Alef Logo
يوميات
              

فارغة كأسك يا عمرو..

بسام القاضي

2009-03-03


*- مهداة إلى "عمرو الخير": 1966-2009
فارغة كأس الذكريات.. باهتة وتافهة وهي تبحث على حوافها فلا تجد بصمتك التي كانت صغيرة ذات يوم، وتلاشت.. بالضبط كما سبق أن تلاشيتَ مرات ومرات.. ربما بأكثر مما يمكن لقوانين الرياضيات والفيزياء، تلك التي عشقتها، أن تحتمل!
فارغة عيون البحر.. زعيق النوارس.. تمايلات السرو.. ورائحة بيارة الليمون المسورة بأصداف تناثرت صدفة في طريق طويل ممتلئ بحفر الطين والماء..
فارغة كل الكلمات التي تدور وتدور.. كحمار على طاحون، أو: كأنت وأنا على نير طاحون لا تطحن ولا تذر.. ولا تترك من أثر سوى: أنت وحدك.. كما كنت دائما.. كما حاولت أن لا تكون دائما.. وكما فشلت في أن تنسى أبداً..
فهل غادرتَ الآن؟!
دعك من هذه الألعاب.. صحيح مضى زمن طويل منذ فرقنا زمن أغبر: أرسل بك إلى حيث لا تنتمي، ولم تنتمي، ولن يكون بإمكانك، حتى في جثتك، أن تنتمي.. ورمى بي حيث لا أنتمي، ولم أنتمي، ولن يكون بإمكاني أن أنتمي حتى في جثتي.. وليس بين المكانين إلا تراب بتراب، وليس بين السببين إلا... وجع لا يفارق..
دع عنك هذه السخرية.. أنت من كره الصورة التي لا تأكل وتتحرك وتشرب وتصرخ وتمارس الجنس.. فكيف تذهب هكذا.. وأمامك تلفزيون شغال؟! سمجة هذه المزحة.. ولكنك سمج أنت! من سمح لك أن ترتمي خلف المكتبة الصغيرة؟ من سمح لك أن تترك قطرات الماء على زجاج النافذة يسيل ليمحو وجهك؟! كيف استطعت أن تمضي الآن؟ سمج أنت.. ولا يغفر لك أبدا أن وجعك.. لا يفارق..
دعك من نفسك.. من نزقك وعصبيتك.. لا يهم.. لم يكن يهم أصلا.. كيف لريح أن تعبرك؟ ألم تلتحفها يوم أمسكتَ.. ومضيت؟ كم من المضي ستمضي قبل أن تعيد فتح أجفانك.. لترقص مجددا على شاطئ صخري معتم.. وأجرد؟ دع.. ولا تعد.. لكن دع..
ولكنك فارقتَ! هكذا أنت: أنت اعتدت أن تفارق.. حتى أنك نسيت كيف لا تفارق!.. نسيت أنها هناك، هي، تلك.. في شهقة ما من تلك الشهقات الصافرة الطويلة التي لا تنتهي.. وربما، فقط ربما، في غرفة صغيرة ما على سطح تائه ما، حيث ما تزال رائحة جسدك المتعرق ألما تطغى على رائحة الصنوبر.. يمكن لك أن تستعيدها.. إذا رغبت! هل ترغب؟ أم...
فارغة كأس الذكريات يا عمرو.. لم تنفع صناديق الكحول أن تملأها.. لم تنفع آلاف الكيلومترات.. ولم تنفع أحلام قديمة بعالم مختلف.. اختلف.. وخلفنا وراءه..
فارغة كأس الكلمات يا عمرو.. لم تنفعك كل الشتائم التي اجتهدت في اختراعها كي تخفيك (كم شغلت نفسك بأقنعة لا تنتهي؟ كم نزّ الدم من يداك وأنت تحوك وجوها مختلفة لا يقبلها وجهك!).. كيف تخفي كل ذلك الفواح فيك (أيْ فواح.. يا لون الأصيل المتراقص في غروب ساحلي بعيد بعدك!).. كي تخفي كل تلك الهشاشة الرقيقة التي طالما أزعجتك (ليتك تذكرت! ليتك لم ترم أن تنسى!).. كي تخفي كيف تبكي كطفل (وبقيتَ..).. وتتمنى كصبية (وحلمتَ..).. وتحرد كعاشقة (ونسيت!..)..
فارغة كأسك يا عمرو.. كيف لها أن تمتلأ وأنت من رسمت، ذات مساء، حكاية غريبة عن عالم يقدر مَن فيه؟ وعرفتَ، أنت عرفتَ مبكراً، أنك ستموت وحيدا في مكان بعيد.. بالضبط.. كما ولدت وحيدا في مكان "بعيد".. وكما أمضيت كل تلك السنين وحيدا في مكان "بعيد".. وكما كنت أنتَ، فيك، بعيد..
أي الذكريات أقرب إلي؟! أيها ستعبر بوابة لم تعرف كيف تنغلق، وهي تتزاحم كماء..كهواء.. كشهيقك! وأيها أقرب إليك وأنت تستعيد، في لحظاتك الأخيرة، ذلك الشريط الطويل العاصف؟! (هل حقا يحدث ذلك؟ أكنت سعيدا وهو يعبر؟ أكنت سعيدا وهو يعبر سريعا؟ أكنت سعيدا وأنت.. تعود أنت؟!).
وهاأنت قد فارقتَ! لا بأس.. لن ألومك! رغم أنك كنت وعدتني ذات عصر، على شرفة ضائعة في مدينة عرفت كيف تقدرك وتنفيك إلى وطن عرف كيف لا يقدرك.. وينفيك! كنت وعدتني أنك ستعود.. لم يكن إبحارك بعد.. كانت المسافة هي بين قاسيون الأحمق، حيث طُعنت في الوجه وفي الخلف، وبين جبلة.. حيث احتُضنت وجها وخلفا.. بين حلمٍ أن تحلق وتشهق.. وبين حلم أن تشهق.. وتعيش!
وما أهمية أن تعد؟! لا شيء. كم وعدتك ولم أف؟! كم وُعِدتَ ولم توفى! كم وعدتَ ووفيت!
كأسك فارغة عمرو.. وكأسي مغزول بخيوط العنكبوت.. وهناك.. بالقرب من صف السروِ.. هناك.. حيث سريرين ضئيلين بقدر قامتك التي كانت ضئيلة.. حيث غرفة صغيرة بقدر صبرك الذي كان صغيرا.. ما تزال آثار غضبك العارم مشرعةً: ولكنه وطني!!
لم يخنك "وطنك"! لم يكن وطنك أصلا! لم يكن لك وطن.. صادف أنك كنت هنا.. وصادف أنك لم تنسى أنك كنت هنا! فهل صادف أن ناخ على صدرك، بثقله الذي لا يقاوم، هناك؟!
كأسك فارغة يا عمرو.. وكأسي موسوم ببعض من صمتك وصوتك.. لا حزنك سيفارقني.. ولا فرحك الكاذب.. لا صمتك المخاتل.. ولا صوتك الهادر.. لا رائحة الياسمين.. ولا الندى المتسلل خلسة من عينيك القلقتين.. فأين سأذهب؟!
أسئلة عملياتية:
- من سيعيد الآن تصحيح سلم العلامات في المعهد العالي للعلوم التطبيقية، حيث أتقنوا فن تدميرك.. وأتقنت فن بقائك صامدا في وجه التدمير؟
- من سيسدد الآن "ديون دراستك" لحكومة رفضتك جملة وتفصيلا.. وأنكرتك جسداً وروحا؟
- من سيقف اليوم بوجه "وجوه الشيطان" التي وقفتَ ذات يوم بوجهها، في ثانوية ضائعة حملت اسم: محمد سعيد يونس، ومددت ظلالك على ساحتها الفارغة؟
- من سيسترق النظرات، بعد، إلى القامة الممشوقة.. ويدعي أنه لا يهتم؟
- من سيقلب الطاولة الآن على من يأكل.. و"يلقمس"؟
- من سيقارن اليوم بين أنواع الكحول.. ويصرخ: كلها بنت زانية.. آه من بنات الزنى؟
- من سيصمد ساعات ليقنعني أن أفضل ما أعمله هو أن أفلح.. وأربي البقرات؟
- من سيرمي الدفاتر في وجهي صارخا: ألف مرة قلتلك لا تلبس صوف.. ما عاد فيني اقعد جنبك؟
- من سيتحدى أن يقرأ خمس صفحات في خمس دقائق.. ثم يتلوها غيبا؟
- من سيقول، في لحظة هاربة: أي امرأة ستحتمل أن تحبني؟ لا أستطيع تحمل ذنب ذلك!
- من سيكتب في دفتري الكبير: "سنفترق يوما ما.. وسنلتقي.."!
- من.............
بسام القاضي: موقع نساء سورية

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

كفاكم لعبا بمصير سورية.. المخرج الوحيد هو قانون أسرة عصري على أساس المواطنة

18-تشرين الثاني-2009

فارغة كأسك يا عمرو..

03-آذار-2009

نحن نحجب وأنتم تدعموننا / من واشنطن إلى دمشق: نشدّ على أياديكم!

30-آب-2008

دموع.. بلا ندم!

01-حزيران-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow