Alef Logo
ابداعات
              

قصتان قصيرتان

يزن الحاج

2009-05-06


سهمٌ من حنين

سهمٌ من حنينٍ يمزّقُك آنَ تلجُ ظلام البيت.
تنظرُ إلى الأشياءِ المتراكمةِ حولك بفوضى، وضوءُ الغرفةِ البعيدةِ يخيّمُ عليها، مخلّفاً ظلالاً تئنُّ بحشرجةِ الكمانِ المركونِ في زاويةِ الصالة.
تمجُّ سيكارتك بعنفٍ، فيخنقُك الدّخانُ الذي يندفع إلى عينيك، وتفاجئُ نفسَك بشبحِ دمعةٍ تتراقصُ على لحيتك ثمّ تسقط على كفّك المرتجفة.
ترمُقُ السّاعةَ منتظراً تمامَ العاشرة، وقتَ انتهاءِ دروسِ الموسيقا مع الأطفال "حبايب قلبها"، كما كانت تقول لك دوماً، ثمّ تستدركُ بإحدى ابتساماتها المغرية: "بس مو أكثر منك يا حلو". ثم تندفع إلى المطبخِ لتبدأ معركتَها اليوميةَ مع المعكرونة، مجرّبةً إحدى وصفاتِها الغريبةِ.
تجلس إلى طاولتِكَ متأمّلاً تلّةَ أعقابِ السّكائر، وصفوفَ الكتبِ التي رتّبَتْها بعنايةٍ، قبل أن تخرج وهي تودّعُكَ بجملتِها الخبيثة: "اليوم ثلاثاء... حضّر حالك معلّم!"
كانت تبدأ إغراءاتِها وهي تتنحنحُ، ثمّ تقتربُ منك لتخطفَ قُبلةً من وجنتِك، وتبعثرَ كتبَكَ وأوراقَكَ: "لاحقين عالثقافة والبطيخ". تهرب إلى غرفة النوم، وهي تشيرُ إليك بالدنوّ، لينتصفَ الليلُ وأنتما تنامان في ظلّ انتشاءٍ لم يبرد يوماً. كانت تنامُ وهي تعانقُكَ.." عقارب الساعة مو أحسن مني".
تلج غرفة النوم، وترمي بجسدك على السّريرِ الباردِ. تبتلعُ حبّتي منوِّمٍ، استجداءً لإلهِ نومٍ هَجَرَكَ منذُ ارتحالهِا. تُغمض عينيك لترى أطيافاً ترقص على نَغَمِ الكمانِ المهجورِ. تحسُّ بدموعِكَ تسيلُ مبلّلةً الوسادةَ، لتترُكَكَ تطردُ الأرق، وأنت ترتعشُ بخَدَرٍ دافئ.

في ظُلمةِ القبو



ما إنْ يهِلَّ فجرُ السّبتِ، كنتُ أتعثّرُ بارتباكي في ارتداءِ ملابسِ مغامرتي الأسبوعية.
لم تكنْ أمّي تفهمُ سرَّ اندفاعي في رفْسِ الغطاءِ، وخطْفِ النّقودِ من كفِّها، وركضي لمسابقةِ لهفتي في فكِّ قفلِ الدرّاجةِ، والطّيرانِ بها عبرَ الشّوارعِ الخالية.

كانتْ مغامرةُ شراءِ الخبزِ تلك إحدى أهمِّ ألعابِ طفولتي... يتلاشى خَدَرُ النُّعاسِ مع أوّلِ دفعةٍ للدرّاجةِ، حيثُ أمدُّ رأسي متعجّلاً رؤيةَ الحارةِ التي يحتلُّ الفرنُ نهايتَها.
ربّما لمْ تكنْ لهذهِ الرّحلةِ الأسبوعيّةِ تلكَ الّلذّةُ إلا بعد أنْ شهِدْتُ ما حصلَ منذُ أسابيعَ خَلَتْ، حين كنتُ أقفُ في الطّابورِ الممتدِّ إلى الشّارعِ، أتسلّى بعدِّ الدَّرَجاتِ العشرين التي يختفي نصفها في ظلام القبو.
كانت مشاهدةُ النّاسِ وهم يلجون الظّلامَ، ثمَّ يخرجون بعد دقائقَ ملتحفينَ برائحةِ الخبزِ المنعشةِ تسليتي الأثيرةَ؛ حيثُ أقفزُ مادّاً رأسي محاولاً رؤيةَ ما يحدثُ في الظّلام. وأتوقّفُ عن القفزِ عندَ مرورِ أحدِ "الشّواربِ" بجانبي.
كان هذا هو الاسمُ العجيبُ الذي تتناقلُهُ الألسُنُ، معبِّرةً عن جماعةِ الصّامتين الذين لا يقفون في الطابور، بل يلجون الظُّلمةَ بهدوءٍ. حينها نسمعُ صوت "أبو أحمد" يصدح: "أهلين باشا... الخبزات جاهزة."
وبعد ابتعادِ "الشّاربِ" مسافةً معقولةً، يبدأُ البعضُ بالتّذمُّرِ: "خلِّصْنا أبو أحمد... مشِّي الدّور". وقد تنطلقُ بعضُ الألسنةِ بشتائمَ استعصى عليَّ فهمُها على طول تلك الأسابيعِ.
ولكنْ تلك المرّة، كان انفلاتُ لسان أحدهم قبل ابتعادِ "الشّاربِ": " هاذ مو عمل... ملطوعين ساعة عالدّور مشان يجي أخونا بالله عالبارد المستريح... مشّينا"
بدتْ تلك العبارةُ أشبَهَ برصاصةٍ أُطلقتْ فجأةً، حيث خيّمَ صمتٌ ثقيلٌ قطعه أبو أحمد مخاطباً "الشّارب":
"لا تواخذنا باشا... ناس ما تفهم".
ثم انهمر بسيلٍ من الشّتائمِ إيّاها:
"اللي ما عجبو، يروح يشتري من غير فرن... العمى... ناس ما عادت استحت."
ولكأنّما استمرَّ فعل الرّصاصةِ تلك، بقي الصّمتُ مخيّماً حتّى بعد اختفاءِ "الشّارب" تماماً، إلا من بعضِ همهماتٍ خافتة. حينها، توقّفْتُ عن القفزِ، وأخذْتُ أتسلّى بمعْسِ نملاتٍ تسلّلتْ من ظلمةِ القبو.


يَزَ ن الحَــــاج





تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

قصتان قصيرتان

06-أيار-2009

فُسحةٌ للكمان

29-نيسان-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow