Alef Logo
كشاف الوراقين
              

الرقيب... قارئ لا يسمع ثرثرة الأزهار على اللوحة

محمد العباس

2009-03-04


يفتش عن ساق امرأة مكشوفة ليسدل عليها تنورتها. أو قنينة شراب ولو فارغة ليحطمها. أو كائن تفوّه بعبارة انحرفت يساراً، عن غير قصد، ليصمه بتهمة الماركسية، وتحدي الذات الإلهية. والمثير للدهشة والشفقة والقهقهة، أن هذه المطاردة الضارية لا تحدث في الشارع، بل داخل نص أدبي يتفنن الرقيب في تحويله إلى مصيدة لكل من تــــسوّل لـــه نفسه الترويج لشاعرية الحياة، وجمال الوجود، فهذه هي هوايته قبل أن تكون وظيفته. ولهذا السبب بالتحديد يأتي اسمه دائماً مقروناً بالمقص والسيف والعصا والسقف وكل ما يوحي بتكميم الأفواه وخنق الأنفاس وتقطيع الأوصال. وغالباً ما تتم معادلته بالسجّان والحارس والجاسوس، لأنه يتلصص على النصوص كمن يتفحّص محضر مضبوطات أمنية، فالنص كما يستقبله وعيه البوليسي، ليس أكثر من شقة مكتظة بالمنكرات وأدوات الانحلال، يحتلها أعداء المجتمع من المجرمين وحثالة الثوريين والمارقين على الدين، ومهمته هي فضح ذلك الخبث المدسوس بين السطور.
هكذا يبدو النص بالنسبة له، فهو لعبة بين الذكي والأذكى. فإذا أوكلت إليه مهمة قراءة رواية خاصم أبطالها وحاكمهم كمخلوقات حية مجسّدة. ولو قدر له لفتش ضمائرهم. وإذا وقعت بين يديه قصيدة شعرية ظنها رسالة ملغومة لا يستطيع فك شفراتها المستغلقة إلا وعيه المحقون بالحس الأمني. وإذا صادف لوحة فنية تقمص شخصية فرويد وصار خبيراً بالليبيدو، ومحللاً نفسياً لنوايا الفنان الدفينة، فهو بقدر ما يعتبر كل تجمع ولو بين الأصدقاء مخطط مبيّت لثورة، يتوجس من كل الخطوط المنحنية وحتى استدارات الفواكه باعتبارها إحالات جنسية مدمّرة. وبموجب هذا الترصّد المبيّت تتضخم أناه التعقيمية ليتلبس دور الواعظ المنذور لهداية الضالين من البشر، كما يتصدّر دور ضابط إيقاع وأنفاس الناس لتخميد كل محاولات تثويرهم وتهييجهم. وبالتأكيد لا تتوقف اسهاماته التطهرية عند دور الجلاد الذي يمدد النصوص ومنتجيها على سرير بروكست ليمارس عليها كل أصناف التعذيب ليستل منها اعترافاً بفسوقها وانحلالها، بل يصل الأمر به حد «الإستئلاه» بصفته المرجع المسؤول عن تحكيم المعايير الثيوقراطية.
الرقيب قارئ غبي، بل هو أغبى قارئ يمكن أن توكل إليه مهمة مقاربة المنجز الإنساني، فهو لا يعرف معنى «لذة النص» كما كان يستمذقه ويستأنس بتنويعاته الأنثوية رولان بارت. ولا يمكنه الاستمتاع بالحقيقة، أو الفرح بمعانقتها، عندما يرتطم بها حسه التلصصي، لأن مهمته في الأساس هي شنق النصوص واستتابة أصحابها، والتنكيل بهم، أي معاداة الحقيقة ومصادرتها، لا العمل بها. وكل أدواته مجبولة على تصيّد الجمال واقتياده إلى ملفات البيروقراطية، ومساءلة الذوات المنتجة لبهجة الحياة، والزج بهم في المحاكم والسجون، بعد تبشيعهم أمام الملأ، وتنفير الناس منهم ومن أصواتهم ونبراتهم وملامحهم، وكأنه لا يعلم أن محكمة التاريخ ومزبلته إنما هي أماكن إقامة الطغاة لا المبدعين.
مسكين هذا الكائن الذي استمرأ عادة البصق في مجرى «النهر ـ النص» الذي يشرب منه، فقد قايض وعيه وإحساسه وكيانه كله بصفقة فاوستية خاسرة، حيث رهن كل خبراته وذكاءه لتضييق وساعات «النص ـ الحياة» ليتمكن من مطاردة كل ما يشتبه في كونه مظهراً من مظاهر الحرية، ويتأهل كقناص محترف للفتك بالطيور المحلّقة والمغردة داخل النص، وإرباك رنين العبارات الرشيقة، وشل قدود النساء المياسة. وربما لا يحتمل حتى مشهد أكف العجائز المرفوعة إلى الله بالدعاء، فهو عدو صريح لكل ما يتمايل أو يتراقص أو يتبرعم أو يُطرب أو يحرّض، على اعتبار أن كل ذلك التمثل الجمالي مجرد عورات ينبغي أن تمر عبر مضائق رقابته، فهو مثل الهواء الفاسد الذي يتفشى ويستشري كطقس قاتم لدرجة لا يمكن تجنب إمكانية تنفسه.
ليس من المستغرب أن تظل الحياة العربية معتمة، بلا طعم، ولا ألوان، ولا إيقاع، فقد قطع الرقيب أوتار مرسيل خليفة لأنها كانت حنونة أكثر مما ينبغي عندما تأرجحت على إيقاعها ترنينة محمود درويش الحزينة «أنا يوسف يا أخي». وأعيدت كلمات موسى حوامدة إلى حنجرته لأنه ذات إغفاءة كان يهلوس ببراءة الطفل «أستحق اللعنة»، ولم يكن يعرف أنه حتى عندما غير عنوان أنشودته إلى «شجري أعلى» لن يكون بإمكانه تمديد أغصانه خارج الهوامش المسموح بها. أما ممدوح عزام فقد اقتيدت كلماته التي أراد من خلالها تشييد «قصر المطر» للمثول أمام محكمة تأديبية، لأنها لم تبد شيئاً من التأدب أمام قامات الأغوات. وكادت أن تُفقأ عين حلمي سالم لأنه تجرأ وأطل على العالم من «شرفة ليلى مراد». وهكذا كان المنفى والتفريق في المضاجع والأوطان مصير نصر حامد أبو زيد لأنه آمن بالنص واختبره على محك الدرس الألسني. كما تحولت «وليمة» كانت في الأصل معدّة لأعشاب البحر، إلى مبصقة، بعد أن عجز الرقيب عن الحد من سحر مفعولها فألّب الرعاع ضد كاتبها حيدر حيدر، إذ لم يستنكف أحد من أصحاب الجرائر الأدبية أو اللاأدبية عن رميه بالحجر والشتائم. وبمجرد أن حاول سمير اليوسفي إعادة محمد عبد ولي إلى واجهة الحياة، ويعلن من خلال النص أن «صنعاء مدينة مفتوحة» كانت صنعاء المدينة - النص تتعرض للإغلاق والمصادرة. الرقيب مهما اختلفت حضوراته، ومهما تنوعت مهامه، بل ومهما اتسعت صلاحياته ومداركه يظل كائناً ضيق الأفق، محدود النظرة، غبي بالفطرة لأنه لا يعاند حاجاته الغريزية للحرية، وضرورات تصعيد منسوب آدميته وحسب، بل يضع إمكاناته المادية واللامادية في وجه التاريخ، فالجدانوفية والمكارثية ومايشبه توحشهما في الحياة العربية لم تكن سوى مقدمات للطخة عار سوداء في جبين الإنسانية، والتاريخ العربي يشهد بأن رائحة لحم ابن المقفع المشوي الذي أريد من خلال تقديده تجاوز نكهة الكتاب المحروق، صارت أطيب كلما عتّقها عبق التاريخ، وأن كل ما توارثه الرقيب العربي من غباء وهمجية ومن وعي قاصر صار مصيبة حضارية موجبة للتخلف، بكل ما تعنيه الكلمة من كارثية، فما زال هذا الوعي الموبوء بالشك في كل شيء غير قادر، ولا مؤهل لتبيان فلسفة الحد الرهيف الفاصل بين ما يمحو الحلاج من بنية جسده الرمزية وما تكشف عنه هيفاء وهبي من لحم فائض بدلالات الفرجة واللذة وفقر المعاني، ولذلك لن يعي أن «الخبز الحافي» الذي سوّاه محمد شكري على جمر لوعته سيظل زاداً روحياً عابراً للتاريخ تتخاطفه الأجيال.
كل عقل الرقيب شك، وليس بعضه، خصوصاً النسخة المحدّثة من الرقباء، الذين تم تأهيلهم وفق مواصفات العولمة، لتمكينهم من التعامل مع متطلبات الفضاءات التداولية، إذ تم استجلاب بعضهم من حقول ثقافية متقدمة بعد منحهم صفة أصدقاء الإبداع، ولذلك لم يعد من المستغرب مصادفة من لديه القدرة على إتيان غوصات عميقة في مناطق لاوعي الكاتب، ومن يتقن بالفعل الهرمنوطيقية بأقصى تجلياتها الأبستمولوجية، وبالتالي اكتسب حق وشرعية تأويل النصوص لكي لا يتهم بأنه يقوّل أصحابها، بمعنى أن الرقيب تمت ترقيته بما يكفي ليصبح مثقفاً من الطراز الأول، وإن كان هذا التصعيد لا يعفيه من كونه مجرد أداة بليدة في طور الاستخدام، مهما تم تعديله وراثياً، ومهما تفننت ذهنية الرقابة في استعراض آخر موديلاته المعولمة.
الرقيب كائن ثقيل الظل. بطيء الحركة إذ لا يمكنه التجوال بوعي أو إحساس حر داخل النصوص، لأنه قرر بعناد الأبله أن يأسر عقله وضميره في ظلمة وعفن حذاء همجي ثقيل ليدوس به على الكلمات والفواصل والنقاط، بدعوى التفتيش عن عورات النص الأخلاقية، وعما توسوس به نفس الكاتب من احتلامات سياسية. ولأنه لم يدرب حواسه بما يكفي لالتقاط المعنى الشاعري للوجود، بقدر ما شحذها لخدش جماليات الحياة، بات جهاز مفاهيمه لا يعمل إلا بطاقة العدوانية والحقد. وذلك هو المنطق الضال والجائر للحواس الموجهة، المتخففة من فطريتها، المطمورة تحت وابل من الوصايا والروادع والوساوس. إنه كائن يثير الشفقة لأنه حرم نفسه من مجسات الشاعرية (الباشلارية) الكفيلة بالتماس الشفاف مع النصوص، ولذلك لن يكون بمقدوره (سماع ثرثرة الأزهار على اللوحة) كما كان يتبتل بهذه الرهافة (رينيه غاي كادو) وهو ينضد أجمل الأزهار على ضفاف قصيدته.
محمد العباس الحياة - 03/03/09//
* كاتب وناقد.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الرقيب... قارئ لا يسمع ثرثرة الأزهار على اللوحة

04-آذار-2009

خلات أحمد تسرد وطناً/حبيباً لم تستيقظ منه بعد

03-أيلول-2007

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow