Alef Logo
يوميات
              

غزة والدورُ الإعلاميّ للصورة

أمل عريضة

2009-02-18


رغم تعدّد وسائل الإعلام وتعدّد أدواتها وطرائقها وتقنياتها فإنّ وسيلة أو أداةً ما تطغى في فتراتٍ معينة وتزدهرُ، وهذا لايعودُ فقط إلى مدى نشاط وتكرّس المؤسسة التي تنتجها وإنّما أيضاً إلى ظروف المتلقي. وسط ضجيجِ الكلمات وصراخها العقيم انصرفَ الكثيرون عن متابعة السياسة، وتوقفوا عن الإيمان بأشياء كثيرة. كان لابدّ لغزّة الجريحة النازفة أن تجدَ لساناً يوصلُ صوتَ أنينها إلى العالم. هكذا برزت الصورة بقوّة كأداة تواصلٍ مباشرة وجليّة وحاسمة. التقطها المصوّرُ بسرعةٍ وأرسلها إلى شاشات التلفزة والصحفِ والانترنت.. بضعة صورٍ من الواقع اليوميّ للإرهاب الصهيونيّ والنزف الفلسطينيّ لادورَ لتقنيةِ المصوّر في انتقائها أو معالجتها تجاوزت ماأنتجه المعجمُ الإنسانيّ وماتخطّه الأقلامُ المدرّبة. لحظاتٌ فقط أمام شاشة التلفاز أو بريدنا الإلكتروني كانت كافية لنبكي طويلاً.. لنعترفَ بضعفنا وعجزنا كمتفرجين سلبيين. صورة واحدة لطفلةٍ مخترقة بالرصاص أو مبتورة الأطراف جرّدت كلماتنا –نحن الذين نحيا بالكلمات- من وظائفها. كلُّ ماكُتبَ مجرّد ثرثرة. لم نكن مصدراً لعزيمة أهل غزة ولم نفضح حقيقة الكيان الصهيونيّ كما فعلتِ الصورة.
صورٌ واضحة لاتحتملُ أكثرَ من تفسير، ولاتخضعُ للعبة الكلمات. جعلتِ الكثيرين من المؤمنين بإسرائيلَ غيرَ قادرين على تجاهل عنفها الإجراميّ. يقولُ الأمريكي آرون ديفيد ميلر في مقالته في النيوزويك (إن كان أوباما جدّيّا): إنّ ماتفعله إسرائيل يقضي على آخر فرصةٍ للسلام، وهذا يضرُّ بمصالحها ومصالحِ الولايات المتحدة الأمريكية، وقد صارت هذه مكروهة في كل العالم بسبب دعمها لإسرائيل. ويرى ميلر أنّ على أوباما أن يعاملَ إسرائيل بشدة تماما كما يعامل العربَ ليفرضَ السلامَ في الشرق الأوسط.
كذلك يلاحظُ المراقبُ ل (سي ان ان) بعضَ التغيّر في الخطاب تجاه موضوع غزة. ففي الأيام الأولى للعدوان اعتمدت نشراتُ الأخبار على مصدرٍ واحد هو إسرائيل، و ركّزت على تصوير معاناتها في مواجهة الإرهاب الفلسطينيّ وصواريخ حماس. في آخر النشرات فقط جاءت إشاراتٌ مقتضبة إلى حصيلة الضحايا الفلسطينين. أمّا في الأيام الأخيرة للعدوان فقد راحت هذه الأرقام تتصدّرُ النشرات مع تفاصيلَ عن حجم الدمار واعترافٍ بأن إسرائيلَ لم تسمح للصحفيين الغربيين بدخول غزة أثناءَ عمليتها، ولأول مرة راحت بعضُ الأصوات تحمّلُ حماسَ وإسرائيلَ معاً مسؤولية ماحدث، ورغمَ أنّ هذا لايسرّ معظمَ العرب الذين يرون قضيتهم واضحة لالبسَ فيها، إلا أنه يعدّ تطوّراً في الرؤية والتعامل مع قضية غزة.
قلّما يهتمّ الشعبُ الأمريكي بالسياسة، وذلك ليس راجعاً إلى ذهنيته أو ضميره اللامبالي، وإنّما بسبب نمط حياته المزدحمة بالعمل من جهةٍ، وإلى اتساعِ رقعةِ الولايات وضخامةِ حجمِ الأخبارِ المحلّيّة الذي يستغرقه من جهةٍ أخرى، وإن قدّرَ للبعض أن يهتمّ بالسياسة الخارجية فإنّ معرفته غالباً ما تبقى ناقصة أو مغلوطة.
تقولُ لي الأستاذة الجامعية برَين: "لاأفهم ماذا يريدُ الفلسطينيون من إسرائيل! لماذا يقاتلونها؟" وتضيفُ في يومٍ آخر: "أخشى أنّ أوباما لن يلتزمَ بأمنِ إسرائيل كسابقيه مما يعرّضُ الولايات المتحدة لمشاكلَ كبيرة". عباراتٌ مثلُ هذه تكشفُ أنّ إسرائيلَ من أهم الأولويات في أمريكا سواءٌ آمنَ الجميعُ بها أم لم يؤمنوا. شعوري أنّه لايمكن الاعتماد كثيراً على الرأي العام في أمريكا، بالإضافة إلى اعتقادي الراسخ أنّ الحكومات الغربية لن تكفّ يدَ إسرائيل عن اقترافِ المجازرِ عرّضاني لإحباطٍ وخوفٍ وحزنٍ ماكان لأيّ كلمةٍ أن تنتشلني منهم، لكنّ ماقالته الأستاذة ظلّ يقظاً داخلي: "إبانَ حربنا مع فيتنام لم نكن نعرف ما تفعله أمريكا هناك. الطلابُ الأجانب الذين كانوا يدرسون هنا نقلوا إلينا الحقيقة، وجعلونا نقفُ ضدّ هذه الحرب ونطالبُ بإنهائها". هكذا رحتُ أرسلُ مايصلُ إلى بريدي الالكتروني من صورِ مجازرِ غزة إلى كلّ من أعرفُ شاعرة أنّ الصورة أبلغ من الكلمات ولاتأخذ وقتاً من متصفحيها المشغولين عن السياسة. لمّا بدأت ردودُ زملائي من قومياتٍ مختلفة تصلني لتخبرني أنهم بدورهم أرسلوا الصورَ إلى معارفهم أحسستُ أنّ عملي البسيط والذي قامَ به الآلافُ أيضاً له قيمة كبيرة، وشعرتُ بامتنانٍ عميق لمعدّي هذه الصور، فقد كانوا صحفيين مجهولين ساهموا بإيصال صرخة غزة إلى العالم.
أكثر مااستوقفني من هذه الأعمال التي دارت العالمَ خلالَ ثلاثةِ أسابيعَ ملفُّ صورٍ يقارنُ بين ماتعرّض له اليهودُ من مذابحَ على يد النازية إبان الحرب العالمية وماتعرّضَ له الفلسطينيون اليومَ على يدِ الإسرائيليين، مع إشارة ذكية من معدّ الصور إلى أنّ أحفاد الناجين اليهود من المحرقة النازية هم ذاتهم قتلة الفلسطينيين. تمنّيتُ أن تصلَ هذه المقارنة إلى كلّ إسرائيليّ ليدركَ أنّ جرائمه البشعة في فلسطين عامة وغزة خاصة ربّت وستربّي الحقدَ في نفوسِ الناجين تماماً كما رعى ظلمُ النازية له النزعة إلى القتل. أردتُ أن يعرفَ أيَّ عدوٍّ يواجه، فماتعرّض له الفلسطينيون منذ الثمانية والأربعين حتى الآن فاق كثيرا ماعاناه اليهود خلال الحرب العالمية.
كانت سيناريوهات الموتِ الجماعيّ في غزة مؤلمة أكثرَ من أيّ شيء عرفناه. مع ذلك رأينا شعباً يموتُ ولايهتم. أثارنا أحياناً استخفافُ قادة المقاومة في حماية أنفسهم ورفضُ بعضهم مغادرة بيوتهم وهم يعرفون أنّهم مستهدفون. قلنا إنّهم قليلو الحرصِ واتهمناهم بالعناد والتهوّر وربما الغباء، لكنّ صوتَ امرأة تظهرُ على شاشة التلفاز تهتفُ بصلابة: "لاتخيفنا المجازرُ.. لقد اعتدناها" تذكّرنا أنّ ماقاساه هؤلاء الفلسطينيون من الألم يفوقُ كلّ خوفٍ أو حرصٍ على الحياة. عبد الرحمن منيف.. هذا الروائيّ العظيمُ.. ألقى بي يوماً إلى القاعِ العميقِ للخوف، ثمّ جذبني وقد امتلأتُ بماءِ الحياة وعنفوانِ التحدّي والحرّية. خضّتني روايته ( شرق المتوسط). أيقظتِ الشكَّ ببشريتي وقيمتي الأخلاقية. كنت أقرأها وقلبي يرتعدُ خوفاً من أصناف العذاب التي يتعرّض لها السجين السياسيّ في شرق المتوسط. أما الجزءُ الثاني (شرق المتوسط مرة أخرى) والذي حَفلَ بمشاهدِ تعذيبٍ مريعةٍ بكلّ معنى الكلمة فقد اضطرني لتقنين قراءتي كي أقوى على الاستمرار: صفحة ونصف كلّ يوم من شرق المتوسط مع حبّة مسكّن قويّ.
أخمدَت حبوبُ المسكّن الصداعَ، وقرّرتُ أن أمحوَ من قاموسي مفردات الثورة والنقد والمقاومة، وأقسمتُ ألا أحشرَ أنفي في السياسة، لكنّ اكتشافَ خوفي ومدى جبني راحا يؤرّقاني ويوجعاني أكثر. أزالت حبّة الأسبرين القناعَ عني. صارت عاراً يفضحُ خيانتي. وككلّ خاطئٍ يحبُّ أن يرى انتشارَ الخطيئةِ حوله سررتُ أيّما سرورٍ بأستاذي الدكتور عبد النبي اصطيف وهو يقول لنا في محاضرته عن أدب منيف: "أتحدى أيّّ إنسان أن يقدرَ على قراءة أكثر من صفحةٍ ونصف من شرق المتوسط دون أن يتناول حبّة أسبرين".َ هكذا تآلفتُ مع جرعاتي اليومية ولم أعد أخجلُ منها، ثمّ بدأتُ ألاحظُ أنّ جسدي الذي ارتشف –تخيّلاً- كلّ فنون التعذيب أخذ يعتادُ على وجعه، ولاحظتُ أخيراً أنني والمساجين مازلنا أحياءً رغم كل شيء، فشعرتُ باللامبالاة تجاه مايخترعه السجّانُ من جنون القمع والتشفي، وامتلأت فجاءة بالتحدي: "لن يقتلَ الأوغادُ إنسانيتنا وأحلامنا".
مافعلته إسرائيلُ مع غزة يشبه إلى حدّ كبير ماتركه منيفٌ بي من أثر مع فارق واحد.. منيفٌ كاتبٌ محرّرٌ وإسرائيلُ قاتلُ أطفال يختالُ ويتباهى بإبداعاته الوحشية.
في حوارٍ على الجزيرة حاولَ هيكل بإصرارٍ كبير التأكيدَ أنّ غزة محاصرة وليست محتلة. تهتُ في استطراداته ولم أفهم مايريدُ. هل يسقطُ حقَّ الفلسطسينيين في المقاومة والقتال و قد صار لهم دولة مستقلة؟ أم يقصدُ أنّ حصارَ المدن مجرّدُ استراتيجية عسكرية ومناورة يتبعها بلدٌ مع أعدائه؟ لم أفهم حقاً مايريدُ، ولن أجازفَ بتفسيراتٍ ما قد تسيءُ إلى صحفيّ كبيرٍ مثله، لكنّ الفكرة حرّضت سؤالاً آخرَ عندي: إن أقرّت الأممُ المتحدة والعالمُ أجمعُ أنّ على أهل غزة الرضا بدويلتهم المحاصرة هل ينتهي حقُّ الفلسطينيين بالمقاومة والعمل على تحرير أرضهم كاملة؟ أيملك الآخرون الذين يتنزهون في ردهات الأمم المتحدة وقاعاتها الفخمة أن يقرّروا تصفية مقاومة شعبٍ عانى أشدّ وأقسى أنواع الظلم والحرمان، ومهما كان اتجاه قيادة المقاومة الدينيّ والسياسيّ؟
إذا كانت إسرائيلُ قاتلة الأطفال تستخفُّ بتلك القرارات إن جانبت مصالحها مرة ولا تعاقَبُ، أليس أولى بالضحية التي صمّ الجميعُ آذانهم عن صرخات ألمها طوال ستين عاماً أن تقرّرَ موتها بنفسها إذ رأت في هذا الموت حياة للفلسطيني القادم؟
يقولُ درويشُ الراحلُ المقيم:
"غزة لاتتقن الخطابة. ليس لغزة حنجرة. مسام جلدها هي التي تتكلّم عرقاً ودماً وحرائق.
من هنا يكرهها العدو حتى القتل، ويخافها حتى الجريمة، ويسعى إلى إغراقها في البحر أو في الصحراء أو في الدم.
غزة من مواليد النار ونحن من مواليد الانتظار والبكاء على الديار.
لاهو موتٌ ولاهو انتحار، ولكنّه أسلوبُ غزة في إعلان جدارتها بالحياة".
هكذا كان لابدّ لغزة العائمة فوق بحيرات الدم.. الممزقة الأغصان.. الصابرة المتكبّرة أن تطوّرَ أو تخلقَ أداة مناسبة توازيها صدقاً وبساطة وأنفة، فجاءتِ الصورة فريدة في تأثيرها وتحدّيها للكذب السافر. أوصلت دون ضجيجٍ وغوغاء رسالة أهل غزة: موتى يعلنون المقاومة والقيامة.



أمل عريضة

0949533758

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الممثل

26-تشرين الثاني-2010

كتاب المقارنات: حوارات تاركوفسكي أم تداعياته؟!

21-تشرين الثاني-2010

مناجاة للغائب

01-أيار-2010

لصوص الكتب

29-آذار-2010

الهاربون من الجحيم

14-تشرين الثاني-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow