Alef Logo
يوميات
              

جمهورية السلحفاة ج3 / رحلة هنيّة إلى بلاد العم سام : بين فكّيّ المطارات

أمل عريضة

2009-05-19


1
فوجئت النملة هنية بأصدقاءَ كثرٍ توافدوا لوداعها في المطار فجرَ يومٍ شتائيّ بارد. "ماأجملَ الأشخاصَ الذين نفارقهم!" همست لنفسها وقد خُيّلَ إليها أنّها لمحت طيفَ دموعٍ أيضاً في عيون موظفي المطار الدمثين، ثمّ انتبهت إلى أنّ ماأرهفَ أحاسيسهم حضورُ عروسٍ حسناء.
طافت نظراتهم بعنقها الطويل الناعم وسجدت عند شرفة صدرها المرمريّ، وقد لفه الأبيضُ كباقة من زهر اللوز. رَقوا للسحب المتكبرة في عينيها. و زفوها قرباناً لإله العالم القصيّ.
جلست هنيّة في الطائرة الصغيرة إلى جانب هذه العروس فحيّتها بلباقة. اندفعت ألمى قائلة :
" أتعلمين؟ لقد اقترحَ عريسي أن أسافرَ بلباس رياضة وحذاء مريحَين".
- أظنُّه سيجدُ الأبيضَ البهيّ مفاجأة جميلة.
تابعت العروسُ وقد فتحت علبة زينة صغيرة ومرآة وراحت تصلحُ زينتها:
"قولي لي كيف تتزوجون أنتم معشرَ النمل؟"
احمرّ وجه هنيّة من الحياء وارتعش قرنا استشعارها، وأجابت بخفوت:
" إننا زاهداتٌ ناسكات. حياتنا مكرّسة للعمل" .
-وكيف تتكاثرون؟ بغبار الطلع كالأزهار؟!
ضحكت هنيّة لخفة ظلّ العروس وأجابت:
"في مملكة الإناث التي جئتُ منها ملكتنا فقط تتمتع بحقّ الزواج".
ابتسمت عينا العروس وافترّ ثغرها دهشة وهي تسأل :
"وكيف تحصلُ هذه الملكة الطاغية على عريسٍ ذي مواصفاتٍ نخبوية إذا ً؟"!
- إنّها تصطفي عدداً قليلاً ً من الذكور النبلاء وتسمح لهم بالبقاء في المملكة.
- أيُسمح بتعدّد الأزواج في مملكتكم؟!
- الذكورُ يقيمون فقط لغاية الحفاظ على العرق والسلالة، وعادة تتخلّصُ منهم الملكة بعد إتمام المهمة.
- رهيبة هذه الشهريار! مزاجية تلهو وتعبثُ بالرجال- أقصدُ النملاء، ثم تصفيهم واحداً تلو الآخر!

2
انبعثَ صوتُ المضيفة تعلنُ بدءَ الرحلة وتذكّرُ بقوانين الطائرة.
شدّ الركّابُ الأحزمة. هدرتِ الطائرة خيلاءً. فردت ذراعيها في الفضاء، وارتفعت عن صدر المدينة منتشية، فهبطت تلك إلى العالم السفليّ حاجبة ملامحها عن الأعلى المتغطرس بملاءة سماوية رقيقة تعبرها خرافُ الغيم.
استمتعت الرفيقتان بالإقلاعِ والتحليق. أخذت العروسُ تودّعُ مدينتها بالتقاط صور لها ، بينما تسلّلت هنية من حزام الأمان دون أن يراها أحد وتعلّقت بقضبان فتحة التدفئة الصغيرة . أغمضت عينيها متأرجحة مدّة في الهواء قبل أن تناديها المضيفة لائمة.
التهمت قطعةً من الخبز وارتشفت قطرة من العسل. علّقت العروسُ: "ماألطف أكلك! لاأظنكم شعباً يموتُ جوعاً!" ابتسمت هنية وهي تعيدُ بقايا وجبتها الكبيرة إلى المضيفة متذكرة رحلات التموين في قريتها المنسية وشقاء أهلها وكدّهم طوال الصيف ليحفظوا زادَ الشتاء.
3
هبطتِ الطائرة في إحدى جمهوريات السلاحف المعمّرة حيث حصلت الرفيقتان على تذاكرِ سفرٍ إلى بلاد العم سام، وتوجهتا إلى قسم المغادرة. حملَ موظفُ أمنٍ حقيبة يد هنية التي تفوقُ حجمها مرّاتٍ، وألقاها كيفما اتفق في فم جهاز التفتيش. كانتِ الحقيبة لاتزال تعاني من دوارِ الطيران الذي عطّلَ إحساسها بالزمان والمكان، فلمّا رأت أسنانَ الجهاز المطاطية السوداء تنهالُ فوقها انخلعَ قلبها، وقد ظنت أنّها وقعت في قلب المحيط وابتلعها الحوت. سمعت دويّاً وأزيزاً غريبين، ثمّ تدفقت أمواجٌ شعاعية عاتية فوق مساحة الوعي المتبقية.
لمّا آن للحقيبة أن تخرجَ من نفق التفتيش كانت منقلبة على قفاها مبعثرة الهيئة مفتوحة الصـدار، وأوصالها تكاد تتقطّع . ضمّتها هنية بين ذراعيها بحزن، وتوجهت إلى موظف أمنٍ آخر. كانت هي الأخرى قد تعرّضت لتجربة مشابهة. ماكان ممكناً -حسب قولهم- أن تخبّئ في هذا الجسد الدقيق أيّ موادٍ ممنوعة، وهذا جنّبها الجسّ واللمسَ واللمز- لكنّ القانون قانون.
وضعوها تحت عدسة مكبرة وراحوا يتأملونها بكثير من الدهشة والانبهار! مايضايقُ هنيّة في مواقف التعارف القسرية هذه أنّ جميعَ القرون المختبئة في رؤوس البشر تحدّق بجسارة ووقاحة واستغراب في قرنيّ استشعارها.
4
أخذت تبحثُ في طيّات حقيبة يدها عن التذكرة، بينما أظهرَ موظفُ الأمن ِفي قسم المغادرة تبرّماً وضيقاً. قالت يائسة:
"لقد حصلتُ عليها منذ لحظات فقط! لابدّ أنها سقطت في جهاز التفتيش!"
- هذا الجهازُ يكشفُ المحجوبَ والمستورَ، ولن تخفى عليه مزقة من الورق. لعلّها سقطت منك في الحمّام.
- لم أدخل أيّ حمّام. أنا متأكدة أنّ ساحركم هذا اختطفها.
نظرَ إليها بحيرة. ماذا يخبرُ مخلوقة قادمة من جحور الأرض عن هذه الآلات المتطورة ؟! أخذ جوازَ سفرها وأرسلها مع موظف آخر يساعدها في الحصول على تذكرة ثانية.
ماكادت تدفع الخمسين دولارا التي طلبها موظفُ التذاكر حتى راح مرافقها الموكلُ بمعالجة المشكلة يتجادلُ معه في أمورٍ شخصية تافهة غافلَين تماماً عن وجودها. قطعت سجالهما قائلة: "أرجوكما! طيارتي على وشك الإقلاع ، وأنا بحاجة للتذكرة!"
لكنّ الجدالَ تحوّلَ إلى شجارٍ حاد. أخذت هنية تذرعُ الأرض بينهما ذاهبة آيبة دون أن توفق مساعيها المخلصة في إحلال الصلح والسلم. كان السفرُ قد جيّشَ عواطفها، فلم تحتمل مواجهة عراك وصدام فانفجرت بالبكاء.
لاحظ الموظفان أنّ غباءها أكبر من احتمالهما، فاضطرّا إلى تغيير الخطة. قال موظفُ التذاكر بحدّة:
"ألا ترين أني مشغول؟ لماذا عليّ إضاعة الوقت بإصدار تذكرة ثانية لك ؟ كيف أضعتها ؟"
-جهاز التفتيش اختطفها
- كلامك خطيرٌ ياآنسة! أتتهمين أجهزتنا بالإرهاب ؟
- والله ماقصدتُ شيئاً من هذا! لكن أنت تعلم.. الجهازُ مذكّر والتذكرة أنثى.. و..
مطّ الموظف عنقه وراح يحدّق فيها باهتمام.
- أرجوكَ... طائرتي على وشك الإقلاع!
تدخل مرافقها قائلا: "يمكنني أن أتوسّطَ لك عنده إذا أردت.. إنّه صاحبي".
تمكّنت هنية من خداع هذا الأخير الذي أصرّ على حمل التذكرة لها مدعية طوال طريق العودة البحث في حقيبتها عن دولارات إضافية يحلم بها. ماإن وصلت إلى الموظف الأول حتى سحبت تذكرتها من يد الثاني شاكرة له نبلَ أخلاقه ومابذله من عناء ومشقة في حمل تذكرتها.
في تلك اللحظة تشنجَ جهازُ التفتيش وارتجفَ ثمّ لفظ تذكرتها الأولى من شدقه، فوقعت إلى الأرض مجعدة الوجه دائخة. هتفت هنيّة بفرح:
"أرأيتم؟ قلتُ لكم إنّ جهازكم عبث بحقيبتي. هلاّ أعدتم لي الخمسين دولارا من فضلكم؟"
- بالتأكيد سنعيدها... لو كان هناك وقت، لكنّ طائرتك على وشك المغادرة. هيّا أسرعي.
5
جلست هنية في الطائرة الكبيرة إلى جانب سيدة تجاوزت الثلاثين من عمرها ذاتِ ملامحٍ طيبة ونظرة حزينة. قدّمت لهنية علكة بالنعناع قائلة بلهجة لبنانية:
"هيدا بخفف الضغط عن أدانك... بقصد قرونك".
زوجُها الأسمرُ النحيل كان يغطّ في نومٍ ثقيل، وطفلتهما مشغولة بلعبة إلكترونية راحت تأزّ مسبّبة الصداعَ لهنية. مرّ الوقتُ بطيئاً. حاولت أن تشعلَ النارَ بروحه. فركته بديوان شعرٍ، لكنّه لم يتوهّج . أحالته قوانينُ الطائرة إلى رمادٍ كابٍ . رفعت النملة نفسها خشية أن يطمرها الرمادُ. قفزت بين فتحات التدفئة وتجوّلت بين رؤوس المسافرين. كانت بعضُ النساء يتبادلنَ الزيارات، ويثرثرنَ في ممرّات الطائرة أثناءَ ذهابهنّ إلى الحمّام . أطفالٌ يبكون وآخرون يرسمون ويلوّنون. رأت صديقتها العروس مافتأت تلقي رأسها إلى مسند المقعد مغمضة عينيها ناشدة النوم، بينما تصرّ جليستها العجوزُ أن تستمتع بصحبتها فترشقها بسؤالٍ تلو الآخر. نظرت ألمى إلى هنية بتوسّل ، فغمزتها هذه بعينها ضاحكة.
كانت هنية قد أمضت سنواتٍ بين البشر تعلّمت فيها أن تسلكَ بما يناسبُ الإنسانية المتحضرة. وكونها سليلة عرقٍ يوصَفُ بأنّه اجتماعيٌّ ومتعايش وجادٌّ وصبور فقد استطاعت تطوير مهاراتها وقابلياتها متخلّصة في الوقت نفسه من صفات التطفّل والنفعية والقبلية التي تغلبُ على مجتمعها النمليّ. مع ثراءِ تجربتها وتنوّعها عرفت أنّ التهذيبَ ليس نزعة عند الإنسان، وأنّ هذا المخلوق المتطوّر جداً كثيراً مايخرجُ عن تحضره فيشعلُ حرباً أو يثيرُ عراكاً أو يدبّرُ مكائدَ ومصائدَ لمنافسيه. وهكذا لم تشعر بالحرجِ وهي تنملُ في رأس العجوز لتصلَ إلى عنقها الشاحب المترهّل فتشبعه وخزاً وعضّاً.
6
تابعت هنية عبرَ الشاشة الإلكترونية خطَّ سير الطائرة . كان السهمُ يخترقُ مساحة زرقاء كبيرة، وكلّما سار فيها فردت له بساط زرقتها وجادت بالمياه. هي فوق المحيط منذ ساعات ولم تدرِ! كم فاتها من اللعب والمرح والمغامرة. أسرعت إلى النافذة ترقبُ المشهدَ تحتها. لم ترَ زرقة المياه اللامتناهية. كانت آلافُ السحب البيضاء قد احتشدت وامتدّت كحقلٍ من أزهار القطن. أغمضت هنية عينيها وألقت بروحها إليه. تهادت خفيفة في كلّ اتجاه قبلَ أن تغوصَ برغوة السحاب. ملأت صدرها بالهواء النقيّ ونفثته في الرذاذِ، فتطايرت الفقاعات الشفافة حولها وتراقصت على إيقاعاتِ لحنٍ خفيف ينبعث من واكمان معلّق بقرنيها.
سرحت بعيدا متخيلة رحلة السندباد البحري على بساط الريح. دقّت بكعبيها أجساد الغيوم الريّانة ففارت من مساماتها لآلئٌ نضرة وتدفقت شلالات النعمة الإلهية. ماكادت رقصة الماء والحياة تنتهي حتى ارتعشَ قرنا الاستشعار طرباً وابتهاجاً لشيءٍ آخر غير الموسيقا.
لفها بخارُ الطعام الساخن، وأيقظت الرائحة الزكية شهيتها. عادت إلى كرسيها في الطائرة، وفتحت عينيها تتأمّلُ طبق الدجاج بالفطر والبشميل الذي تحبه. جارها اللبناني أيضاً صحا من نومه يتلفتُ بقلقٍ يمنة ويسرى. بادرته طفلته:
" بابا.. أنا خايفة من البحر! هذا أكبر من بحر بيروت".
ردّ وهو يبتسمُ بعصبية وشماتة وتشفٍّ:
" وهل رأيت شيئاً بعد؟! ستسقطُ الطائرة في المحيط ويفترسك القرش وتسعدُ أمّك الحالمة بأمريكا! "
تبادلت الزوجة وهنية نظراتٍ باسمة وتابعتِ الأولى مضغ سمكتها المشوية بعد أن دسّت في فم زوجها حبّة منوّمٍ جديدة. ابتلعها باستسلام وعاد إلى كوابيسه. كان للزوجة أيضاً كوابيسها وكانت هاربة من شبح حربٍ أهلية ثانية.
تتالي الوجبات جعلَ هنية تنظرُ إلى ساعتها بدهشة. ستّ عشرة ساعة مرّت منذ ودّعت الشمسَ في مشرقها، مع ذلك مابرحتِ الوردة الذهبية تسطعُ في قبّة السماء! هو السفرُ عكسَ الزمن إذاً! أرجعت عقربَ ساعتها الصغير سبع دوراتٍ كاملة ليتآلف مع توقيت شيكاغو الذي ظهرَ على الشاشة.
7
ماإن هبطتِ الطائرة وراحت تدرجُ فوق الأرض حتى أيقظت الأرزة الصغيرة أباها:
" بابا بابا.. وصلنا أميركا. فكّ الحزام".
قفزَ الرُهابيّ من كرسيه وأسرعَ يغادرُ الطائرة ناسياً زوجه وطفلته وحقائبهما الصغيرة. ركضت هنية لتجدَ لنفسها موطئ قدم بين مئاتٍ وقفوا صفوفاً وأرتالاً متزاحمة ينتظرون تسجيلَ دخولهم إلى بلاد العم سام. كان عليها أن تنتظر ساعتين بين هذه الجموع الغفيرة بانتظار دورها.
راقبت موظفي الهجرة وقد جلسوا في غرف زجاجية أشبه بصناديق بلا أغطية تعزلهم عن فضولِ المسافرين وتمكنهم -بحسب تصوّرِ أبناء الخوف القادمين من الشرق- من افتراس قلوبهم الجزعى واحداً بعد آخر.
شعرت هنية - وقد أنهكتها الرحلة - أنّ غيبوبة راحت تمدّ موجها الضبابيّ فوق عقلها وحواسها، وتراءت لها صورة موظف أمنٍ حليقِ الرأس تماماً ينادي بصوت أجشّ صارم النبرة اسمَ ألمى. كان لفظه لحرفيّ الألف واللام عريضاً وعميقاً جداً فلم تميّز الاسمَ لولا أنّها رأت صديقتها تمضي إليه كالمنوّمة.
رمقت بإكبارٍ وإعجاب تقديرَ أبناءِ العم سام لرهافة العروس المتعبة، حيث تأبّطَ ذراعيها ضابطا أمنٍ ورافقاها خارجاً. فكّرت هنيّة أنهما يزفانها إلى عريسها، ولمّا أتيحَ لها أن ترى جانبَ وجه ألمى فوجئت بحالة غضبٍ أخرس تملّكت ملامحها. لم تفهم ماحدثَ، ولم يطل تفكيرها إذ سرعان ماسمعت موظفاً آخرَ يردّدُ اسمها بخفة. كان شابّاً دون الثلاثين من عمره أشقرَ الشعرِ وسيماً يدندنُ بأغنية ذات لحنٍ لطيف، ويبدو مستمتعاً بأداء عمله أو مبتهجاً لسبب ما. تنهّدت بارتياحٍ وحمدت ربّها كون الحظ مازالَ يحالفها ويرسلُ لها بعضَ الأشخاص الودودين. سألها مبتسما:
" كنتِ مدرّسة... هه؟"
- نعم يا سيّد.
- الشياطينُ القرودُ... كيف تعاملتِ معهم؟
- لاتذكّرني!
- أعرفُ. تورّمت يداك من كثرة ماضربتهم على أقفيتهم.
ضحكت وذهبت تبحث عن حقائبها في الجهة التي أرشدها إليها. وجدت واحدة في الشرقِ ورحلت نحو الغربِ زمناً لتعثرَ على الأخرى. وضعتهما على عربة، وألقت حقيبة يدها إلى جانبهما والمعطف فوقهما، وسارت بلا وعي إلى أن أوقفها موظفٌ آخرُ طالباً منها تركَ الحقائبَ ليقوموا بنقلها إلى الطائرة المغادرة إلى ديترويت.
8
في قسم جمهورية السلحفاة الملكية للطيران طلبت موظفة التذاكر جواز السفر. فوجئت هنية أنّ حقيبة يدها ليست معها. تابعت الموظفة:
"تأخرت في الوصول إلى هنا. الطائرة ستغادر خلال نصف ساعة".
أصيبت هنية بصدمة. لم يكن لديها أدنى فكرة عن مكان الحقيبة. عادت أدراجها تبحث في الممرات وعلى السلالم. لم تجد أثراً لها. صادفت بعضَ رفاقِ الطائرة. سألتهم إن كانوا رأوا محفظتها. أجابوا بالنفي. وأضافت إحدى السيدات:
" إنّهم يحتجزون اللبناني الأسمر النحيف منذ ساعاتٍ. زوجته المسكينة لاتعرف هل تنتظرُ هنا أم تركب الطائرة وتغادرُ مع الطفلة"
لم تتملَّ هنية الكلمات. كان لديها مايشغلها. سألت بعضَ الموظفات عمّا يمكن أن تفعله للعثورِ على محفظتها. انهمرت فوق حواسها المخدّرة شظايا من جبال الصقيع:
متجمّدة أولى: "هذه ليست مشكلتي".
متجمّدة ثانية: "أنت من أضاع الحقيبة ولستُ أنا."
متجمّدة ثالثة: "لاوقتَ لديّ للعناية بحقيبتك."
توقفت عن الجري العقيم لتفكّرَ وتتذكّرَ خطواتها السابقة. لقد فتحت الحقيبة لتأخذ منها قلماً وتملأ استمارة في قسم التسجيل. فتحتها مرّة أخرى لتناولَ الموظفَ اللطيفَ جوازَ سفرها، وقد أعادته إليها. ألقتها جانب الحقيبتين الكبيرتين على العربة. حملت المعطف و تركت العربة عند البوّابة. و... وعصفَ بها خوفٌ هستيريّ. عادت تركضُ في اتجاهات شتى وقد نسيت مكان البوّابة ورقمها. جرت بجنون إلى أن رأتها أمامها. أوقفها موظفٌ داكنُ السمرة:
"هه ... أنتِ! لايمكنك التسلّل من هذا الباب مهما كنتِ دقيقة الحجم."
ردّت باندفاعٍ شديد:
"لقد نسيتُ الحقيبة في جواز السفر، وجواز السفر على وشك الإقلاع، والتذكرة عند الموظفة، والموظفة تريدُ الحقيبة."
قهقه الموظفُ ضاحكاً:
" على رسلك... واحدة واحدة. مالونُ الموظفة ؟ عفواً... أعني الحقيبة."
- الحقيبة بنية وجوازُ السفر كحليّ والطائرة والتذكرة لم أرهما بعد.
- أتعاني حقيبتك وجوازُ سفرك من التمييز العرقيّ والضياعِ مثلي؟
- لا يا سيّد. الحقيبة ماركة لي كوبر، والجوازُ يعاني قليلاً من بعض الحظر، لكن ليست هذه المشكلة. الجوازُ في الحقيبة، وهي خلفَ هذا الباب، وعليّ اللحاق بها قبلَ أن تذهبَ إلى الطائرة.
-فهمت. بأيّ طائرة جئتِ؟
-السلحفاة الملكية. وهي ستغادرُ الآن.
- حسناً حسناً. انتظري مع هذا الموظف إلى أن أعودَ. لاتتحرّكي.
انفتحَ البابُ السحريّ له وأغلقَ خلفه في سكون.
9
نظرت إلى الموظفِ الآخر راجية أن تلقى عنده تعاطفاً يهدّئ روعها . كان في أواخر الخمسينات من عمره ضخمَ الجثة أحمرَ الوجه وزرقةُ عينيه كقلب المحيط. حاجباه الكثيفان بدا غريبين في حركتهما المستمرة مدّاً وجزراً . بادرها مهدّداً:
"إن تحرّكتِ سأعتقلكِ!"
جحظت عيناها في رعبٍ وانفغرَ فوها، ثمّ تذكّرت أنّها بلا جواز سفرٍ فارتاحت خطوطُ وجهها متفهمة سبب احتراز الموظف. أخذت مئاتُ الثواني تغرزُ عقاربها في دماغها. هجمَ عليها فجاءة الفزعُ والرعبُ. ماذا لو طارت المحفظة وبقيت هي على الأرض؟ أين تقضي ليلتها بلا أوراق ثبوتية أو نقود؟ وإن غافلت عمّالَ التنظيفات ونامت على أحد المقاعد مايكونُ مصيرها غداً؟!
وكأنّ ذاك الكهلَ الماكرَ النظراتِ سمعَ أسئلتها فأجابها متطوّعاً:
" كانت المطاراتُ في العادة تقذفُ خارجاً من لايحملون أوراقَ ثبوتية. أمّا الآن فالدولُ تسعى لملاحقتهم ومعرفة أحلامهم وخططهم السرية، وحتى محطات الأخبار باتت تتبارى في عرض سيرهم والتنبّؤ بمدى خطورتهم".
همست هنية لنفسها: "ياويحي! لِمَ ينظرُ إلى قرنيّ استشعاري بريبة ؟!"
أجابها بسؤالٍ جديدٍ كــادَ يشلّها : "مامدى فاعلية آلاتِ الرصدِ والاستشعار هذه؟ هل تستخدمينها للاتصال بمراكزَ بعيدة ؟"
- أقسمُ لك إني بالكادِ استعملتهما في السنتين الأخيرتين. وحتى قبل ذلك كان عملهما منحصراً بتحذيري من اقتراب عدوّ!"
- أيّ نوعٍ من الأعداء؟ الأحمر أم الأخضر؟
- ليس للألوان شأنٌ بعداواتي. على وجه العموم أعدائي حشراتٌ وحيوانات. وكنتُ أرسلُ لأهلي رسائلَ إنذارٍ بواسطة قرنيّ هذين.
- رسائل شفهية أم مطبوعة أم الكترونية؟
- صدّقني إنّهما مجسّا رصدٍ وإنذارٍ بريئين. لم يبثا في حياتي كلّها أية رسائل أو إشارات سياسية.
لم تتصوّر هنية أن تجدَ نفسها واقعة في شركٍ كهذا. بذلت مجهوداً كبيراً لتنقي أجوبتها مما قد يلتبسُ معناه، لكنّ أعصابها المرهقة كانت تذوب وتنحلُّ تحت الضغط عاجزة عن المقاومة والاستمرار. حرّكت أرجلها لتتخلّص من حالة التوتر. انقبضَ وريدٌ في رجلها الأمامية مثيراً ألماً حادّاً وخانقاً. في تللك اللحظة أقبلَ الموظف الأولُ حاملاً محفظتها يرافقه موظفٌ شاب قدّم نفسه بأنّه من رعايا السلحفاة الملكية، وأخبرها بدوره أنّ طائرتها ستقلعُ خلال لحظاتٍ وسيعملُ على أن تكونَ فيها. شكرت الأسمرَ الطيبَ بحرارة، فهتفَ مبتسماً:
"أسرعي. أمامكما مضمار جري ليس هيّناً!"
ناداها الموظفُ العملاقُ:" شكراً ياآنسة. سلَّيتني بحديثك حقّاً".
هتفت في أعماقها: "يابن الكلب. قتلتني خوفاً!".
10
راح ابنُ السلحفاة المثابرُ يعدو أمامها ويستحثها على الإسراع عابراً الممرات والبوابات كسهم يعرف جهته ، وكانت هي تلهث خلفه. سمعت صوتاً ناعماً يقول بحدّة:
"هو اسمي لكن لاعلاقة لي بالإرهاب "
خيّل لهنية أنّها تعرفُ هذه النبرة. التفتت مسرعة لتفاجأ بألمى مقيّدة اليدين والضابطان يصطحبانها قسراً إلى مكانٍ ما.
اضطربت أحاسيس هنية بين الذهول والإشفاق لمشهد العروس المعلّبة والمنتهية الصلاحية. كان تاجها الماسيّ مائلاً إلى جانب رأسها جارفاً الملاقطَ السوداء ومفسداَ التسريحة الأنيقة. كحلة العينين سالت أيضاً فوق الوجنتين واختلطت مع الأحمر والأزرق مشكلة لوحة تشكيلية غامضة الدلالة. أحسّت هنية بدوار يخضّها ويحرّك أمعاءها، ورأت فكّيّ كماشة كبيرة يطبقان على رأسها. أمسكت صدغيها بيديها وأنّت. شعرت بحاجة ملحّة للذهاب إلى الحمّام، لكنّ رفيقها صرخَ بها من أعلى السلّم: "لماذا توقفت؟ لاوقتَ لدينا!".
تبعته مسرعة. سمعته يجري اتصالاً بواسطة هاتفه الجوّال محاولاً تأخير إقلاع الطائرة دقائقَ أخرى. تجمّدت مكانها لحظاتٍ. بدا لها أنّ العالمَ كلّه سلالمُ كهربائية صاعدة نازلة ببطءٍ أصمّ إلى مالانهاية. تمنّت لو أنّ الهدهدَ يطيرُ بها أو يردّها في غمضة عين إلى بلادها. بالكاد لامست أقدامهما بعض الدرجات المتحرّكة. أخذا يثبان فوقها متحدّيين رتوبها البليد. حصلا على تذكرة وعاودا الجريَ اللاهثَ إلى أن وصلا إلى المحطة قبل الأخيرة.
وضعت محفظتها في صندوقٍ بلاستيكي أحمر وتركتها تذهبُ إلى مصيرها في جهاز التفتيش. كان عليها أن تخلعَ أحذيتها وتضعها في صندوق آخر رماديّ .
رمقها المثابرُ بعتبٍ ولومٍ وهي تفكّ أربطة أحذيتها فردة إثرَ فردة... ستّ فردات ألقتها بعصبية في الصندوق الذي سار على مهلٍ إلى قبره. مرّت من غرفة زجاجية صغيرة - قيلَ لها فيما بعد إنّها مزوّدة بجهازٍ قادرٍ على النفاذ عبر ثيابها والتقاط صورة لجسدها العاري للتأكّد فقط أنّ كلّ نتوء أو تدوير هو ظاهرة طبيعية وليس قنبلة. لم تطمئن إحدى الموظفات إلى نتائج امتحان المحفظة، فراحت تتفحّص محتوياتها ببرود مثير للأعصاب. اصطادت زجاجة صغيرة تحتوي زيتاً هلاميًّاً اعتادت هنية أن تلمّع به قرنيّ استشعارها.
11
عند النفق الموصل إلى باب الطائرة. سلّمها المثابرُ جوازَ سفرها وتذكرتها وحيّاها مودّعاً. أرادت أن تقبّله، وودّت لحظة لو جلسا عند باب النفق يستريحان. تعيدُ ربط أحذيتها ويتحدّثان كصديقين حميمين، لكنّ جوفَ الطائرة كان ينذرها بانّه سيقفل في وجهها إلى الأبد.
لم يزعجها أنّ جناح الطائرة منعها من وداع ليل شيكاغو. غادرتها غير آسفة على فراقها. أغمضت عينيها واستسلمت لحظاتٍ لسكون عذب.
هبطت في مطار ديِترويت عند منتصف الليل. كان التعبُ والمغامرات المتلاحقة قد استنزفا بقية وعيها، لكنّ البوّاباتِ كانت منظمة جيداً، والإشاراتِ واضحة ودقيقة ، فسارت هنية دون مشقة أو عناء.
حملت حقائبها بهدوءٍ وغابت في قلب دِترويت.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الممثل

26-تشرين الثاني-2010

كتاب المقارنات: حوارات تاركوفسكي أم تداعياته؟!

21-تشرين الثاني-2010

مناجاة للغائب

01-أيار-2010

لصوص الكتب

29-آذار-2010

الهاربون من الجحيم

14-تشرين الثاني-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow