاسداً وفسـاده أصل الفساد لنوع ذا الإنسان
ويعتنق نفس النظرية تقريباً ـ مع فارق الزمن والتعبير ـ أمير الشعراء أحمد شوقي بشكواه من فساد المدارس:
ومدارس لا تنهض الأخلاق دارسـة الرسوم
يمشي الفساد بنبتها مشي الشرارة بالهشيم
ويرى أحمد بن حسين الكيواني (دمشق 1699 ـ 1760) أن سيادة اللئام بالذات هي سبب انتشار الفساد:
ولا يعمُّ الدولة الفسادُ إِلا إذا اللئام فيها سادوا
وثمة نظرية طريفة اعتنقها علي محمود طه ( مصر 1903 ـ 1949):
لعلَّ نوحاً أخطأ المقصدا فأغرقَ الخيرَ ونجَّى الفسادْ
وعلى كل حال لا يخلو الأمر من وجود متفائلين بإمكانية الإصلاح كأبي العتاهية:
إن الفساد بعده الصلاح يا ربّ جدٍّ جرّه المزاح
ونظيره في العصر الحديث ناصيف اليازجي ( لبنان 1800 ـ 1871):
وكما لا يَدُومُ حالُ صلاح ٍ عِندَهُ لا يدومُ حالُ فَسادِ
ويضاهيه في التفاؤل حسن حسني الطويراني ( مصر 1850 ـ 1897):
وبكى الفسادُ وأَهله والكون أَسفر وانصلح
ويبدو أن الأمر ليس تفاؤلاً بدون سبب, فهناك على ما يبدو من اكتشف أفضل طريقة للإصلاح وهو هبة اللـه بن المنجم (؟ ـ 377 هـ):
الراح في إبريقها أحسن روح في جسدْ
فهاتها نصلح بها من الزمان ما فسدْ
وبعده بقرون اكتشف شاعر العراق جميل صدقي الزهاوي (1863 ـ 1936) أن الحل يكمن في الفن, ولا ندري ما إذا كان من ضمن الفن الذي يقصده مسلسلات التلفزيون وأفلام السينما والفيديو كليبات وما لف لفها:
الفن يصلح كل من هو فاسد حتى الذي ظن الفساد سدادا
أما نظيره اللدود معروف الرصافي ( العراق 1877 ـ 1945) فأساس الإصلاح عنده هو المال:
ولم يصلح فساد الناس إلا بمال من مكاسبهم مشاع
تشاد به الملاجىء لليتامى وتمتار المطاعم للجياع
وتبنى للعلوم به مبان ٍ تفيض العلم مؤتلق الشعاع
في المقابل ثمة من يستسلم لليأس ويستبعد إمكانية إصلاح الجيل والدهر الفاسدين, وذلك شأن الأخرس (العراق 1810 ـ 1873):
وأصبحتُ في جيل الفساد ولم يكن ليصلح هذا الجيل والدهر فاسد
ومنهم من لم يتورع عن اعتبار الوطن الذي جرى الفساد في عروقه قد دفن في الحياة, وهو ولي الدين يكن ( مصر 1873 ـ 1921):
يا وطناً قد جرى الفساد به متى يرينا إصلاحك الزمن
دفنت حياً وما دنا أجل ما ضرّ لو دافنوك قد دُفنوا
أما أديب اسحق (دمشق 1857 ـ 1885) فيمزج الجد بالهزل ساخراً من طاهي الفساد الذي لا بد أن يتذوقه يوماً:
ولقد غدا طاهي الفساد وإنه من طبخه لا شكّ يوماً يطعم
وكان قد سبقه إلى السخرية أبو الفتح البستي (؟ ـ 400هـ) الذي تلاعب بالألفاظ هازئاً بمن يظن الفساد سبيلاً إلى السؤدد, أو إلى السيادة بلغة عصرنا الراهن:
قل للذي ركبَ الفَسادَ وعندَهُ أنِّي أَسُـودُ إذا ركِبْتُ فسـادا
أضللتَ رأيك عامداً أو ساهياً من ذا الذي ركب الفساد فسادا
ويستغرب خلفان بن مصبح الشويهي (الإمارات 1923 ـ 1946) اعتماد (ملوكنا) على الأغراب أو الأعداء لإصلاح الفساد, فكأنه يعيش بين ظهرانينا في هذه الأيام:
وملوكنـا قد فخّمت أسـماؤهم لكن جمادْ
يرجون من أعدائهم أن يصلحوا لهم الفسادْ
وكيف للأغراب أن يصلحوا ما دام الفساد قد عم الأرض كلها, كما يرى أديب التقي (دمشق 1895 ـ 1945):
عمّ الفساد جميع الأرض وانتشرت فيها الشرور فأين العقل والعُقلا؟!
ناهيك عن أن الفساد قد تخلى عن سريته وكتمانه وأصبح معلناً بلا خجل ولا حياء, وفقاً لمحمود قابادو ( تونس 1815 ـ 1854):
وزماننا هذا كما تدرونه ظهر الفساد به بلا كتمان
ولكن على مبدأ "لكل داء دواء.." يفتش علي صافي الغراوي ( العراق 1904 ـ 1943) عن أطباء يعالجون جراثيم الفساد المزمن:
من لي لأمزجة النفوس أطبّة عرفوا الدواء لكل داء معضل
جسّوا جراثيم الفساد فعالجوا من كان يزمن بالطريق الأسهل
وإذا تعذرت المعالجات الدوائية فلا بأس باللجوء إلى الجراحة الاستئصالية على رأي ناصح الدين الأرجاني ( 460 ـ 544 هـ):
وإذا فساد العضو أصبح زائداً لم يشف منه غير كف القاطع
والأمر كما يرى محمد الهلالي ( 1820 ـ 1894) يستلزم حساماً قاطعاً تحمله راحة الحق:
حسامٌ راحة الحق انتضته لقطع عرى فراعنة الفساد
ولكن أين هم أولئك الأطباء القادرون على الفساد؟ أتراهم صالحون مصلحون حقاً أم هم كما قال عنهم عبد الكريم البسطي ( الأندلس ؟ ـ 1491م):
تراهمُ اعتمدوا إصلاح فاسده بل الفساد بما قد أصلحوا اعتمدوا
أم تراهم كلما أصلحوا زادوا الطين بلة والمريض علة, كما يرى ـ من جديد ـ ناصح الدين الأرجاني (460 ـ 544 هـ):
وإذا أتى زمن الفساد ترى من حيث تصلح يكبر الخطب
أم إنهم يخلطون حابل الصلاح بنابل الفساد ليزوقوه في العيون على رأي عبد العزيز العلجي ( السعودية 1868 ـ 1943):
هم حسَّنوا لَكم الفسادَ فقلتمُ هذا الصلاحُ المستجدُّ الدّاني
وإلى شيء من هذا المعنى ـ على ما يبدو ـ أشار عرقلة الكلبي ( 486 ـ 567 هـ):
لصوصَ الشامِ توبوا من ذنوب تكفّرها العقوبة والصّفاد
لئن كان الفساد لكم صلاحا فمولانا الصلاح لَكم فساد

و تطل علينا في الختام حزورة ملغزة معقدة طرحها شاعر أندلسي من شعراء القرن السادس الهجري اسمه الأعمى الشريف:
تأملتُ تسعة رهط الفساد فألفيتُ عاشرهم عاشرا
فإذا كان ذلك الأعمى الشريف قد رأى ـ ببصيرته ـ عشرة من رهط الفساد في ذلك الزمان, فكم كان عددهم الكامل إذن؟! ولماذا لم ير ابن القصار الفارقي أكثر من تسعة, وعجز عن رؤية العاشر رغم أن "الأعمى" رآه, فقال كما جاء في فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي:
تسعة رهط في جلق جمعوا ليس لهم بالفساد من عاشر
ربما كان الأمر أن ذلك العاشر كان موجوداً في الأندلس, ولم يكن موجوداً في جلق. هذا احتمال وارد, وربما دل على أن فساد جلق كان أقل من فساد الأندلس بمقدار العشر!. ولكن السؤال الجوهري الذي يطل برأسه: كم يبلغ عدد رهط الفساد اليوم؟! وهل ثمة أعمى شريف في زماننا هذا يستطيع إحصاءهم وتعداد أسمائهم, ويخبرنا ـ أو قل يجرؤ أن يخبرنا ـ بالجواب, دون أن تمتد إليه يد... الفساد, ناهيك عن لسانه وألسنة شعرائه؟!.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

غزت روحي

27-تشرين الثاني-2011

سمراء من حلب

09-تشرين الأول-2011

على شفتيكِ

24-أيلول-2011

هي والشعر

19-آب-2011

لكل حبٍّ أجل

03-آب-2011

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow