Alef Logo
يوميات
              

بالرقص... يقشّرون أوجاعَهم!

فاطمة ناعوت

2009-02-17


في مقالي السابق، الذي بكيتُ فيه جمالَ مصرَ القديمَ حتى الستينيات الماضية، الذي اِستُبدِلَ به الآن قُبحٌ على كافة الأصعدة، البصرية والسمعية والفنية والسلوكية والفكرية والبيئية والسياسية، عاتبني بعضُ الأصدقاء لقولي إن الراقصةَ في أفلامنا القديمة كان راقيةً سلوكًا ولفظًا، قبل أن تدهمَ مصرَ تلك السوقيةُ التي نخرتِ الشارعَ المصريّ، الذي كان بالأمس أحد أجمل شوارع العالم. قالوا في تعليقاتهم إن الرقصَ ابتذالٌ وعهرٌ! وتساءلوا كيف لكاتبةٍ مثلي، جعلتِ المرأةَ والارتقاءَ بها قضيتَها الأولى، أن تقول إن الرقصَ فنٌّ راقٍ؟!
والحقُّ أن لا شيءَ رفيعٌ في ذاته أو مبتذلٌ. الرقيُّ والابتذالُ يحصلان من كيفية تناول هذا الشيء، وأسلوبية صناعته. كلُّ فنٍّ حقيقيّ هو بالضرورة راقٍ، وكلُّ زائفٍ هو ركيكٌ ومبتذلٌ، ولو كان يجسّدُ الفضيلةَ ذاتَها. ذاك أن الفضيلةَ تأبى أن تمرَّ إلا عبر جسر الحقيقيّ، والعكس صحيح.
فالفنُّ التشكيليُّ، مثلا، منجزٌ إبداعيٌّ إنسانيّ. سيكون راقيًا حين يخرج من ريشة فنانٍ حقيقيّ، ويكون ركيكا مبتذلا حينما يتطاولُ عليه مُدّعٍ لا يعرفُ أسرارَ اللون والفضاء والخط. اللوحةُ التي تصوّرُ امرأةً عارية، لن تكون مبتذلةً بسبب مضمونها الذي قد يراه السلفيون باخوسيًّا إباحيًّا، لكنها ستكون ألفَ مبتذلةٍ إذا ارتكبتها ريشةٌ ضحلةٌ غيرُ موهوبة. وإلا فكيف نصنِّفُ لوحات أوجست رينوار؟ لم ير أحدٌ من نقاد التشكيل في العالم في نساء رينوار العاريات أيَّ لونٍ من الإثارة أو الابتذال.




بل على النقيض من ذلك، حُسبَت له براعتُه في تجسيد براءةِ حواءَ ورقيِّ أنوثتها. ذاك أن ريشتَه المدهشةَ تجبرُ عينَ المُتلقي ألا تتوقفَ عند العُريّ، بل تخترقه إلى حيث الجوهر الفاتن الشفيف للأنثى في أجلى مستويات صفائها الروحيّ والجسدي. هنا فنٌّ حقيقيّ. ومن ثَم هنا رقيُّ وعلوّ. الشيءُ ذاته ينسحبُ على كافة الفنون، مثلما ينسحب على الرقص، بكلِّ ألوانه. أصدقاؤنا الغاضبون الذين لم يروا في الرقص إلا صدورا وخصورا، لم ينظروا إلا إلى القشرة التي تحمي جِذْعَ الشجرةِ من الرطوبة والحشرات. لكن فتنةَ الرقص، تكمنُ في نَسْغِه الخبيئ، المُحاط بألفِ سياجٍ لا يقدرُ على اختراقِها إلا عينٌ مدربةٌ على تعاطي الفنِّ وتقديره. من قُدّر له أن يزورَ شعوبَ أمريكا اللاتينية يعرفُ كيف حَلَّتْ تلك البلادُ الفقيرةُ مشاكلَها الوجوديةَ، بل والاقتصاديةَ بالرقص. تصوروا أن بلدًا فقيرا مثل فنزويلا دخل موسوعة جينيس بوصفه الشعبَ الأكثرَ سعادةٍ في العالم! رأيتُ بعيني كيف يكدّون بالنهار، وبالليل يقشّرون عنهم أوجاعَهم بالميرينجي والسالسا والسامبا! واذكروا معي كيف وظّف هنريك إبسن رقصةَ التارنتيلا الإيطاليةَ في "بيت الدُّمية" ليمهّدَ لصفقة بابٍ هزّت أركانَ الدنيا، لتعلنَ أن المرأة ليست دُميةً، بل كيانٌ راقٍ بديع يستحق أن يُقَدَّس. واذكروا أيضًا تانجو التي رقصها آل باتشينو في "عطر امرأة" وهو كفيف، ليعلّمنا أن الرقصَ مُهذِّبٌ الروحَ. وانظروا كيف جعل يوسف شاهين الرقصَ يعالجُ أدرانَ النفس، في فيلم عن العلاّمة ابن رشد. ثم انظروا الآن إلى نيللي كريم، كيف رسمتْ تابلوهاتٍ فادحةَ العذوبة على موسيقى "انت عمري" لعبد الوهاب. صنعت الباليرينا النحيلةُ برقصتها لوحةً شرقيةً غربيةً رعوية بدويةً هنديةً أسبانيةً. في ثلاثِ دقائقَ قدّمت لكَ العالمَ. العالمَ الأجملَ الذي لم نره بعد.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

يا الله، من رسم الخطوط حول الدول؟ ترجمة:

07-تشرين الأول-2017

«الشاعر» هاني عازر

20-تموز-2014

نوبل السلام لأقباط مصر

28-حزيران-2014

هنركب عجل

18-حزيران-2014

النور يعيد السيدة العجوز

11-حزيران-2014

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow