Alef Logo
ابداعات
              

غرفة توم سوير العالية...

سامر محمد اسماعيل

2009-02-03


كان لزاماً عليكِ صعود الدرج الحجري المُفضي إلى سطح الدار و بعدها الهبوط وأنت ِتخفضين رأسكِ على الدرج الحديدي الصغير المعلق كجسرٍ بين فراغين،هكذا تصبحين فجأة في غرفة "توم سوير"كما كنتِ تحبين أن تسمينها دائماً، تماماً.
في ذلك اليوم عرفتِ تقاليد الدخول إلى غرفة "سوير" هذه، فالباب الذي انكسر مفتاحه في بطن القفل الصدىء حوّل النافذة الواطئة إلى ممرٍ اضطراري، كان عليكِ أن تقفزي من الشباك مستندة على أضلاع "البرّاد"
الذي يقع حتماً في جنوب القفزة التي تضعكِ كاملةً وسط الغرفة، بينما أنا نائم على سريرٍ حديدي ، قمتُ بنزع قوائمه الأربعة، وتعرفين لماذا قمت بذلك...
كان عليّ أن أصدق قصيدتي الأخيرة ، وأن أقنع أصدقائنا بها ، القصيدة التي عنوانها "اصمت قاتلي تحت السرير" لذلك وعن عمد بطحت السرير أرضاً،ولم أسمح بذلك الفراغ الذي يمكن أن تتركه مساحة سرير ربما أخفى
أحدهم جسمه كاملاً تحت ركائزه الأربعة، الآن وبعد أن تعثرتْ أقدامكِ بزجاجةًًًًٌ "ريان" فارغة. استيقظتُ من نوم تلك الظهيرة ، حيث قطعتُ وعداً صعباً على نفسي بالنوم لثلاثة أيام متواصلة في غرفتي العالية..
فلماذا أتيتِ ؟
هذه الغرفة تشبه شيئاً ما، لم أستطع حتى الآن أن أعرفه؟.. هنا كل شيء
مختلف في استخداماته ، وطريقة تواجده في الفراغ، هذا ما عرفتهِ من أول
زيارة لكِ لهذا "المُكين" كما كان يروق لك أن تسميه، أنتِ طالبة الأدب العربي في جامعة دمشق؛ حيث يسكن طلابها الأحرار والمتسربين من أقفاص المدن الجامعية إلى غرفٍ في باب توما و القيمرية وشارع الأمين !..
أول شيء فعلتِهِ ،فتحتِ برّادي الصغير الذي تكنّى باسم نهرٍ دمشقيٍ أصيل اشتقت منه لفظة الفردوس، الكتب في البراد وكذلك المدفأة الكهربائية، فقط في الدرج الأخير يمكنكِ أن تجدي رمّاناً أحمراً، إنه قلب لوركا الحزين ، المفطور على غرناطة والبلوري كأقبية منازلها الصيفية .
نعم لقد حوّلت البراد إلى مكتبة لا لشيء وإنما لضيق المكان واكتظاظه الفادح.
من هنا يمكننا تناول الكتب الباردة مع الرمان المفروط ، كتب الشعر طبعاً
لوركا تحديداً بترجمة عجائبية ،نيرودا ومحمود درويش وأعداد قديمة من مجلة الكرمل أيام صدورها من ليماسول – قبرص .
فوق السرير تماماً ستشاهدين عن كثب كنزةً صوفيةً ممدودة الكمين.. كمسيح، وقد علقتُ في أسفلها بطريقةٍ سينوغرافية زند عود مكسور تتدلى
منه شرايين لأوتار مقطوعة ؛ مقطوعة حزينة ورتيبة عزفها صديقي العراقي الذي انتحر مغالياً بالفاليوم ، طريقة سهلة للنوم مبكراً جداً..
إلى الأسفل صورة بالأبيض والأسود ل "جوليتا" في فيلمها مع الأشباح، يتبعها شريط فيلمي للقطات قريبة ومتوسطة؛ صور لنجوم سينما بعضهم لا أعرفهم جيداً لكنني أضفتهم إلى سماء الغرفة فوق السرير مقطوع الأقدام.
في الوسط أي تحت القنطرة التي تشكل معلماً بارزاً في جسم الفضاء تستقر الأريكة الخضراء القديمة بقوائمها الإنكليزية ذات الموديل الستيني وذلك تحديداً بين ثلاجة الكتب وخزانة حديدية بدرفات مخلوعة .. كملك.
خزانة ثيابي المليئة بقطارميز مكدوس ومخلل فاصولياء ومربى التين،وبعض من قسمات الخبز اليابس.
فوق قوس القنطرة دوّن الأصدقاء قصائدهم المنحولة وأقوالهم المأثورة حتى أنا سجلتُ جملتي المفضّلة على هيئة مانشيت لا يرد لرئيس تحرير تلك الجريدة الحائطية.. ابتعدوا عن حياتي أيها البقر.. فإن الحياة قصيرة..
بينما سجلتِ أنتِ بخطكِ الرديء مقطعاً من أغنية لفيروز " أهلي ندروني للشمس وللطرقات".
في الجهة المقابلة لقوس القنطرة الشهير كان هناك نافذة أخرى أكثر عمقاً تطل على صحن البيت، كنتُ قد ملأتها بالبصل والثوم والبطاطا حيث كانت دميتكِ الصينية ترتع بين هذه الفواكه مرتاحة إلى شعرها المستعار
شعرها الذي ضفرته من حبال البامياء اليابسة التي مستبدلاً به شعرها الأسود الفاحم، إلى جانب النافذة عند خاصرة السرير تقريباً كانت هناك (المالتي ميديا) خاصتي، مسجلتي التايوانية الفاخرة وإلى جانبها سلة من القش مملوءةً بما لذّ وطاب من كاسيتات الزمن الغابر، أم كلثوم، نجاة الصغيرة ،عبد الوهاب الدوكالي، خالد الهبر وزياد الرحباني، وبالطبع كاسيت موسيقا لأندريه بوشيللي؛الذي كنا نسمعه مراراً مشعلين الشموع التي ثبتناها سويةً فوق أعناق زجاجات النبيذ الفارغة، وإذا ما تابعنا نحو الحائط الممتد بين النافذتين سيكون هناك جسداً تخيلياً للباب الذي كُِسر المفتاح في قفله، الغرفة تشتعل، صوت بوشيللي الرتيب والشموع جعلت من المكان مشروعاً لحريقٍ رائع، سيأتي الأصدقاء بعد قليل، سيقفزون من النافذة واحداً تلو الآخر ولن يتبقى مكاناً لموطئ قدم؛ سيتحلقون هنا وهناك تحت السقف الخشبي بصقالاته الأربعة عشر مدعومةً بجسرٍ حديدي كإبهامٍ معدني يضم أصابعه الخشبية إلى قبضة الغرفة.
إنها غرفتنا على أي حال مامن مفتاح، مامن باب، ما من صاحبٍ حقيقي لهذه الغرفة السريّة التي يدخلها الزائر من النافذة، وكان كافياً إلى حدٍ بعيد أن تضع زجاجةً فارغة أمام أرضية الشباك ليعرف القادم أن ضوء الشمعة الداخلي ليس لممارسة اليوغا أو تحضير الأرواح..!
كانت الوجوه تتبدل بشكلٍ يومي، ثمة من يترك مالاً تحت الوسادة للمشاركة في دفع الأجرة، ثمة من يجلب طعاماً..أي طعام..أي شراب.
ثمة أيضاً من يجلب كتباً،أو يسرقها من الثلاجة، لايمكن على وجه التحديد أن تعرف من سرق رواية المريض الإنكليزي التي كانت ريتا قد شرعت في قراءتها، وترك لها بدلاً منها رواية ماركيز الماكرة مئة عام من العزلة بطبعةٍ سيئة ومبتسرة، فلا تكاد أن تساوي يوماً أو يومين من العزلة..!
شتاءً تتحول الغرفة إلى مركب رامبو النشوان حيث تصب كل مزاريب الغرف المجاورة على سقفها المائل والذي بدوره يهرّب المطر إلى صحن الدار.
يمكنكِ الآن أن تقلّبي إبرة الراديو على موجتكِ القصيرة، وأن تستمعي إلى فقرة الأبراج، وحتماً ستنقطع الكهرباء في برج الحوت، وتصبحين في بطنه دون أن تعرفي شيئاً عن سير الكواكب، لاسيما أنكِ وحيدةً تماماً وتحتاجين إلى يدي كي أسحبكِ بقوة من قعر الغرفة إلى حافةِ النافذة(الباب) لتدلفي هانئةً إلى ( الحمّام المشترك)، ومن بعدها الذهاب إلى كنيسة القديس حنانيا كي نكتب في سجل الزيارات أمنيتنا الخاصة؛ وهي أن تموت صاحبة البيت وتظل لنا غرفة توم سوير إلى الأبد.
سامر محمد إسماعيل

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

وجوه نزيه أبو عفش حول مائدة العشاء الأخير

16-حزيران-2018

سعد يكن: المايسترو

30-نيسان-2016

الوشم في مواجهة ذهنية التحريم الجسد العربي مكتوباً ومقروءاً

07-كانون الأول-2015

المثقفون السوريون.. أمراء حرب أم قادة ثورة

19-كانون الثاني-2015

.. الطلبة كبش فداء ورشة مسرحية سورية لم تبدأ بعد!!

19-كانون الثاني-2010

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow