Alef Logo
ابداعات
              

(عزف منفرد / سيرة غير ذاتية)

مهند صلاحات

2009-01-04


ذات صدفة ولدت، وذات يومٍ أدركت أنني حقاً ولدت قبل زمن وأنني الآن على قيد الحياة كأي كائن أخر يدب على الأرض، كسحلية أو طائر دوري أو قطٍ أو أرنب أو ذكر نحل، وماذا يعني أن أكون فرداً هنا كباقي الأفراد، أدرك معاني الحياة، ومكنوناتها، ولماذا صارت حياة، ومن سماها بذلك، وقيل لي أن رجلاً وامرأةً هبطا للأرض بعد خلافٍ دامٍ مع الإله حول حبة تفاح في السماء، تكاثرا وصرت من سلالتهما.
لم أناقش أحداً بهذا الكلام، ففي تلك الأيام كان ممنوعاً عليك أن تسأل، فقط تسمع وتردد كالببغاء ما تسمع منهم، من أستاذ المدرسة، من إمام المسجد، من والدك في البيت، من جاركم الملتحي الذي يصدقه الجميع ويشيد بحكمته فقط لكونه ملتحي ويعرف جميع الأنبياء والأولياء والرسل والصديقين والشهداء ويعرف أسرارهم. وكان ذلك أولى إشارات الإيمان والتصديق المطلق.
حدثتني امرأة، حين بدأت أعي وجدتها أمي، حكايات كثيرة تناقلتها عن جدتها، عن رجل ابتلعه الحوت فخرج يواري عورته بقشر الموز، وأخر أخرج من بين يديه ينابيع، وثالثٍ صعد للسماء بحصان طائر، وأخر خرج كعنقاء من بين النار بعد مشاجرة مع عشيرته حول طبيعة الإله الذي يعبدون، وتضيف جلس بوسط النار وكان يدخن "شيشة"، وتأكيداً على كلامها اصطحبتني يوماً إلى مدينة "الخليل" وفي مسجد كبير قالت هنا أحرقوه وهذه "شيشته"، وفي طريق العودة عرجنا على مقام النبي "الخضر" في بيت لحم، حيث في المكان صورة لفارس يبدو خارجاً من أسطورة جميلة يركب فرساً ويطعن برمحه تنيناً يلعب بين أقدام الفرس. واستكملت حديثها بأن هذا الولي الصالح إن ذكر اسمه يأتيك ولكنك لا تراه.
- ما فائدة حضوره إذاً؟ سألت، ونسيت أنه ممنوع عليك أن تسأل.
كما أنها فعلت في زيارة تالية للقدس حين أخبرتني عن صخرة تطير بالسماء في داخل المسجد الأقصى، طارت مع النبي الذي صعد للسماء من هذا المكان، وحين تأملت الصخرة الطائرة لم أجدها سوى سقف كهفٍ قديم ملتصق بالأرض وأن الأمر لم يكن سوى "شبه لهم" بأنها تطير.
كان ممنوعاً أن أقول هذا لا يصدقه العقل، فقد أكد عليه كل السابقون، إمام المسجد وجارنا الملتحي وأستاذ المدرسة الأولى في القرية، وجارتنا أيضاً أكدت الكلام، بل وزادت عليه بأن رجل "الشيشة" حين كبر وشاخ حملت امرأتيه، فأراد قتل ابنه فمنعه الله الذي طلب منه ذلك وأهداه كبشاً عظيماً، وهذه المرأة كانت من المصدقات لدى أمي ولا يجوز نقاشها فهي تصلي الفروض الخمس.
وسط تلك الحكايات التي استكملتها أيضاً أمي بحكاية "حديدون"، الشاطر حسن، "الغولة" وكيف تدحرج رأسها المقطوع لمسافة طويلة قرب بيتنا فأسمى الناس منطقة الدحرجة تلك "الرأس" وهي منطقة تمتد دنمات كثيرة من الأرض المزروعة بالزيتون لتصل قرية أخرى قربنا، كما وحدثتني عن الجن الذين رقصوا فوق قشر البصل ابتهاجاً بالقط الذي حمل بندقية على كتفه.
كما كان أول اكتشاف لي بإعادة إنتاج أسطورة عشتار مرة أخرى في قريتنا الصغيرة التي تقع شمال مدينة نابلس، فذات سنة قاحلة انقطع فيها المطر خرجت مع جموع القرية لأرضٍ قريبة وكانت الطبول تدق والناس تنادي "أم الغيث غيثينا"، وكنت أتسائل من هي أم الغيث تلك!، وكيف تغيثهم امرأة المطر تلك وتنزل عليهم المطر؟ قبل أن يتحول هذا الطقس السومري المتوارث ليصبح صلاة استسقاء، وتتحول استغاثة الإله المرأة، إلى استغاثة الرجل الإله.
بدأت أعي جزءاً من الحياة مكتسب، وأخر تجربة. اكتشفت وحدي أن طائر الهدهد لا يتحدث لأحدٍ بعد أن هدمت عشه من فوق أحد الأشجار وسرقت صغاره وجلبتهم للبيت لأربيهم كي أرسل أحدهم يوماً لليمن ليحدثني عن امرأة فاتنة تنتظرني، وحين كنت أسمع أن هنالك بالقرية لدينا مكان يقطنه الجن ويراه الناس فيفزعون أذهب إليه دون فزع أبحث عنهم ليجلب لي أحدهم عرشاً قبل أن يرتد إلي طرفي، وحتى بعد أن أصبحت مقبرة القرية مكان لجلوسي في المساء أنتظر خروج الأحياء من الأموات، عبثاً بائت محاولاتي بالفشل في أن يخرج الجني المزعوم، وفقدت رغبتي في الخوف، وهذا أيضاً كان جزءاً من الموروث المزروع في اللاوعي داخلي، حيث أن أمي كان قد علمتني بسنوات الطفولة الأولى أنني في لحظة الخوف من مجهول مرعب أو حصول كارثة أقول: "عليٌ هنا" لإخافة الأشياء المرعبة والكوارث، وهي أيضاً إحدى موروثات الدولة الفاطمية التي لا تزال حتى اليوم موروثاً شعبياً متداولاً في تقديس شخصية الإمام علي، وتردد أيضاً لدى كبار السن حين يغادرهم ضيف بقولهم: "الله وعلي معاك".

رغم ادعائي بوعيي للأشياء، وحديثي بفلسفة الطفل لأقراني عن حكايات أسطورية أعرفها، لو كنت دونتها في ذلك الوقت لكانت اليوم كتاباً عن أساطير كنعانية حديثة كتبها، أو كذبها أحد أحفادهم، لكنني لم أكن بعد أدرك شيئاً، كان ذلك السرد الأسطوري اليومي في الحياة عن العصا التي شقت البحر، والسفينة التي أنقذت العالم من الانقراض، تعلم وعيي الأول كيف يحيك الأساطير، وهو ما يجعلني لا أستغرب كيف أننا كشعوب عربية ذات مخيلة واسعة جداً وأديبة بالفطرة، وكاذبة جداً بفعل تلك المخيلة الواسعة، بفعل ذلك الكم الهائل من الأساطير التي ولدت في هذه البقعة الجغرافيا التي نعيش فيها.

حين بدأت حياتي كان لي أسم ووصف وعائلة وقبيلة وأبوان وأخوة، رغم أني لم أختر أياً من هذه جميعاً، حتى أنهم أضافوا في إحدى خانات شهادة الميلاد الديانة "مسلم"، ولم يقف الأمر عن ذلك، كنت متبوعاً بتهديدٍ مسبق إن فكرت بتغيير هذه الخانة سأكون مرتداً وأقتل دون ذنب ارتكبته أو قرار مسبقٍ اتخذته.

أفقت على الحياة لأجدني على هذه الأرض عبداً لأبٍ وأمٍ ودينٍ وعائلةٍ وقبيلةٍ لا أعرف أياً منهم قبل ولادتي، كل ما هو حولي جاء ليكملني صدفة أو بقرار مسبق من غيري.
وطريق معبدة بادعاءات وأساطير وحكايات الرسل والأنبياء والشهداء والقديسين والأئمة والأولياء والشيوخ والرهبان ورجال الدين والمدعين، وكلٌ منهم يملك مفاتيح روحي، وكل منهم قادرٌ أن يهبني الموت والحياة، ويهبني الأطفال والمال بمجرد التبرك فيه، أو يخرجني من البئر ويبيعني لعابر في الطريق، كل من هؤلاء القديسين والأنبياء وأئمة المساجد كان يملك الحق في أن يرسم خط سير حياتي في مزاد علني كل يوم جمعةٍ من على منبر.ٍ
كان من حقي أن ارفض كل شيء، كل القبيلة، كل ما تلبسني منذ ولادتي، من حقي أن أغير اسمي، صوتي، لوني، جنسيتي، شكل ملابسي، لماذا لم أولد بعيون مستطيلة إذاً؟ لماذا لم أولد بشعر أجعد؟ لماذا لم يكن اسمي أحمد؟
لم أختر حتى صورتي في المرآة، بقيت حتى موتي صورة في مرآة القبيلة، وصورة في دفتر الأحوال المدنية، وصورة في الهوية الشخصية، وطفلاً يجلس وسط مجموع يتكون من ثمانية أفراد من ضمنهم أب وأم في صورة تعلق في جدار المنزل الذي ولدت فيه واختلفوا حول اسمي مراراً قبل أن يستقروا على ما هو عليه الآن دون أن يفكر أحد منهم بانتظار أن أكبر ويستشيرني بذلك، وبقيت مشتبهاً به لديه صورة في جواز سفر ترفض أي سفارة وضع فيزا عليه ليسافر خارج حدود نفسه والقبيلة.
وحتى في موتي لم أختر ذلك الشكل الذي سبقه حين اجتمعوا وغسلوني عارياً، وقرءوا فوق رأسي تراتيلهم دون أن يأتي أحد يوماً ليقول لي: كن أنت
كانوا جميعاً وكنت واحداً من قطيع.
وأيضاً لم يكن لي خيار حتى في موتي، بقذيفة دبابة، بطلقة طائشة في أحد أفراح العشيرة، في حادث سير صدفة، كل ذلك كان يقتلني رغماً عني، كان لي أخوة كثيرون بالصدفة، وبلد بالصدفة، وأم وأب واسم وشكل بالصدفة أيضاً.
.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

"سيدة الأعشاب" للقاص خليل قنديل المرأة تستحضر الغيب في مكان عصيّ على النسيان

10-نيسان-2009

(عزف منفرد / سيرة غير ذاتية)

04-كانون الثاني-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow