Alef Logo
يوميات
              

لستُ من بخلاء الجاحظ

أمل عريضة

2009-03-13


قرارٌ اتخذته بعد تأمّلٍ ومعاناة: لن أتناولَ الطعامَ في مطعمٍ سوريّ! لم تسقط حشرة في طبقي، ولم أجد شعرة سوداءَ، ولم تغدر بي الفاتورة –والغدرُ سمتها- كما يمكن أن يتوهّمَ بعضُكم. القصة باختصار: التقيتُ ببعض الصديقات في بيت الياسمين. لاتتعجّلوا وتظنوا أنّ بي حساسية للشذى، وأنّ عطاسي هرّب روّادَ المكان وأحرجني، فهذا المطعمُ ليس له من اسمه أيُّ عبقٍ، وقد تحوّلَ مثلَ كلّ البيوت الدمشقية إلى استراحة لتدخين النارجيلة. الحكاية أني فكّرتُ في تقليلِ نفقاتي وضبطِ شهيتي والاكتفاء بكأس عصيرٍ بعدما يئستُ من الحصولِ على جسدٍ ممتلئ وريّان. واحتفاءً بعودتي إلى الوطن أسهبت صديقاتي في طلب أطباقٍ عديدة من المقبلات والحلويات بالإضافة إلى وجبة الدجاج الخاصة بكلِّ واحدةٍ منّا. أدّيتُ دوري كما هو متوقعٌ منّي كامرأة نحيلة ورقيقة وعائدة من الغرب، فشهقتُ مرّاتٍ متعجبة من الكم والتنوّع، وناشدتُ مضيفاتي الاختصارَ. مع ذلك رُفعتِ الأطباقُ وهي مليئة حتى منتصفها. حققت صديقاتي المظهرَ الكاملَ للاحتفاء بي، ورفضن بإصرارٍ أن أشاركهنّ دفعَ حصتي من الفاتورة. أمّا أنا فقد حزّ في نفسي أن يفارقني طبقُ البابا غنّوج ولايجد صاحباً غير القمامة. تخيّلوا –رغمَ أنّ نقودي ظلّت نائمة في محفظتي- لم أنم تلك الليلة. أخذت أطباقُ المقبلات الشامية المطعونة والمهملة تحملقُ فيّ طوال الليل كعيون قتلى مفتوحة. أعتقدُ أنّ أشعبَ كان سيعاني أقلّ منّي وهو يرى الطعامَ المهدورَ لأنّه بالتاكيد سيجدُ طريقة للاستيلاء عليه. ردّاً على ابتساماتكم الخبيثة أقولُ: لستُ من سلالة مريم الصانع سيّدةِ الحرصِ والبخلِ عند الجاحظ. كلُّ ماهنالك أنّي فكّرت في ملايين الجائعين في العالم، وفي جهد المزارعين ومربي الماشية والطهاة وكل ّ من شارك في صناعة هذه الأطباق. في الولايات المتحدة كنا نسافرُ إلى مدنٍ أخرى بحثاً عن مطعمٍ عربيّ يقدّمُ أطباقاً لاتضاهي هذه في جودتها ومذاقها. قد تقولون إنّ السوريٍّ يعدُّ طبقَ المسبّحة أو الفول بنفسِ السهولة التي ينجحُ بها الصينيون في تركيب الساعات والالكترونيات. وهل وفرة هذه الأطباق في الوطن مبرّرٌ لهدرها؟! لقد صدعتم رأسي بسمفونية الغلاء، وجعلتني شكواكم المستمرة من جنون الأسعار، والذي فاقَ القلقَ العالميَّ من جنون الأبقار، أن أندمَ على طبق الفول العظيم الذي قدّمته لأستاذي الأمريكيّ. أما كان يمكنني أن أفاوضَه به على نجاحي أو على دعم قضايانا العربية؟!
لايتردّدُ معظمُ الأمريكيين في أن يطلبوا من المطعم تجهيز بقايا وجباتهم ليأخذوها معهم ويتناولوها لاحقا، أو ليطعموها لكلابهم المدللة، بينما يتبجح معظمنا – نحن الطواويس المنتوفة الريش- بمانتركه على موائدنا، مع أنّا تنكّرنا منذ زمنٍ لمبادئنا الحاتمية. أشعنا أنّ الطائيَّ كان حالة فردية واستثناءً، وأعلنّا تبنّينا للطريقة الأمريكية في دفعِ حساب المطعم. أي أن يدفعَ كلُّ شخصٍ قيمة ماطلبه متجاهلاً من معه من الأصدقاء أوالأقارب. وحتى لانتهم بالتأمرك عدّلنا في مواصفات المستورَد، وأضفنا إليه بهاراتنا الخاصة: التسامح والمشاركة (والمشايلة)، وقرّرنا أن نوزّعَ المبلغَ الإجماليّ للفاتورة على عدد الحضور بالتساوي متغاضين عن القيمة الحقيقية لما يطلبه كلُّ واحدٍ. هكذا وجدتُ نفسي مرّاتٍ عديدة أدفعُ ثمن كأس العصير أو طبقَ التبولة خمسَمئة ليرة مدارية غفلتي بفكرةٍ خلاّبة هي الاستمتاعُ بصحبة أصدقائي. وأعتقدُ أنّ معظمَ الأكولين بالغوا في طلب ماتشتهي نفوسُهم من أصنافٍ مدركين أنّ المعلولين المسلولين أمثالي سيدفعون جزءاً من قيمة فاتورتهم.
لايعلمُ الكثيرون أنّ معظمَ الأمريكيّين ليسوا بخلاء، وطريقتهم الفرديّة في دفع الحساب هي أسلوبٌ اختاروه لتنظيم حياتهم وتعاملهم، وهذا لايمنعهم من دعوة بعضهم في المناسبات، بل إنهم يبالغون في هذا وفي هداياهم إلى حدّ الإسراف والإرهاق أحياناً. ولاأنسى المرّاتِ التي أحضرت فيها أستاذتي في الكلية السيدة سمِث الحلوى إلى الصف قائلة بصراحة: "كان عندي البارحة حفلاً" أو "لم يحبّ زوجي والأولادُ هذه الحلوى فقلتُ لعلكم تحبونها"، حتى صرنا نذهبُ إلى محاضرتها دون فطورٍ معتمدين على كرمها ومزاج عائلتها الصعبِ الإرضاء. كانتِ الأستاذة برَين تدعو طلابها المفضلين لمقاسمتها وجبتها الكبيرة، وحين أسألها بجدية عن الوصفة تجيبني: "أرى في عينيك مكراً. تعرفين أنّ زوجي هو الذي يطبخ". وقد ارتأيتُ في عيد الشكر أن نتركَ له رسالة صوتية جماعية نشكره فيها على المائدة الأمريكية التقليدية الكبيرة التي قضى يومه في إعدادها ليرسلَها لنا.
نقرأُ في التاريخِ الأندلسيّ أنّ موائدَ الأمراء كانت تحفلُ بأطايب الطعام، وكانت العادة أن تشرَعَ أبوابُ القصورِ والحدائقِ للعامّة بعدَ أن يفرغ الأمراءُ من عشائهم، فيخلطُ الخدمُ الأصنافَ العديدة المختلفة مراعاة لمشاعرِ الفقراء الذين لم يعرفوا مثلَ هذا التنوّع في الطعام، فاشتهرَ في الأندلسِ ذاك الطبقُ باسم باقية، ومازالَ معروفاً حتى الآن في إسبانيا باسم باييا. أعرفُ أنّ بعضَ الفنادق والمطاعم في دمشقَ ترسلُ بقايا وجباتها النظيفة إلى الجمعيات الخيرية لتوزّعَها بدورها على الفقراء. لكنّ حاوياتِ القمامة التي صارت موئلاً لبعض المعدمين تدّعي أنها أكرمُ من كثيرٍ من أصحاب المطاعم وأنّها وحدها تحوي جينات الطائيّ.
لم ترمِ أمّي بقايا الطعام في القمامة، فالذي لايصلحُ لعائلتها وأقربائها وأصدقائها وفقراء البلدة يصلحُ لدجاجاتنا وبطاتنا العزيزات، وحين ضاقت ذرعاً بوجودهن كونهن لم يلتزمن بقوانين النظافة أرسلت بقايا قدورها إلى غنمات وبقرات الجيران. تعلّمتُ منها ألا أملأ طبقي بأكثر مما أحتاجُ، وأنّ البركة في مسح الصحون.
تقولُ لي أستاذتي الأمريكية: "نحن لم نحفظ النعمة بشكلٍ جيّدٍ، وصمّمنا على العيشِ برفاهية زائدة متجاهلين ملايين الجوعى في العالم، والنتيجة هذا الانهيارُ الاقتصاديّ الذي نعاني منه. إنّه عقوبة منطقية وعادلة لسلوكيّاتنا"
يرى البعضُ أنّ مجتمعنا السوريّ هو الأرقى والأكثر تحضّراً بين المجتمعات العربية، وهو أولى بالعيشِ الرغيدِ من البدو الأجلاف الذين نبعَ النفطُ من تحت أقدامهم الحافية، فمن أحقُّ منّا –نحن صانعي الحضارات القديمة- بملء حاوياتِ القمامة بالطعام؟! غابت وصايا الجدّاتِ بحفظِ النعمة. تسرّبَ الهدرُ والتهمَ أصابعَ اليسرِ والبركة. لم يبقَ غيرُ ابتهالاتي ألاّ تنزلقَ قدماي، ويجرُّني الفقراءُ الاستعراضيّون إلى الهاوية.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الممثل

26-تشرين الثاني-2010

كتاب المقارنات: حوارات تاركوفسكي أم تداعياته؟!

21-تشرين الثاني-2010

مناجاة للغائب

01-أيار-2010

لصوص الكتب

29-آذار-2010

الهاربون من الجحيم

14-تشرين الثاني-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow