Alef Logo
ابداعات
              

حلم ...في المحطة

بشار عقيل

2008-11-26


عبثاً .. جميع محاولاته في استحضار روح النعاس لن تجدي فهو يعرف سبب ذلك الأرق السمج المتطفل عليه منذ ساعتين وأكثر ..
نهض من سريره لا حول ولا قوة وسار حوالي خطوة كاملة إلى الباب حيث الحقيبة .. حملها إلى السرير مجدداً .. وأخذ يتفقد محتوياتها ليتأكد لمرة ثالثة أن كل ما قد يلزمه غداً متوفر بداخلها .. وأن بإمكانه بثقة تامة أن يقسم على ذلك ..
" بالتأكيد سيكون يوم غد حافلاً بالإثارة " (محدثاً نفسه) وهو يتجه إلى معطفه المعلق على مسمار يناهز الأربعين عاماً في الحائط .
سحب المنديل من جيبه الداخلي .. فتحه باحترام وأخرج منه بضع أوراق نقدية وراح يتأمل بيده الأخرى تلك التذكرة السحرية ..
جلس معها إلى جانب حقيبته مسترجعاً بكل فخر تلك الكلمة التي فجرّها بثقة وحنكة على الهاتف : " إيطـاليـــا " وكيف سمع الرد من الطرف البعيد : " إجابة صحيحة مبروك !.. حصلت على جائزة المسابقة .. رحلة في القطار لمدة يوم كامل .. تهانينا للفائز .

حين انتهى شريط التذكر هذا كان حاجبه الأيمن مرفوعاً إلى الأعلى وفتحتا أنفه منتفختان وفمه مفتوح بابتسامة تطل على خمسة أسنان أثرية موزعة بمعجزة على طابقين .. مع نظرة تنم عن دهشة الإنسان الأول عقب تشكّل الكون .
عاد للنوم ؛ فبعد ساعات قليلة سيحتاج إلى جسد جاهز لمتاعب الرحلة .. رتب الغرفة إلى ما كانت عليه واندس في الفراش وهو يهمس : يعني .. والله .... تمام .. المسألة .. .. وراح في سبات أسرع من تتمة العبارة .
في أول ساعة ممكنة من الصباح كان عبد الباسط يقف على رصيف المحطة مع أحد المسافرين الذي صاح فجأة وهو ينظر إلى مكان خال من البشر : حسناً .. أنا قادم .. والتفت إلى عبد الباسط مبتعداً عنه بحماس : عن إذنك هناك من ينتظرني ..
- مو مشكلة يا صديقي سنتابع حديثنا في القطار على أية حال .

اتجه إلى فتحة في شباك إحدى الغرف وأشهر التذكرة في وجه "الموظف خلف الزجاج" منتظراً من وجهه هول المفاجأة .
نظر إليه الأخير بحدقتين نائمتين أشار بهما إلى جهة اليمين وعاد إلى النوم مع سيجارته ..
عاجل عبد الباسط "الموظف على اليمين" ونال منه توقيعاً قبل أن يتوجه إلى مدير المحطة ..
أصاب "المدير وراء المكتب" التذكرة بختم مدبب بكل دقة دون أن يراها أو يرى حتى حاملها ، ما جعل عبد الباسط يبتسم إعجاباً بمهارات مدير كهذا ..
أطلق القطار صافرته الأخيرة مغادراً ببطء وسط هدير عجلاته الحديدية .. ولأسباب تتعلق بعبد الباسط شخصياً فقد اكتشف أنه على وشك أن يفقد فرصته في الرحلة ..
اندفع وراء القطار الهارب وتمكن بحركة يد بهلوانية من إلقاء القبض على باب إحدى الحافلات وحشر قدمه داخلها .
كلفته تلك الحركة طيران قبعة الصوف في الهواء ؛ والتي استعد بها خصيصاً لتلك المناسبة ..
امتعض قليلاً وتمتم ببعض الكلمات البذيئة .. لكنه أدرك بقوة القناعة أن ذلك لن يفسد بهجة يومه المنتظرة على أية حال .
كانت حافلات القطار تنوء بكمّ من البشر يفيض عن ما تطيق حمله .. بينما كان عبد الباسط يتجول بحثاً عن "موظف أخضر" يؤمن له مكاناً .
استسلم في النهاية للجلوس على الحقيبة بعد أن عدم الوسيلة ابتداءً بالطلب وانتهاءً بالتوسل إلى جميع الموظفين الخضر ؛ بما فيهم ذلك الأزرق الذي يجلس في قاطرة المقدمة .
تسلل إليه بعض الشعور بالخيبة لكنه حافظ على ابتسامة واثقة تعلوها نظرة التوعّد بمحاسبة أولئك الملونين على هذه الفوضى .. وختمها بألفاظ غير مفهومة ليتجنب نظرات الشماتة بسبب جلوسه على حقيبة ..
قبل وصول القطار إلى محطته الثانية كان عبد الباسط قد تجاوز تماماً ما تعرض له من منغصات ؛ متابعاً التمتع بما هو قادم .
أخرج كيساً أبيض من الحقيبة .. جلس القرفصاء وأخذ يعالج بين أسنانه ما في أسفله من بقايا المكسرات المعتقة ..
لم يكترث عبد الباسط حين تلقى رفضاً متعجرفاً من الجوار بعد أن مد يده إليهم بالتسلسل على سبيل الضيافة ... ربما فعلوا ذلك خوفاً من الاضطرار للتصرف بالمثل حين تخرج المأكولات من الحقائب ..
فجأة انتفض ركاب القطار بسبب توقف مباغت ؛ كان على ما يبدو تجنباً للتصادم مع عابر مفاجئ على الطريق ..

مرّ الحادث خارجاً بسلام لكن آثاره في الداخل لم تكن كذلك فقد سجلت في خمس ثوان عشرات التصادمات البشرية أسفرت عن إحداث فوضى في الحوائج وتعكير صفو الكثيرين لما نالهم من الارتجاج .
عندما هدأ الموقف هب عبد الباسط إلى حقيبته يتفقدها .. كان نصيبها من الأضرار وافراً بعد أن هوى عليها أحد ضحايا - الزلزال - بكامل وزنه فحوّل الأسماء بداخلها إلى منشفة بالفاصولياء .. وقميص بزيت الزيتون .. وبيض مخفوق بالزجاج المكسّر ..
عبد الباسط رجل يدرك أن ما حصل مع فداحته لم يكن لأحد أي ذنب فيه بل ربما هو دفع لبلاء أعظم كان وشيك الوقوع ؛ وقد افتدي عند هذا الحد .
وقف إلى النافذة يتأمل المساحات الخضراء المترامية التي يخترقها القطار دون توقف .. سمع صوتاً ينادي نوعاً من العصير البارد .. جاء في وقته .. بل هو أجمل ما حدث حتى هذه اللحظة .. عصير بارد سيفي بالغرض ويطفئ حرارة الجوف والأطراف وربما الدماغ أيضاً .
انسل وسط غابة من الأجساد قاصداً مصدر الصوت ..
أثناء سعيه توقف فجأة عن الحركة متراجعاً إلى موقع أقل ازدحاماً وهناك بدأت معركة هستيرية اشترك فيها رأسه ويداه وجيوبه .. انتهت إلى قطع الشك باليقين .. أحدهم نشل عبد الباسط ..
نظر إلى أسفل .. إلى بائع العصير .. ثم إلى النافذة طويلاً ..
ضحك كثيراً ... ضحك كثيراً عبد الباسط حين تذكر كم من الوقت استغرق تجهيز تفاصيل تلك الرحلة ..
على أية حال هناك جانب أخير مشرق في كل هذا الكابوس .. فهو على الأقل ما زال موجوداً على متن الرحلة ، وقد تحقق حلمه ..

عند وصول القطار إلى المحطة الأخيرة .. ترجل عبد الباسط .. سار مبتعداً بضع خطوات .. سقط بعدها على الأرض .

كانت حلقة كبيرة من الناس على ناصية المحطة .. وفي وسطها رجل تجمدت على وجهه ابتسامة لم يبح بسّرها لأحد ..
حلم ... في المحطة

عبثاً .. جميع محاولاته في استحضار روح النعاس لن تجدي فهو يعرف سبب ذلك الأرق السمج المتطفل عليه منذ ساعتين وأكثر ..

نهض من سريره لا حول ولا قوة وسار حوالي خطوة كاملة إلى الباب حيث الحقيبة .. حملها إلى السرير مجدداً .. وأخذ يتفقد محتوياتها ليتأكد لمرة ثالثة أن كل ما قد يلزمه غداً متوفر بداخلها .. وأن بإمكانه بثقة تامة أن يقسم على ذلك ..

" بالتأكيد سيكون يوم غد حافلاً بالإثارة " (محدثاً نفسه) وهو يتجه إلى معطفه المعلق على مسمار يناهز الأربعين عاماً في الحائط .

سحب المنديل من جيبه الداخلي .. فتحه باحترام وأخرج منه بضع أوراق نقدية وراح يتأمل بيده الأخرى تلك التذكرة السحرية ..

جلس معها إلى جانب حقيبته مسترجعاً بكل فخر تلك الكلمة التي فجرّها بثقة وحنكة على الهاتف : " إيطـاليـــا " وكيف سمع الرد من الطرف البعيد : " إجابة صحيحة مبروك !.. حصلت على جائزة المسابقة .. رحلة في القطار لمدة يوم كامل .. تهانينا للفائز .





في أول ساعة ممكنة من الصباح كان عبد الباسط يقف على رصيف المحطة مع أحد المسافرين الذي صاح فجأة وهو ينظر إلى مكان خال من البشر : حسناً .. أنا قادم .. والتفت إلى عبد الباسط مبتعداً عنه بحماس : عن إذنك هناك من ينتظرني ..


- مو مشكلة يا صديقي سنتابع حديثنا في القطار على أية حال .








عاجل عبد الباسط "الموظف على اليمين" ونال منه توقيعاً قبل أن يتوجه إلى مدير المحطة ..

أصاب "المدير وراء المكتب" التذكرة بختم مدبب بكل دقة دون أن يراها أو يرى حتى حاملها ، ما جعل عبد الباسط يبتسم إعجاباً بمهارات مدير كهذا ..

أطلق القطار صافرته الأخيرة مغادراً ببطء وسط هدير عجلاته الحديدية .. ولأسباب تتعلق بعبد الباسط شخصياً فقد اكتشف أنه على وشك أن يفقد فرصته في الرحلة ..

اندفع وراء القطار الهارب وتمكن بحركة يد بهلوانية من إلقاء القبض على باب إحدى الحافلات وحشر قدمه داخلها .

كلفته تلك الحركة طيران قبعة الصوف في الهواء ؛ والتي استعد بها خصيصاً لتلك المناسبة ..

امتعض قليلاً وتمتم ببعض الكلمات البذيئة .. لكنه أدرك بقوة القناعة أن ذلك لن يفسد بهجة يومه المنتظرة على أية حال .

كانت حافلات القطار تنوء بكمّ من البشر يفيض عن ما تطيق حمله .. بينما كان عبد الباسط يتجول بحثاً عن "موظف أخضر" يؤمن له مكاناً .

استسلم في النهاية للجلوس على الحقيبة بعد أن عدم الوسيلة ابتداءً بالطلب وانتهاءً بالتوسل إلى جميع الموظفين الخضر ؛ بما فيهم ذلك الأزرق الذي يجلس في قاطرة المقدمة .

تسلل إليه بعض الشعور بالخيبة لكنه حافظ على ابتسامة واثقة تعلوها نظرة التوعّد بمحاسبة أولئك الملونين على هذه الفوضى .. وختمها بألفاظ غير مفهومة ليتجنب نظرات الشماتة بسبب جلوسه على حقيبة ..

قبل وصول القطار إلى محطته الثانية كان عبد الباسط قد تجاوز تماماً ما تعرض له من منغصات ؛ متابعاً التمتع بما هو قادم .

أخرج كيساً أبيض من الحقيبة .. جلس القرفصاء وأخذ يعالج بين أسنانه ما في أسفله من بقايا المكسرات المعتقة ..

لم يكترث عبد الباسط حين تلقى رفضاً متعجرفاً من الجوار بعد أن مد يده إليهم بالتسلسل على سبيل الضيافة ... ربما فعلوا ذلك خوفاً من الاضطرار للتصرف بالمثل حين تخرج المأكولات من الحقائب ..

فجأة انتفض ركاب القطار بسبب توقف مباغت ؛ كان على ما يبدو تجنباً للتصادم مع عابر مفاجئ على الطريق ..








عبد الباسط رجل يدرك أن ما حصل مع فداحته لم يكن لأحد أي ذنب فيه بل ربما هو دفع لبلاء أعظم كان وشيك الوقوع ؛ وقد افتدي عند هذا الحد .

وقف إلى النافذة يتأمل المساحات الخضراء المترامية التي يخترقها القطار دون توقف .. سمع صوتاً ينادي نوعاً من العصير البارد .. جاء في وقته .. بل هو أجمل ما حدث حتى هذه اللحظة .. عصير بارد سيفي بالغرض ويطفئ حرارة الجوف والأطراف وربما الدماغ أيضاً .

انسل وسط غابة من الأجساد قاصداً مصدر الصوت ..

أثناء سعيه توقف فجأة عن الحركة متراجعاً إلى موقع أقل ازدحاماً وهناك بدأت معركة هستيرية اشترك فيها رأسه ويداه وجيوبه .. انتهت إلى قطع الشك باليقين .. أحدهم نشل عبد الباسط ..

نظر إلى أسفل .. إلى بائع العصير .. ثم إلى النافذة طويلاً ..

ضحك كثيراً ... ضحك كثيراً عبد الباسط حين تذكر كم من الوقت استغرق تجهيز تفاصيل تلك الرحلة ..

على أية حال هناك جانب أخير مشرق في كل هذا الكابوس .. فهو على الأقل ما زال موجوداً على متن الرحلة ، وقد تحقق حلمه ..































عندما هدأ الموقف هب عبد الباسط إلى حقيبته يتفقدها .. كان نصيبها من الأضرار وافراً بعد أن هوى عليها أحد ضحايا - الزلزال - بكامل وزنه فحوّل الأسماء بداخلها إلى منشفة بالفاصولياء .. وقميص بزيت الزيتون .. وبيض مخفوق بالزجاج المكسّر ..





نظر إليه الأخير بحدقتين نائمتين أشار بهما إلى جهة اليمين وعاد إلى النوم مع سيجارته ..





عاد للنوم ؛ فبعد ساعات قليلة سيحتاج إلى جسد جاهز لمتاعب الرحلة .. رتب الغرفة إلى ما كانت عليه واندس في الفراش وهو يهمس : يعني .. والله .... تمام .. المسألة .. .. وراح في سبات أسرع من تتمة العبارة .








كانت حلقة كبيرة من الناس على ناصية المحطة .. وفي وسطها رجل تجمدت على وجهه ابتسامة لم يبح بسّرها لأحد ..



عند وصول القطار إلى المحطة الأخيرة .. ترجل عبد الباسط .. سار مبتعداً بضع خطوات .. سقط بعدها على الأرض .



مرّ الحادث خارجاً بسلام لكن آثاره في الداخل لم تكن كذلك فقد سجلت في خمس ثوان عشرات التصادمات البشرية أسفرت عن إحداث فوضى في الحوائج وتعكير صفو الكثيرين لما نالهم من الارتجاج .



اتجه إلى فتحة في شباك إحدى الغرف وأشهر التذكرة في وجه "الموظف خلف الزجاج" منتظراً من وجهه هول المفاجأة .



حين انتهى شريط التذكر هذا كان حاجبه الأيمن مرفوعاً إلى الأعلى وفتحتا أنفه منتفختان وفمه مفتوح بابتسامة تطل على خمسة أسنان أثرية موزعة بمعجزة على طابقين .. مع نظرة تنم عن دهشة الإنسان الأول عقب تشكّل الكون .











































































































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مذكرات شبح

01-كانون الأول-2008

حلم ...في المحطة

26-تشرين الثاني-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow