Alef Logo
يوميات
              

المرأة الدمشقية والتلوّث

أمل عريضة

2009-02-03


ودّعتُ البياضَ الذي يمتدُّ فوقَ المحيط .. آلافَ السحبِ التي تعبقُ عيونُها بالدمع ،و طرتُ بقلبٍ نديٍّ إلى دمشقي .
عبرَ ساعاتٍ طويلةٍ من الرحلة الشاقة بين المطاراتِ و صوتِ المضيفةِ يطلبُ بين حين و آخر ربط الأحزمة كان الخوفُ ألاّ أصلَ دمشقَ يندلعُ داخلي كنارٍ مزمجرة ، و على ألسنةِ القلقِ راحتِ الذكرياتُ تنهضُ وئيدة . تفتحت مساماتُ القلبِ و سرى اشتهاءٌ لكلِّ تفاصيلِ الوطن.. حاراتِه النائمةِ في سكينة.. أماكنِ التقاءِ الأحبّة و الأصدقاء.. عذوبةِ المطر يهمي و يوشوشُ الأرصفة في حياء .
قبلَ يومٍ من مغادرتي للولايات المتحدة تهتفُ لي صديقتي العائدة توّاً من إجازتها في دمشقَ بعد غيابٍ عنها سنواتٍ طويلة : "هيّئي نفسك للصدمة ! التلوثُ .. شيءٌ مرعب !". أدّعي أنّي لم أنقطع عن قراءةِ أخبارِ سورية و مشاكلها اليومية، وأنّ هذا يحصِّنني من الصدمة ، لكنّ ادعائي هراءٌ و غباء ، و مكابرتي بدأت تتلاشى مع وصولِ أولِ المدخنين من أقربائي حمراءَ ثقيلة .
في المرجة تبلبلت أفكاري و اضطربَ تنفسي . لم أعرف هل عليّ أن أبتلع كلَّ ذاك المقدار الهائل من الهواء المتسخ أم أتوقف عن التنفس! رأيت مئاتِ الضحايا تموجُ في رماديّ ساحةِ الشهداء و تمضي إلى مصيرها البائس دون حلمٍ أن يُكتبَ اسمُها في سجلات الشرف .
دخلتُ صالة الرواق العربيّ لألتقيَ بعضَ الصديقاتِ القدامى . كان هناك عددٌ قليلٌ من الرجال. توجهتُ إلى الصالة الداخلية ففوجئتُ بعددٍ كبيرٍ من النساء، وأمامَ كلِّ طاولةٍ أو واحدةٍ منهن نارجيلة والدخانُ ينافسُ حرائقَ معملِ السكّر في حرستا . اخترتُ طاولة في صالةِ الرجال . أقبلت صديقاتي عليّ و سألتني واحدة باستهجانٍ : "لِمَ تجلسين هنا مع الرجال ؟" قلتُ مستغربة : "لم أعرف أنّ دمشقَ باتت تفصلُ بين الرجال و النساء في استراحاتها و مطاعمها !". قلن لي : ليس تماما .. ذاك هو القسمُ العائلي و هذا الرجالي . قلتُ : "رأيتُ عشراتِ النساءِ يدخنّ النارجيلة ، و أنا مصابة باحتقانٍ شديدٍ في جهازي التنفسي و احمرارٍ و حرقةٍ في عينيّ منذ وصولي دمشقَ الجميلة". قصدتُ إيصالَ إشارةٍ لصديقاتي أيضا ً بعدما لاحظتُ أنّ النارجيلة صارت موضة مقبولة اجتماعيا ً بين كافةِ الشرائحِ والفئاتِ العمرية والجنسيةِ والطبقية والدينية والثقافية . و قد راعت صديقاتي شعوري كوني لم أفقد طزاجتي الأمريكية بعد، فاكتفين ببعضِ السجائر. تذكّرتُ حادثة صغيرة. خرجتُ مرّة من مبنى كلّيّتي بميشغن لأرى موظفة تدخنُ قربَ البابِ متقية بسقفه من البردِ الشديد والمطر . راحت تعتذر بشدة و تنهر نفسها بأنها يجبُ أن تتوقفَ عن هذا الفعل ولا تسببُ الإيذاءَ للناس. أحسستُ بالإشفاق عليها وهي تجلدُ نفسها بعباراتٍ قاسية . واسيتها : "لاعليكِ ! أنتِ لم ترتكبي خطأ، وحقك الطبيعيّ أن تدخني في الهواء الطلق طالما أنه ممنوعٌ داخلَ المبنى" . أجابت : لكنّ وقوفي جانبَ البابِ خطأ . ما كان يجب أن أعرّضك لدخانِ سيجارتي ".
معظمُ الرجالِ في بلادنا عاطفيون وحميميون ويعرّضونا كثيراً لدخانِ سجائرهم، بل هناك أسماءٌ ثقافية كبيرة ارتبطت بالسيجارة وأمعنت في الدفاعِ عنها وكأنها إحدى قضايا التحرّر الإنسانيّ. ورغمَ أنّ نساءً أقلّ جاهرن بالتدخين، إلا أننا نعرفُ جميعاً أنّه كان ينتشرُ سرّاً في جلسات النساء والمراهقات في المدن والأرياف على السواء. وبدلَ أن تخفَّ هذه الظاهرة في ضوءِ موجةِ التحرّرِ الاجتماعي السائدة وتراجعِ ضغطِ التقاليدِ والتحريمِ والممنوع -وقد صارَ معروفاً أنّ عِلمَ النفسِ يرى أنّ السيجارة تزوّدُ المرءَ بشعورٍ كاذبٍ بالرجولة أو النضجِ أو التحرر إلى أن تصبحَ عادة -إذا بالرغبات المكبوتة أو الفائرة تنعتقُ من المجالس السريّة لتعانقَ الحبلَ السريّ للنارجيلة. تراقبُ السيداتُ رغباتهنّ وقد غدت فقاعاتٍ تخفقُ فوق الماء الراكد. يتابعنَ بشبقٍ الدخانَ الممزوجَ بروائحِ التنباك شاعراتٍ أنهن أرسلن كلَّ ماتضجُ به الروحُ من وجعٍ وتوق. وليس السيءُ في الموضوع أن ينتقلَ تدخينُ النساء من السرّيّة إلى العلانية -طالما أنه موجودٌ في الحالتين- ولكنّ المشكلة في انتشار النارجيلة بين النصف الآخر للمجتمع وأن تصيرّ عادة يومية للملايين في بلدنا وهي أكثرُ ضرراً من السيجارة. لاتلاحظُ نساؤنا الرقيقات بالتأكيد أنهن مقابل مُتعٍ ونزواتٍ بريئة وبسيطة يساهمن باغتيال دمشقَ.
قد يسخرُ البعضُ من دمشقيَ هذه التي أحملها في الذاكرة، وأبحثُ عنها بإلحاحٍ مرضيّ. قد يظنوا أنّها أوهامُ الاغتراب التي تبقيني خارجَ حقيقة الوطن عاجزة عن التكيّفِ مع نموّه وتقبّلِ عيوبه ومساوئه، لكنّي أرى سوءَ تكيّفٍ أكبرَ يسودُ علاقة الفرد بوطنه هنا. اعتدنا أن نحمّلَ الدولة كلّ أسباب الفساد والضياع والعجز والتخلّف. ورغم أنّ تحليلَ الواقعِ السياسيِّ لمعظمِ دولِ العالمِ يكشفُ أنّ الأفرادَ موجودون لخدمة الدولة، فإنّ أيَّ واحدٍ منا يتصرّفُ بطريقة تدلّ على اعتقاده الرومنسيّ بأنّ الدولة وُجدت لخدمته، وأيَّّ نقصٍ يعاني منه يرجعُ فقط إلى فشلِ الدولة في التخطيط والإدارة. لستُ بمعرضِ دفاعٍ عن أيّ دولةٍ أو نظامٍ، لكني أريدُ لفتَ النظر إلى دورنا ومسؤولياتنا كأفرادٍ ومواطنين والتي لم نقم بها بشكلٍ جيد.
حين انتقلتُ مع جزءٍ من عائلتي من ولاية ميشغن إلى نورث كارولينا اتصلنا بشركة التنظيفات لتأتي وتأخذ صناديق ورق المقوّى الفارغة، حيث لايجيزُ القانونُ وضعَ أي نفاياتٍ أمام البيت خارجَ أوقات محدّدة. تأخرتِ الشركة ساعاتٍ نتيجة سوء فهمٍ. ثارت عاصفة ووصلَ إلى أذنيّ صوتُ ضجيجٍ ما. نظرتُ من نافذة غرفتي لأجدَ الصناديقَ وقد تطايرت في كلِّ جهةٍ وملأتِ الشارعَ وساحة الحي حتى نهايتهما، وامرأة لاأعرفها تروح وتغدو في كافة الاتجاهات تجمعها وتعيدها إلى مركزها أمامَ بيتنا، ثم تابعت طريقها دون أن تهتمَّ بقرع جرسنا للومنا أو لإظهار فضلها. عرفتُ فيما بعد أنّها إحدى نساء الحي والتي تصرّفت بموجب إيمانها أنّ المدينة مدينتها. كنتُ سيئة إلى درجة كبيرة فلم أهرع لمساعدتها أو شكرها، فقد أذهلني تصرّفها وسمّرني مكاني. باغتني مشهدٌ من وطني.. في حافلة عامة في دمشق... ثلاثُ صبايا أنيقات يحتللنَ المقعدَ الأخير خلفي... يفصفصنَ بزر دوّار الشمس، وينفخنَ القشر بأفواههنّ إلى النافذتين المفتوحتين، وكان الهواءُ يصفقُ القشورَ إلى الأمام حيث تسقط على رأسي وجانب وجهي.
أكرّرُ.. لاأقارنُ هنا دولاً وحكوماتٍ، فشركاتُ التنظيف في معظم الولايات الأمريكية تجمعُ القمامة مرة واحدة في الأسبوع، وتعتمدٌ في مجمل العملية على مؤازرة وتعاون والتزام المواطنين. قد تكونُ معاملنا لاتستحي أن تتوغلُ في الأحياء السكنية، وتنفثُ دخانها الأسود في قلوب الناس، وقد يغصّ الغيمُ بدمعه لأسباب جغرافية وبيئية لاسيطرة لنا عليها، فينقطعُ المطرُ، وربما يغتاله رعبُ الفناء في أرضٍ اقتطعَ أخضرها ولم يبق غيرُ أسودها ليذوبَ فيه، فيفضّلُ الموتَ بعيداً عند شرفاتِ الأفق، لكنّ جيلاً بلا هوية راح أيضاً ينفثُ ضبابَ روحه في سماء البلد.
لاشكّ أنّ التدخين هو حقٌّ شخصيّ، وماكان لي أن أقتربَ من الحريات الشخصية مهما خالفت طبعي وميولي، لكن أن تدخَّنَ السيجارة والنرجيلة في معظم الأماكن المغلقة دون قيودٍ هو تجاوزٌ للحريات العامة، وانتشارُها بهذه الكثافة خلال مرحلة زمنية قصيرة جداً ينبئُ بخطرٍ بيئي حتى وإن كان في الهواء الطلق، فسورية صغيرة جداً جغرافياً، وتعاني من الازدحام، فكيف إذا وازى هذا الازدحامَ ورافقه تدخينٌ جماعيٌّ مستمرٌّ؟!
للأسف دمشقُ اليومَ مدخنةٌ، وأحدُ الأسبابِ هو سيداتنا الناعماتُ اللواتي ملأ دخانُ نارجيلاتهن الاستراحاتِ والمطاعمَ والمجالسَ والشوارعَ. قيل لي هذه موضة جاءتنا من لبنان، وسادت كلَ أرجاء القطر وانتشرت خاصة في مدنِ الساحلِ وحمصَ ودمشقَ. أليسَ في لبنانَ أشياء أجمل نتعلّمها؟! هل ضاقت لبنانُ حقاً بكرمها ومحاسنها فجعلناها سبباً لتلوّثِ بلدنا؟! وهل يبرّرُ هذا خياراتنا اللاواعية؟!
دمشقُ.. أقدمُ عاصمة في العالم لاتزالُ مأهولة بالسكان. يمعنُ أبناؤها اليومَ في محو هويتها. ربما غلّفت همومُهم الثقيلة أو المصطنعة حواسَهم وأحاسيسَهم بطبقة جليدية من اللامبالاة، فلم ينتبهوا أنهم يغرزون سكيناً إضافية في عينيّ دمشقَ الحزينتين. بعضُهم تسيطرُ عليه رغبة بالتخريب انتقاماً من سُلطاتٍ ومؤسساتٍ يظنُّ أنها تملكُ البلدَ. أخشى أنّا فقدنا القدرة على المحاكمة والتحليل، فغابَ عن معظمنا أنّ دمشقَ ليست ملكاً لأحد. من أعماق التاريخ جاءت.. بناها رجالٌ عظماء، وملأتها أجيالٌ من النساء بالياسمين البلدي والنارنج حتى صارا من سماتها المميزة.
لَيعبّرِ الرجالُ عن رجولتهم وحريتهم وثورتهم وتمرّدهم وسخطهم كيفما يشاؤون،أو ليبحثوا عن طرائقِ انتحارٍ فردية إن أرادوا. ولتفكَّ النساءُ قيودَهنّ، وليثرنَ على التقاليد التي يبغضنها كيفما يشئن، فهنّ أولى بمعرفة أهدافهنّ واختيار الطريق، لكن ليكفوا جميعاً دخانَ نارجيلاتهم عن تلويث سماء دمشقَ. لِتدركِ النساءُ أنّ دخانَ نارجيلاتهنَ لن يسموَ إلى ياسمين الجدّات، وليتذكّرنَ أنّ مايفعلنه لاهو تحضّرٌ غربيٌّ ولاشرقيٌّ. إنّه عنفٌ ضدَّ الطبيعة والوطن والإنسان.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الممثل

26-تشرين الثاني-2010

كتاب المقارنات: حوارات تاركوفسكي أم تداعياته؟!

21-تشرين الثاني-2010

مناجاة للغائب

01-أيار-2010

لصوص الكتب

29-آذار-2010

الهاربون من الجحيم

14-تشرين الثاني-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow