Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

الحياة في ظل الحرب : سيراليون 1997 / بقلم : شيماماندا نغوزي أديشي: ترجمة

صالح الرزوق

2009-05-23


حل يوم السبت من عام 1984 . كنت ألعب مع شقيقي الصغير شينيشوكوو في موسم تفتح الأزهار، قرب خزان الماء في المجمع السكني الواسع في نسوكا : مدينة جامعية مغبرة و هادئة تقع في شرق نيجيريا حيث كنت أعيش. وقفت الوالدة قرب الباب الخلفي و قالت : " Bianu kene mmadu" . هيا تعالا و ألقيا التحية على الزائر. كان خادم البيت الصغير قد وصل. و كان يجلس على الكنبة في غرفة المعيشة ، وكانت ساقاه تحضنان حقيبة من البلاستيك الأسود التي وضع فيها أشياءه الشخصية.
قال شينيشوكوو : " مساء الخير " ، و قلت :" Nno " ، أهلا.
لاحقا ، و بعد أن قادت الوالدة فيدي إلى حجرته ، في إيوان الصبيان القائم خلف البيت ، أخبرتنا تقول : " جاء فيدي من القرية و هو لم يشاهد في حياته الهاتف و لا فرن الطهي بالغاز. لنتكاتف جميعا و نساعده على الاستقرار باطمئنان ".
أمعنت النظر بفيدي و أنا مأخوذة به. خادمنا السابق ، الذي غادر في الأسبوع المنصرم بعد أن سرق بعض النقود من مكتب الوالد ، كان كما نعلم من المدينة ، و كان أحيانا يقوم بإصلاح الستيريو . و لكن فيدي لم يشاهد طوال عمره ثلاجة.
كان لونه غير قاتم ، و شفتاه سميكتين و عريضتين حتى أنهما احتلتا مساحة واسعة من وجهه. و هو يتكلم بلهجة الإيغبو الريفية التي لم تتأثر بالإنكليزية ، كما هي حالنا ، و كان يمضع الأرز و فمه مفتوح – بمقدورك أن ترى الأرز ، مطحونا مثل الحبوب القديمة ، إلى أن يبتلعه. و إذا رد على الهاتف ، يقول : " انتظر " كما علمناه ، و لكنه سرعان ما يرمي السماعة فوق الجهاز. و كان يغسل ثيابنا في أحواض معدنية ، ثم يكومها على الحبل المشدود بين شجرتي مانغا و جوافة في الباحة الخلفية. و هذا يستغرق منه ساعات طويلة. أول الأمر كانت الوالدة تعنفه بصوت مرتفع و تقول : " لا تقطع عملك لتتأمل السحالي التي تمر بك !" و لكن سرعان ما تتركه وحيدا حتى ينتهي.
جلست أنا و كينيشوكوو على السلالم بينما هو ينجز عمله. في المساءات الحارة حينما تكون الشمس بلون التوباز و هي تنعكس على زجاجيات المطبخ ، كان فيدي يقص علينا حكايات عن الطيور – حكايات شعبية فيها تحلق العصافير إلى عنان السماء و تطلب من الله المطر ، ثم يخبرنا بقصص عن الطبيعة و كيف تبني العصافير أعشاشها من الشعر الذي تجمعه من باحة كوخ الحلاق في القرية. قال : " بوسعي أن أقبض على بعض العصافير من أجلكما ". ثم ألقى على الأرض فتات الخبز بخط غير مستقيم بدأ من حاوية النفايات في الخارج ، و على طول السلالم التي تقود إلى البيت، و عبر الباب الخلفي ، حتى وسط المطبخ. و كمن خلف الباب. و لدى وصول العصافير إلى المطبخ ، أغلق الباب و اندفع وراءها. و ذات مرة ، حطم بعض الأواني ، و في مرة أخرى ، مزق شبكة البعوض الي تسد النافذة ، ثم بعد ذلك كسر زبدية. و لكنه كان دائما يلقي القبض على العصافير.
كان يضعها في علب كرتون مثقبة لنتسلى بها ، و كنا نطعمها الخبز و الغاري ( 1 ) . ماتت الصافير بعد يوم أو إثنين. واحد منها استمر معنا أربعة أيام. و حينما مات أخيرا ، أمسك فيدي بالهيكل و الريش و قال ، على سبيل الفكاهة : " إنه في السماء الآن ، و يتسول الخبز من الله ". بعد سنوات ، و بعد أن توفي فيدي ، لا زلت أفكر بما يلي : " عصفور يبسط جناحه القوي و يسأل الله من أجل الخبز ".
و غالبا ما كانت الوالدة تشتم فيدي. كم هي مبدعة في إهاناتها بلغة الإيغبو. كانت تقول إذا استغرق في واجباته فترة طويلة : " أنت كسول بدين ، nnukwu esu" و إذا نسي أداء عمل آخر طلبته منه ، تقول : " انظروا إليه ، ike akpi ، مؤخرته مثل قفا العقرب ". و لكن إذا كذب تقول : " لتأكل الكلاب عينيك !" . و كانت تطلب من فيدي أن يبدأ بطعام الغداء بعد العصر لأنه يهدر الوقت في تناوله - فالتهام عجينة الأرز وحدها تستغرق منه أربع ساعات كاملة. و لا تزال ذكرى أمسية في الذهن. كان فيدي عند منضدة فورميكا في المطبخ ، و يقشر حراشف سمك التلابيا بسكين . كان يقوم بالعمل ببطء متعمد – يقشر ، و يتنفس ، يقشر و يتنفس. و كانت هناك حراشف شفافة على ذقنه و على ذراعيه و على الأرض. قلت له : " أنت تستغرق الدهر كله في هذه المهمة " ، فقال فيدي : " هذا يشبه تجهيز جثمان لجنازة . لا بد من متسع في الوقت لتأدية العمل كما يجب " ، كانت نكتة ، و أغرق بعدها بالضحك. و لكن ، بعد أن لاقى منيته ، خطرت لي الفكرة ذاتها أيضا. هذا صحيح.
انتسب فيدي لمدرسة خاصة ، أكاديمية السكرتاريا العالمية ، و هو اسم كبير لبناية صغيرة فيها أربع حجرات و آلة كاتبة لحق بها الصدأ ، و بعض الاختزالات. كتب فيدي بخط أسود بارز على كتبه ، تحت اسمه " فيدي أبوناي " ، الحروف التي يعتز بها : " U. S . A . ".
و حينما استعار أشقائي من أصدقائهم أشرطة مسجلة ، لأفلام أمريكية ، شاهدها فيدي معنا.
حينما كنا نستعير الكتب من المكتبة ، كان فيدي يمسكها و يحرك شفتيه. و عنما قام انقلاب عسكري في لاغوس البعيدة ، وضع والدي المذياع على طاولة الطعام و انضم إلينا فيدي بينما نحن مجتمعون حولها و أصاخ السمع لبيانات يتلوها أحدهم بالإنكليزية إنما بلهجة سكان شمال نيجيريا ، و كانت تقاطعها ألحان حزينة لعزف عسكري. وقع الانقلاب عام 1993 في يوم حار و عاصف. لقد أمسك الجنرال ساني أباتشا بزمام الحكم.
و حينما قال : " أبناء شعبي النيجيريين " ، كنا في غاية التأثر و البلادة.فالإعلان عن انقلاب عسكري يجعلك خاملا : بسبب عدم لقدرة على الاختبار ، و غياب فرصة الاختيار أصلا ، و حقيقة أنك تتلقى الخبر من باب العلم بالشيء فقط ، و حتى لا تشعر بالدهشة عندما تشاهد صورة أخرى على جدران المطارات و المكاتب الحكومية. ثم لأنه ليس بمقدورك أن تفعل شيئا إزاء ذلك.
بالعادة " تبدأ حياة " ولد خادم أو بنت خادمة بعد أن تكون الفرصة قد سنحت له أو لها بقضاء فترة معقولة بصحبتك.
كان فيدي معنا لإثني عشر عاما. و عندما سأله والداي ماذا يرغب أن يفعل بعد أن يتركنا ،كانا يودان أن ينوي متابعة دراساته في قسم السكرتاريا. و لكن فيدي أعلن أنه يفكر بالانضمام للجيش ، و لقد فعل ذلك.
في أول الأمر كتب لنا رسائل حارة ، و أرسل لنا الصور و هو بثياب مبرقعة و بين يديه بندقية طويلة و براقة . كان يخامره شعور الاعتزاز ببوطه ، و كتب كيف كان يلمعه بدهان الكيوي ، نفس الطريقة التي دهن بها الأحذية التي يلبسها الوالد أثناء محاضراته. كان خط يده بالكاد صالحا للقراءة ، و إنكليزيته مضحكة. قال : " الجوع يقتلني " و كتب عن الحالة الوضيعة للثكنة. و كتب أيضا حول عدم دفع الرواتب. و بالتدريج ، تباطأت الرسائل. ثم في رسالة مستعجلة ، كتب أن من المحتمل أن يغادر إلى ليبيريا ، كجزء من الفوج النيجيري لحفظ السلام. كانت الحرب الأهلية تعصف هناك. كان الناس يسلخون من جلودهم و هم على قيد الحياة. هكذا ورد في رسالته. كان الناس يستدرجون إلى حتفهم .
قال الوالد : " لا أظن أنه سيسافر إلى ليبيريا. و سوف يكون على ما يرام".
لم يذهب فيدي إلى ليبيريا. و بعد شهور ، وقع انقلاب عسكري في سيراليون. قرر الجنرال ساني أباتشا ، الذي يغتال النشطاء بشكل روتيني ، و الذي يغلق وسائل الإعلام بشكل روتيني ، و الذي يعتقل و يسجن المعارضة بشكل روتيني ، إرسال القوات المسلحة إلى هناك ، لاستعادة الديمقراطية.
و حينما أخبرني الوالدان أن فيدي مات – لقد انفجر به لغم أرضي في سيراليون ، في 3 أيلول ، 1997 – ألقيت نظرة ثاقبة عليهما ثم شرعت أبتسم لأنني توقعت أنهما مخطئان.
سألت : " أي فيدي ؟". كأنني أعرف أكثر من فيدي واحد.
قالت الوالدة : " فيدي الذي كان معنا ". و تلك الكلمات لم تغادر مخيلتي أبدا ، لأن اللوعة ضمتني ، و أدركت على الفور كم كانت تلك الكلمات بليغة. فيدي الذي كان معنا. لقد كان فيدي منا.......

هوامش مترجم :

1 - غاري : نوع من الطعام الذي يحضر من الكسافا.

شيماماندا نغوزي أديشي : من مواليد نيجيريا في 15 أيلول عام 1977 . حازت على ماجستير من جامعة كونيكتيكيت في الدراسات الأفريقية. و ظهرت أول رواياتها عام 2005 بعنوان ( الأقحوان القرمزي ) ، و بعدها رواية نصف شمس صفراء عام 2007 . و في هذا العام تظهر لها مجموعة من القصص القصيرة بعنوان ( عقد حول رقبتك ). يعتبر صوت أماندا أديشي مفعما بالحيوية و النوايا الفطرية ، و هو يشكف الغطاء عن عمق الانقسام بين العقل و الروح في قارة صامتة و منغلقة على نفسها ، و ضائعة بين عدد من الاختيارات كالأصالة و الحداثة ، الدين و الوثنية ، العنف و السلام إلخ...

المصدر :

Life During Wartime: Sierra Leone, 1997 by Chimamanda Ngozi Adichie , The New Yorker , JUNE 12, 2006.


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow