Alef Logo
ضفـاف
              

مرام مصري: الشعر دمر عائلتي ولا أكتب عندما أحب حاورها

قيس مصطفى

2009-02-17


تستطيع مرام مصري تلقين أي أحد درساً في الإنسانية. هي ليست مجرد شاعرة استثنائية تكشف عنها القصائد. إنها طفلة في الأربعينات، تعيش الحياة بالشغب الذي ينبغي. في شعر مرام ما هو جارح في الصميم، وفيه أيضاً ما يبعث على الانتشاء، ويحرض الخيال. إنها امرأة بمثابة ثورة وفي سيرتها كثير من الألم والقصائد المثخنة بالجنون
في الثمانينات نشرت أولى أعمالك الشعرية "أنذرتك بحمامة بيضاء" مع شاعرين هما أخوك منذر مصري والراحل محمد سيدة. لماذا لم تنشري ديواناً خاصاً بك وقتها؟ هل كان الشعر آنذاك فعلاً قابلاً للتشارك ثم انتقل ليصبح مضماراً للاشتغالات الفردية؟
لم أنشر قصائدي في هذه المجموعة المشتركة، وإنما كانت المجموعة "هدية غياب" أثناء وجودي في باريس عام 1982 حينها فاجأني منذر برسالة يقول فيها، إنه نشر كتاب "أنذرتك بحمامة بيضاء" مع محمد سيدة، وهي قصائد كان البعض منها منشوراً في الصحافة، والبعض الآخر ملقى في الأدراج، إذ لم تكن لدي نية أن أصبح شاعرة، بالرغم من أنه ومنذ عام 1979 بدأ بندر عبد الحميد ونزيه أبو عفش وحسان عزت ينشرون لي بعض القصائد في تشرين والثورة، ولكنني لم أكن أعي في ذلك الوقت مسؤولية نشر القصيدة، فقد كنت لاهية عن هذا التوق- أي أن أعرف كشاعرة أو ألقب بشاعرة، ودائماً أقول لمنذر: أنت السبب.. من جهة أخرى يمكن للشعر أن يكون مشتركاً أو جماعياً، وخاصة للمبتدئين، وأحياناً للشعراء الكبار، فهم قد يقتسمون كتاباً واحداً بتجربة مثيرة مثل أي علاقة حب، والأنطولوجيات الشعرية هي أحد أشكال التشارك بالشعر، أو هي نوع من الاحترام المتبادل بين الشعراء، يعبرون عنه فيما بينهم بكتاب واحد، وأنا مع كل مشروع ثقافي أو كتابي يمنح الآخر أفقاً يغنيه، ففي الكتابة المشتركة تختلط مياه البشر مع بعضهم البعض وتتراص أعمالهم ومشاعرهم..
ينظر الكثيرون إلى حقبة الثمانينات على أنها مرحلة شعرية بامتياز، فالبعض يذكرها بنستالوجيا عالية، والبعض الآخر لا يريد تذكرها، لما كان فيها من ضغوط على كافة المستويات الحياتية، وأنت برزت كشاعرة في تلك الحقبة، فما الذي بقي في ذاكرتك منها وكيف انعكست على نصك الشعري؟
كنت خارج نطاق الضغوط التي تحدثت عنها والتي سادت في تلك المرحلة، لا أعرف إذا كنت محظوظة بذلك أو لا، لكني متأكدة بأني لو كنت موجودة في هذا الجو لاختلفت مسيرة حياتي كلها، وبالتالي لاختلفت معها تجربتي الشعرية، لأن تجربتي الشعرية مرتبطة بتجربتي الحياتية، فكتابتي تعتمد على الإنسان والحياة كأفكار وهواجس، ولا تعتمد على مقولات الفلاسفة والأفكار الكبيرة. لو كنت هنا في تلك الحقبة لكان نتاجي الشعري مختلفاً، لقد كنت في فرنسا بعيدة عن كل المناخات والتيارات الشعرية وغير الشعرية التي انتشرت هنا، ولذلك لا أستطيع أن أنظر إلى تلك الفترة بحنين أو بغضب، ولكني أحمل الكثير من الحنين لفترة الصبا، حين كنت أدرس الأدب الانكليزي في سورية. لقد كنت عاشقة، وكانت الحياة أمامي زهرية، وكنت أحمل هاجس الاختلاف، وكان عندي قناعة بأن الحب يتخطى العادات والتقاليد وكل شيء آخر. كانت ثورة تعتمر في داخلي، وكنت أعتقد أن ما أفكر فيه هو الصائب حتى لو كنت أضحي بشيء من نفسي.
من هو محمد سيدة؟ ولماذا لم تكتبي عنه قصائد كما فعل منذر مصري؟
محمد سيدة كان صديقاً لمنذر، كتب عني قصيدة جميلة "كل الدروب إلى مرام مفتوحة حتى الشائكة منها" وكنت صغيرة على أن أعي حساسيته. كان منذر يقول: إنه تعلَّم من محمد سيدة، وأنا تعلَّمت منه كذلك، فنحن أوعية مستطرقة نتسرَّب في العالم. أكنّ له الكثير من المحبة والتقدير، وقد حزنت كثيراً عندما كتب منذر أن محمد سيدة مات. وعندما تبنت إحدى دور النشر الفرنسية المرموقة ديوان " أنذرتك بحمامة بيضاء"، لم يترجموا القسمين المتعلقين بمنذر مصري ومحمد سيدة، فقمت بإهداء الديوان لهما وفاء للكتاب الأول الذي نشر في سورية. لا يمكن نسيان الموتى، فهناك دائماً من يذكرهم، وهناك أبداً ما يذكِّر بهم، لقد كانت ميتة محمد سيدة حزينة، فقد أصيب بضربة شمس، وربما كان قدر الشعراء أن يموتوا بهذه الطريقة الغريبة.
رحلت إلى فرنسا وأقمت هناك، وأنت الآن شاعرة في الأربعينات من العمر، أي أنّ حياتك تنقسم مناصفة بين مرحلتين، إحداهما سورية والأخرى فرنسية. كيف تسوين مسألة الشعر بين الحقبتين، وكيف تقيمين صلات وصل بين ذاكرتين؟ أسألك هنا عن الانتماء.
امتنعت عن الكتابة من أواخر الثمانينات وحتى عام 1997، حيث نشرت "كرزة حمراء على بلاط أبيض"، والواقع أن الساكن بدأ يتحرك في عام 1994 عقب اتصال هاتفي مع حسان عباس. اتصلت أسأل عن زوجته، فرفع السماعة هو، فقلت له أنا مرام مصري، فقال لي: أنت صاحبة "أنذرتك بحمامة بيضاء" وكنت قد نسيت الأمر، فالمكان الذي كنت فيه جعلني أنسى المكان الأول، مثلما جعلني أنسى مرام التي تكتب الشعر والتي تحمل هموماً ثقافية وفنية. في باريس تحولت إلى أم وزوجة، ومرام التي كنتها، اهتمت بالأولاد وبالطبخ والغسيل.. كانت حاجتي للكتابة دفينة وقد بدأت أسد هذه الحاجة عندما أحسست أن هناك من يضعني أمام مسؤولية كوني شاعرة. هناك من ينتظر منك كلمة تفرحهم وقصائد قد يتغير لها يومهم.. أنا من دون شعر لاشيء، والشعر هو كل شيء بالنسبة لي..
تكتبين قصيدة قصيرة وخاطفة، تعلي من شأن التفاصيل.. هل سلوك هذا المنحى في كتابة الشعر نتيجة لاشتغال واعٍ، أم أن هذا النوع هو شكل من أشكال الكتابة الخارجة عن السيطرة؟
الناس متعودون على التشابيه القطعية، لكن قصائدي قصيرة ولا تحتمل هذا النوع من البلاغة الماضية، فأنا أشتغل كثيراً على القصيدة، أنحتها مثل سجين ينحت جدار سجنه بإبرة من أجل فتحة صغيرة.. كذلك ليس كل شيء نكتبه صالحاً، فأنا عندي هدف أساسي يتمحور حول كتابة قصيدة تشابه الأشياء الصغيرة. الشعر يجب أن يكون كتاباً له معنى ومشروع.. لذلك أنسج ديواني مثلما تنسج السجادة. قصائدي في مجموعاتي تعتمد على بعضها البعض، فهي نسيج واحد ومتعدد في الوقت نفسه، وهناك مهارة يحسها البعض، ولذلك اهتمت بكتبي دور نشر كبيرة، دون أن يكون لي أي سلطة، فأنا لست ناقدة ولا صحفية ولا رئيسة تحرير.. حتى أني لا أملك بيتاً، فأنا لا أملك إلا قصائدي.. قدمت للمشهد الشعري شيئاً قابلاً للعيش، أعتقد أنه شيء يحبه الناس ويفهمونه، أنا لا أعرف تلك السلطة التي يمتلكها الشعر والتي يستطيع من خلالها أن يغير مفهوم بعض الناس للحياة، ولكن ذلك الشيء يحصل بقصائد بسيطة، وهذا ما أعتقد انه وظيفة الشعر والفن بشكل عام. إنه يغير العالم للأفضل، ويبث في الناس نشوات جديدة. يبقى نقطة أساسية بأن لغة القصيدة وأسلوبها هو ما يميز القصيدة الجيدة من القصيدة السيئة، وأكبر الأفكار يمكن التعبير عنها بلغة سهلة وبكلمات بسيطة.. أنا أرفض العجرفة في اللغة والحياة، وأرفض الشعر الذي لا يحرك الساكن
هل من طقوس خاصة لديك لتكتبي الشعر؟ وماهي التقنيات التي تحسّين أنك تقومين بانتهاجها عند كتابة النص الشعري، لا سيّما أنك تمارسينها شكلاً خاصاً بك من أشكال اللعب باللغة، حيث تعتمدين على المفارقات وجمع المتناقضات، بالإضافة إلى الاختزال والتكثيف؟ فهل لهذه السمات علاقة بمفارقات وتناقضات في حياتك ذاتها؟
أكتب غالباً في الصباح، ولكنّي أحمل همّ الكتابة 24 ساعة، ولا أحسّ بأني في عطلة أبداً، أحياناً لا يكون لدي ورق وأقلام لأكتب، فعندما لا يكون لك بيت يكون الأمر متعباً، من جهة أخرى أنا شكّاكة في كتابتي، وأراجع ما أكتبه دائماً، وهذا لا يعني أنّي أدين لتلقائية الكتابة، فقصيدة البدء في أحيان كثيرة قد تساوي قصيدة تشتغل عليها ألف مرة، عندما نكتب شيئاً ما نخلق له أذرعاً وعيوناً، أحياناً يكون ما نكتبه كتلة، وأحياناً قد يكون مسخاً، ببساطة يولد الشعر لكي يسيطر عليك، ثم لاحقاً نسيطر عليه، من جهتي هناك نوع من تبادل السلطات بيني وبين النص الشعري، ولا أعرف إذا ما كان ينقص قصائدي الحقد، فالوسيلة الوحيدة التي أمارس فيها سلطتي هي الحنان، فأنا أحياناً قد أكتب قصيدة طويلة، فأضطر إلى أن أحذف، وفي قصيدة المشهد الحياتي تصير أيّ كلمة زائدة انتقاصاً من قيمة القصيدة، أما بالنسبة إلى الأفكار فإنها يمكن لها أن تنقاد من مليون طرف، من البدء والمنتصف، وكلّما تعدّدت الاحتمالات للجملة يمكنك أن تأخذها لتحصل على أقصى شعرية للكلمات، من جهة أخرى لدي شكل للقصيدة، وقالب، ورتم تبتدي وتنتهي به، أنا أشتغل على الكتابة، لأني لست متمرسة، ولذلك أشتغل بتعب، وأحياناً لا تولد القصيدة، فتنمو لدي الشكوك.العزلة ضرورية للكتابة، ومع أنك لا يمكن أن تنسى الآخر، لكنك ستجد أن الارتباطات العاطفية أيضاً تمنع من الكتابة، وتمنع من التفكير، فأنا لا أستطيع أن أكتب أثناء الحب، مثلما لم أستطع الكتابة أثناء علاقاتي الزوجية. ما يهمني هو أن أكون جميلة، فأنا مع الجمال، ولا يهمني الغني والفقير، ولا أيٌّ من تلك الأشياء .. ومع ذلك في وسعي أن أقول إن حياتي مليئة بالتناقضات، وهذا لا يعني أني متناقضة مع نفسي، ولكن هناك تناقضاً بين ما أبدو وما أكتب، لكن المهمّ بالنسبة إلي أن شعري مخلص لي كثيراً، ولا أعرف إذا كان مظهري يخونني، أريد أن أكون صادقة، ليس لأني تربيت أن أكون صادقة، بل من أجل أن أعيش الحياة التي قررتها بسلام، وليست الحياة التي قررها الآخرون.
في إسبانيا استعدت حياة ولاّدة بنت المستكفي لتكتبي قصيدة "العودة"؟ هل كنت بحاجة ماسة إلى نموذج يفرضه المكان ليكون بمثابة استيحاء؟
ذهابي إلى إسبانيا كان نوعاً من الجائزة، فلقد أحبّوا شعري في جامعة غرناطة، وأهدوني إقامة لمدة شهر حتى أتعلم الإسبانية على نفقتهم، وصادف وجود أستاذ تصوير أحبّ أن يصورني في قصر الحمراء، من أجل ديوان (قصائد وصور)، وبدؤوا ينادونني هناك بالملكة، وقد أخذت الأمر على أنه دعابة، ثم أحببت أن ألعب هذا الدور، ولأول مرة أكتب نصاً طويلاً، أما لماذا ولاّدة بنت المستكفي فلأنّي استخدمتها لأقول ما في داخلي على لسانها، استخدمت الكلام العادي ـ كعادتي ـ على لسانها، كنت من دون بيت، وتواقة إلى الحرية، فالحرية بالنسبة إلي شيء مؤلم، أنا امرأة مسجونة داخلياً وخارجياً، أمشي في الطريق وأحسب حساب كل شيء، على كتفي ملايين الهموم، والنساء القديمات جزء من هذه الهموم، فالإنسان يُخلَق وفي داخله تاريخ البشرية، مازلت أتلبّك أمام أخي، وأخاف من حكم الناس علي، ومازلت أخاف من زوجي، أما حريتي الوحيدة فهي في اللحظة التي ألتقي فيها بالشعر، أما ولادة فهي رمز للأميرة الحلوة والعاشقة والمعشوقة والحرة التي كانوا دائماً يشبهونني بها، خاصة أنّيَ سورية، وتجمعني بها أشياء تاريخية، لقد كانت ولادة غنية، وأنا فقيرة، أما الآن فتجمعني بها جمالية النص، فأنا ولادة بوجه آخر.
تنحازين في نصوصك لمصلحة الحياة، وتكتبين نصاً أيروسياً، تعبرين فيه عن معانٍ مختلفة للعري والتمرد، هل هذا جزء من حالة التمرد التي عشتها ؟
أنا كاتبة من دون أية غاية، أؤمن بأن الإغراء أو الآيروس شيء من طبيعة الإنسان بدرجات متفاوتة، ولم أكتب قصيدة بغرض إظهار الأيروس، فهو درجة من درجات الارتقاء إلى نهاية التجربة، فعندما تكتب قصيدة عن الحياة لا يعقل أن يغيب الآيروس عنها، أتكلم عن الخيانات الزوجية، وتلك المناطق التي لم يدخل الشعر إليها، وأكتب عن جماليات الخيانة، وبودّي أن ألفت النظر إلى أشياء حقيقية في الحياة، الجنس مادة من مواد الحياة، لا أنكره عليّ ولا على غيري، والديوان هو مشهدٌ حياتي، كيف أحكي عن حياة امرأة لا توجد فيها هذه المادة، أحياناً أتألم حين أقرأ قصيدة، ويقولون منتشين: آآآآآآه، إنهم ينتبهون إلى هذا الشيء، ولا ينتبهون إلى الألم الفائض في قصائدي، ولا ينتبهون إلى مرآة التجربة، الحب ليس هيناً إنه أمر صعب حتى في العلاقات المستقرة، أسأل ما الذي يؤدّي إلى انفصال البشر عن بعضهم البعض، لقد خسرت بيتي من أجل "كرزة حمراء على بلاط أبيض"، فعندما ترجم إلى الفرنسية استخدم الديوان المترجم كشاهد على خيانتي أمام القضاء، كنت أريد حياة مستقرة، ولكن حياتي العائلية اهتزّت بسبب كتاب شعري، أنا أرى ما أشترك فيه مع الآخرين وأكتبه.
نشر هذا الحوار في جريدة بلدنا















تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

يحاضر في «أربعاء تريم الثقافي» / فراس السواح يقارن بين التاو والديانات الشرقية

24-آذار-2010

مديحة المرهش" عندما تواجه الرومانسية قسوة العالم وفجاجته

17-آذار-2010

الانتظار في زمن الفلافل وبيتزا الفصول الأربعة

28-حزيران-2009

حول مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد.. سوريون وفقط

23-حزيران-2009

السندباد الذي يريد أن يجد اسماً لمدينته المتخيَّلة!!

13-حزيران-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow