Alef Logo
كشاف الوراقين
              

قراءة في "كلما اتسعت المدينة ضاقت غرفتي" لغياث المدهون

خالد سليمان الناصري

2009-04-09


دمشق قصيدة الشاعر وحياته
قارئ عنوان مجموعة غياث المدهون الأخيرة "كلما اتسعت المدينة... ضاقت غرفتي" سينخدع للوهلة الأولى. إذ ان هذا العنوان المقتبس من المقولة الأكثر شهرة للنفري "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة" سيحيلنا مباشرة على الاعتقاد بأننا أمام شاعر لا يزال معتقدا بالاشتغال على الصوفية التي استهلكتها أجيال الحداثة الشعرية العربية وما بعدها منذ بزوغها حتى الآن. لكن ما ان نبدأ بقراءة القصائد ضمن المجموعة حتى نكتشف عكس ذلك تماما.
الاستغراق أكثر في فكرة العنوان وتثبيته ضمن معادلة "الرؤيا تساوي المدينة"، و"العبارة تساوي الغرفة"، قد يقودنا إلى الدخول إلى عوالم هذه المجموعة. فقصائدها التي تمتلئ باليومي والمعيش، في دمشق المدينة، وتعرضه حزينا وميؤوساً منه، لتسخر منه بعد ذلك وتهدمه، لتعاود بناءه وتتبنى الدفاع عنه بصوت كاتبها، ما هي إلا حالة عشق غريب بين الشاعر والمدينة، ليبدو الشاعر متصوفا لهذه المدينة. هذه الحالة تصبغ قصائد المجموعة وتخلق مفردات وكائنات مثل: عربات الفول، الجيوب المملوءة، المنزل، السياح، البرد، غلاء الفرح، اليرموك، أطفال الحفر، أظفار المخيم والأونروا، واجهات المحلات، الناس والشوارع المزدحمة، النساء وفروع الأمن. يصطحبها الشاعر معه ويجيئنا بها حائرا وخائفا تارة وواثقا تارة أخرى لتصبح قصائده في جوهرها احتفاء بالمرّ من اليومي في الحياة، ووشيا مشروعا بمشروع شعري نضج وتشكل من الخبرة الذاتية الصادقة لدى الشاعر، واستطاع أن يغذيها في داخله الخاص إلى أن نمت بعيدة عن اشتراطات النمو المألوف، نموّا اصطحب معه حساسية خاصة تغذّت من خبرة الشاعر الذاتية الخاصة به، لنجد أن الحوادث التي يكتبها ويُفترض أنها لفتته، في حياته اليومية، ليست حوادث بالمعنى الحرفي للكلمة وإنما هي جزء من حادث، قد يكون مكانا، أو زمانا، أو ذاكرة لحادث حصل في ما سبق، أو فكرة لحادث لم يحدث بعد. يلتقط الشاعر هذه الوقائع بحساسية خاصة ويقودها إلى معتركه الداخلي لتصبح مولدةً لحادث آخر يحدث في داخله ويكتمل مشحونا بخبرته الذاتية ثم يخرج علينا قصائد.
صورة الفقير البردان يقف متأملا واجهات المحلات تحت المطر تتحول قصيدة عن البرد والحذاء والسلطان: "يشتهي حذاءً / وبين القدم والحذاء/ لوح زجاج شفاف/ ليس إلا./ يمر السلطان/ وبين الشعب وبينه/ لوح زجاج شفاف/ مضاد للرصاص/ والقنابل/ والمتفجرات/ الموجهة عن بعد... إلخ./ ليس إلا" (قصيدة "شفافية").
ثمة قصائد في شكل التفعيلة، التي عهدنا المدهون مشتغلا عليها في ما سبق من تجاربه، وقصائد أخرى في شكل النثر، هي أولى قصائده النثرية، والتي تشي برغبته العصية في القبض على الشعر سواء جاء متنكرا لشكل أو متنكرا به. هذه الرغبة يؤكدها تقديم الشاعر لقصائده النثرية على قصائده الموزونة غير مكترث بزمن كتابتها.
قلة من الشعراء نجوا من سحر هذا المأزق، وإذ يأتي الشاعر في مجموعته هذه موائما لمشروعه الشعري، لا متحيزا لفئة ولا متنكرا لأخرى، فهو إنما يخرج من غرفته التي ضاقت به، ليسير في شوارع المدينة التي يحب سكناها فيؤنسنها ويعاتبها ويتأمل تفاصيلها ويومياتها. وعندما تعجز دهشة الشاعر، الموسومة بالطفولية، عن تفسيرها يعود إلى غرفته التي أصبحت أكثر ضيقا ويكتبها مستفيدا على الأرجح من نصيحة الفرنسي مالارميه بأن مهمة الشاعر"لا تعتمد رسم الأشياء، بل رسم الأثر الذي تتركه الأشياء". وسواء جاءت قصيدته موزونة أو منثورة أو بينهما فهو فقط كتبها بعدما مرّت، من دون وعي منه، على خبرته الداخلية.
في قصيدته "تلميذ" يقول: "خطوةً./ طلقتين/ ثلاث سنابل/ هكذا علمته البلاد/ دروس الحماسة/ لكنه لم يقاتل".
ينجو الشاعر من الوقوع في فخ الانشغال بشكل القصيدة عن القصيدة ذاتها، ولن يجد القارئ فرقا جوهريا بين القصائد الموزونة والمنثورة سوى في الشكل، وهو ما مكّنه من لغة حرة دائما، لغة مطواعة تنثال في أي تجويف شكلي فتملأه حيرة وأسئلة فيها من القوة ما يكفي لتغيير أصعب الأشكال وأعتاها. لغته تؤسس لبلاغة بساطة اليومي ظاهرياً وعمقه جوهريا بما هو يومي، أي بصفته جوهرا قابلا للتكرار، وبتكراره هذا تتكرر اللاجدوى، رعب الشاعر الأزلي، الرعب الذي جعل الشاعر منذ الأزل يهيم على وجهه خائفا ومرتعدا يبحث عن جدوى في الأشياء، تراه يذهب إلى نهاياتها فتفزعه لا جدواها فيرجع مشفقا على العالم ويربت كتفه قائلا: غرفتي تضيق. ولا يجد مخرجا له إلا في العودة إلى بدايات الأشياء يحتفي بها بقدر حزنه عليها لأنه يعرف أنها ستمضي في التكرار وفي اللاجدوى: "والمرايا/ دفتر الوقت الذي يخفي تفاصيل/ نغض الطرف عنها/ ثم نأوي لانتحال العيش كي نحيا/ بلا ديمومة الروتين/ حين الواقع المعكوس يأتي/ نسخة لا روح فيها" (قصيدة "المرايا").
لا بلاغة لفظية شكلية إذاً، بل بلاغة لغة المعنى، التي تريد إقامة حوار مع القارئ لا إرباكه ولا إشغاله عن التواصل مع مأزق الشاعر وأفكاره.
فازت مجموعة الشاعر غياث المدهون الفلسطيني الـ67 المولود في دمشق والتي كبر فيها، مع إحدى عشرة مجموعة شعرية أخرى بمسابقة شعرية أعلنتها الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008 والصادرة عنها (بالقطع الوسط وبـ 116 صفحة)، وفيها يعرض يومياته في دمشق التي يحبها ولا تكترث، يحبها فتضيّق عليه غرفته وكلما ضاقت غرفته... اتسعَ.
خالد سليمان



تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

من الخامس عشر من آذار وحتى الخامس والعشرين من آيار

26-كانون الثاني-2010

قراءة في "كلما اتسعت المدينة ضاقت غرفتي" لغياث المدهون

09-نيسان-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow