Alef Logo
ابداعات
              

مناجاة للغائب

أمل عريضة

2010-05-01

خاص ألف
ماملّتْ قرية (الناسك) من الركوع عند كتف الجبل تصلّي ليعودَ رجالها الغائبون، لكنّ البحرَ الثملَ بكؤوس وادي الربيع لم يرجع أيَّ فتى إلى أهله كما تردّدُ سروة باستمرار. وسروة عجوزٌ أنكرت انتظارَ الأمهات والزوجات، وآمنتْ أنّ هذه الصخورَ القاسية التي يعششون في نخاريبها تلفظُ للأبد من يحمل هوىً آخر.
ولسروة دكانٌ صغير يضمُّ كلّ مايحتاجه أهل القرية في عزلتهم تلك، فالرعيانُ يأتونها بالحليب والأجبان، والنَوَر يزودونها بمصنوعاتهم اليدوية وبما يجمعون في طوافهم على قبائل البدو والقرى البعيدة من غرابيلَ ومناخلَ وأبرِ خياطة وكحلٍ عربي ومراهم طبية وبخور وبعضِ الحليّ الزائفة وسكاكر الصليب وغير ذلك. لم يحدثْ أن نزلتْ إلى سفح الجبل، فمجرى الوادي شرهٌ يبتلعُ أنضرَ الفتيان وأشدّ الرجال. في كلّ ربيع كان شيطانُ الوادي يصعدُ الجبلَ سرّاً. يتخفى عن عيون المسنين العقلاء في مرايا النَوَر، فإذا نظرَ أحدُ الفتيان فيها باحثاً عن نفسه وسوسَ له بالرحيل ، وأغراه أن يسلكَ طريقَ الوادي ليصلَ سريعاً إلى بحر اللآلئ. لاأحدَ يعرفُ ماذا يرى الفتية في المرايا وأيّ مغناطيس يجذبهم إلى الرحيل ماإن يبدأ الشجرُ بالإزهار. كثيرون على كلّ حال نظروا في المرايا ولم يسمعوا هذرها، ولم يروا فيها أبعدَ من انعكاس وجوههم. هؤلاء ظلوا ملتصقين بصخرتهم يروون الحكايات والأساطيرعن البحر والعالم أسفلَ الجبل فسُمّوا بالحكماء.
لسروة حدسٌ تجاه موت الشباب. تشمُّ روائحه في طلائع الربيع. تزكمُ أنفها رائحة الماء الفائر في الوادي، ورائحة الدماء النزقة التي تكادُ تتفجّرُ من شرايين الشباب، فتعتلي ظهرَ بغلتها وتذهبُ إلى القرى الجبلية المجاورة. تملأ خرجَيْ راحلتها بالأحزمة الجلدية والكوفيات المخططة للفتية المختالين وبالحنة والطيب لتتزين الصبايا والنساء، ويطولُ مكوثُ الرجال بينهن. كانت تقاومُ بطريقتها هذه شيطان الوادي الذي خطفَ أخاها فزوجَها فابنها. الفقدُ المتواصلُ جعلها تؤمنُ أن لاأحدَ يعودُ من وادي الربيع. ولعلّ أكثر مايثيرُ أساها أن ترى حفيدتها سارة ترقبُ الطريق باستمرار من نافذة بيتهم القائم على أطراف القرية مشرفاً على فم الوادي. في البداية أغضبها إصرارُ كنّتها على انتظار الزوج الراحل. رأت فيه وهماً يفترسُ بقايا روحها التي أيبسها انتظارُ أحبة لايرجعون. ولمّا انقضى صيفٌ على رحيل ابنها الوحيد أقامت له جنازة الغائب. زوجه نجمة جُنّت ونعتتها بالأم القاتلة، ومنذ ذلك الوقت تجنبت كلاهما الأخرى، وإن ظلّتْ سروة ترعى نجمة وصغيرتها.
هذا الصباح الذي حملَ نسائمَ الربيع الأولى أيقظَ الجدة سروة باكراً. أطعمتْ حفيدتها وقالت لها: عندما أعود مساءً من ضيعة (الوشم) سألوّن لك خمسَ بيضاتٍ بعدد سنيّ عمرك. بيضاتٌ حمراء وصفراء وخضراء و...
- أريدها كلها بيضاء ياجدتي، ليظنها أبي لآلئ كبيرة، فيعودَ إلينا سريعا.
غصّتِ الجدة بالحزن، وقامت إلى دابتها تحضرها للركوب، وتصعدُ بها الطرقَ الجبلية الوعرة لتنسى مَن طوى في قعر البحر. أما سارة فقد جاءتْ بأوراقٍ وألوان وأخذت تحاكي ماتطرزه أمها. اعتادت نجمة أن تجلسَ عند النافذة ساعاتٍ غيرَ واعية مايدورُ حولها، وإن نطقتْ فحديثها كهمس الشعر. تفجرت قريحتها يوم أحبّت غريباً وهي في الرابعة عشرة من عمرها. وخلافاً لتوقعات أهالي الضيعة لم ترثِه عندما طالَ غيابه، بل استمرّت تناجيه صباحَ مساء وكأنه على بعد همساتٍ من قلبها. سارة أيضاً راحت تحاكي إيقاعات أمها البسيطة غير واعية أنّ روحها تطلُّ على مملكة الشعر وأنّها قد تمسكُ بوهج الحروف يوماً. اقتربت من أمّها هاتفة:
أمي...
احزري ماذا رسمتُ هذه المرة؟
رسمتكِ عند النافذة
تطرزين شالك الأزرقَ الحريرْ
بخيوطٍ مذهبة
ورسمتُ طوقَ الياسمين
قبلَ أن يذبلَ ويشحبَ.
أريدُ أن أرسمَ أشياءَ جديدة
فمتى ينتهي شالكِ الحريرْ؟
نجمة: سارة يا بنتي الصغيرة
منذ ساعتين تجلسين هاهنا
تملئين دفترك بالرسوم الملونة
هلاّ نظرتِ مرة عبرَ النافذة؟
ربما يبرقُ خبرٌ في السماءْ
أو ترسل لنا الروابي الخضرُ بشارة
ويعودُ صاحبُ البيتِ بزهورٍ نضرة.
سارة: أمي...
أهو ذاك الذي يخفقُ بأجنحةٍ طيبة
خلفَ أسرابِ السنونو العائدة؟
أم الحمامة المغردة على تيك الشجرة؟
نجمة: غريبٌ ياحبيبي
يا حلماً طالعاً من شظايا النورْ
أسكنتكَ داخلي نجماً هاديا
غلّفتكَ بالحيرةِ والترقبِ المسحورْ
وإن يئستُ يوماً
ورميتك في بحر النسيانْ
أعادتكَ رسوم سارة إليّ
بنفسجاتٍ يضوعُ منها الحنانْ.
سارة: أمي...
ألن يعودَ والدي حاملاً أرنبا
أو وزة بيضاءَ وقطة مسلية؟
إني مللتُ من الجلوس هنا
لاأصدقاءَ ولاأبَ لديَّ.
نجمة: أسمعُ طرقاتٍ على البابِ
وتمتمة أغنية عن الصيادِ والغابة
هلاّ فتحتِ البابَ ياسارة
هذا أبوك عادْ
سأنهي غرزاتي الأخيرة
لألاقيه وشالي على كتفيَّ
سارة: كم مرةٍ كرّرتِ لي هذه الوعودْ!
كم قلتِ إنّ والدي سيرجعُ
حين اكتمال شالكِ!
مالكِ إذاً بطيئة متراخية؟
نجمة: كم ربيعٍ مرّ وشتاءْ!
كم من الأصيافِ انتظرتكَ هاهنا!
كلّ صباحٍ أعلّقُ طوقَ ياسمين على شرفتنا
وأضيء قنديلاً في المساءْ.
سارة: يردّدُ الفتيانُ عن والدي
أنّه كان أجملَ العرسان
لكنّ حورية بحرٍ خبّأته تحتَ سريرِ الماءْ
أطعمته ياقوتة قلبها وزمردة الشفتين
صارت ذاكرته أوهنَ من اعتلاءِ الموج
فلم يقبلني على خدّي
في يوم مولدي
نجمة: غريبٌ قال يوم ودّعني
سآتيك بعقدٍ من اللآلئ البيضاءْ
كالذي ترتديه الأميرة
فاحرصي ألا تراه عيون النساءْ
كيلا يقتلنك غيرة.
عندما نجلسُ وحيدين
أحبُّ أن أرى شالاً أزرقْ
يرتفعُ عن الكتفين
كأمواجٍ ثائرة
وتحته اللآلئ البيضاءْ
تبوحُ لي عن رقة البشرة.
غريبٌ ياحبيبي...
ليس لحباتِ اللؤلؤ الأبيضْ
طعمُ قبلاتك المندرجة على صدري
وليس للآلئ عطرُ الياسمينْ.
لو أنك بقيت عندي تلك السنين
ورأيتَ سارة تكبرُ
وخيالها يمتدُّ خلف الرابية
ليرسمَ راعياً وخرافاً زاهية
لصارت فنانة كبيرة.
لهفي عليها كم مرةٍ
رسمتني عند النافذة
أطرز شاليَ الأزرقَ الحريرْ
وأبلّلُ أطواقَ الياسمينْ!
ألقت سارة الألوان من يديها، وبعثرتِ الأوراقَ، وجلستْ على ركبتيها ساهمة ودموعها تنهمرُ على وجنتيها.
نجمة: هل مللتِ يابنتي من جحودِ الطريقْ؟
أم غرّكِ قولُ العجوزِ
لن يصحوَ من نومه الغريقْ؟
فتحت سارة البابَ ونظرت إلى الفراغ. أخذَ وعيها ينزفُ بشدّة، فمشتْ على دمها مقهورة، وتسارعتْ دعساتُ أقدامها تنحدرُ عن صدر الجبل. نادتها أمها:
لاتغضبي ياطفلتي الحزينة
إن كانت رياحُ الوهم تطرقُ اليومَ بابنا
فربما بعد قمرٍ وسوسنة
يعودُ العصفورُ إلى دارنا.
لكنّ الوادي مدّ يديه بسرعة وتلقف الطفلة الضائعة. تصاعدَ لهاثُ جنونه وهو يضمُّ وحدتها، ويلملمُ صواعقَ روحها الغضة. لهثت نجمة خلفَ جنونه تقاومُ سطوته وتستعيدُ ابنتها من تياراته الغادرة. صارَ مونولوجها أنيناً خافتاً وشجوَ يمامة نائية:
هذه سيولٌ جارفة
أمسكي بيدي ياطفلتي الصغيرة
هذه الرياحُ العاصفة
تنتزع من يدي شالَ الحريرْ
ويسيلُ الدمُ من يدي
ومن سارة
آه! قتلتنا الغرزة الأخيرة؟!
آهٍ ياحبيبي ياغريب!
لو أنك لم ترحلْ يومَ تفتحِ الوردِ
لما تخبطتُ أنا وسارة
في هذه المياه الهائلة.
تركتُ لك شالَ الحريرْ
على الصفصافة الحانية
فيه أخبارُ السنين الماضية
فيه عذابي وأحلامي الزائفة
وفيه طعمُ الدم من جسدي
ومن سارة
عُدْ به إلى البيتِ
وخبئ في ثناياه
عقدَ اللؤلؤ الأبيضْ
وأطواقَ الياسمين الذابلة.
××××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
ألف


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الممثل

26-تشرين الثاني-2010

كتاب المقارنات: حوارات تاركوفسكي أم تداعياته؟!

21-تشرين الثاني-2010

مناجاة للغائب

01-أيار-2010

لصوص الكتب

29-آذار-2010

الهاربون من الجحيم

14-تشرين الثاني-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow